كل عام وأنتم بخير، سبعون عاما مرت على ذلك اليوم الأغر، يوم 23 يوليو، حينما قامت حركة الضباط الأحرار معلنة ولادة مرحلة جديدة في حياة الأمة، في حياة مصر والأمة العربية، مرحلة جديدة على المستوى الأممي مختلفة عن تلك التي تخلفت عن الحرب العالمية الثانية وقسمت العالم إلى قطبين.
ما نحن فيه من هوان، وانقسام، وتبعية، وذل أمام القوى الغاشمة، “القوى الامبريالية، الصهيونية، والقوى الطائفية العنصرية، والقوى المستبدة الفاسدة القاتلة”.
ما نحن فيه من انقسام وأطان وتشرذمها، ومن تفتت شعوب وتحولها إلى أطياف لاجئة في كل أصقاع العالم، ومن تدمير ذاتي تحققه أنظمة غاشمة متألهة.
ما نحن فيه لا يؤكد عظمة ذلك اليوم، وعظمة تلك الثورة فحسب، وإنما يؤكد قبل ذلك عظمة هذه الأمة وهذا الشعب الذي يبسط وجوده على امتداد المساحة التي تغطي بين المحيط والخليج.
فقد استقبل أمتنا ثورة 23 يوليو بثقة وتفاؤل وتفاعل، واستمر في حالتها هذه على مدى ثمانية عشر عاما هو عمر الثورة قبل أن يتم خطفها، بانقلاب مقيت وضع الأمة على طريق معاكس نحن الآن في مساره.
منذ أن أطلق جمال عبد الناصر نداءه الخالد ” ارفع راسك يا أخي فقد ذهب عهد الاستعباد”، وحتى المشهد الخالد يوم الرحيل، والعلاقة بين الشعب والثورة علاقة ارتباط وثقة وتلاحم، زادتها معارك النصر والانجاز متانة، ولم تؤثر على طبيعتها تلك المعارك التي مثلت انتكاسات أو إخفاقات في مسيرة الثورة.
في مسار الثورة لم يكن هناك أقسى على ثورة يوليو وعلى الأمة كلها من نكسة حزيران، ومع ذلك فقد كان جواب شعبنا وأمتنا على هذه النكسة تمسكا بقيادة جمال عبد الناصر، وتمسكا بمسار ثورة يوليو.
لقد حير هذا الموقف الشعبي المراقبون، أعداء وأصدقاء، لم يختص هذا الموقف بالشعب المصري، وإنما كان موقفا توحد فيه الشعب العربي من المحيط الى الخليج، حتى أن الذين فرحوا بهزيمة حزيران، باعتبارها هزيمة لعبد الناصر كانوا مضطرين لمجاراة موقف الجماهير، والتظاهر بالتوحد مع هذا الموقف الطاغي.
إن الذين حيرهم هذا الموقف الشعبي لم يستطيعوا أن يدركوا طبيعة العلاقة بين الثورة وقائدها، وبين هذا الشعب العربي، لم يستطيعوا أن يفهموا الكيمياء التي جمعت الكل في بوتقة واحدة فأصبحوا جسما واحدا، إذا اشتكى بعضه بالحمى تداعى له باقي الجسد بالسهر والحمى.
ومادة هذه الكيمياء الموحدة:
** هي الصدق، والنزاهة، والإخلاص، والعمل التواصل.
**هي التطلع إلى العدل والالتزام بموجباته، وهي
** العمل المثابر لتحقيق التقدم للأمة والقوة لها، والاستقلال إرادتها.
**وهي استحضار تاريخ الأمة ودينها وقيمها وأعلامها في مشهد واحد يستهدف بناء الحاضر.
في ضمير الأمة ومخزونها التاريخي الثقافي والروحي أن مصر هي واسطة العقد لوجودها ونهضتها، وأنه حينما تشرق الشمس من هناك من القاهرة فإنها ستسطع على الأمة كلها، لذلك استبشرت خيرا بالثورة من يومها الأول، وتجاوبت مع راياتها الأولى، ثم ما لبثت معارك الثورة أن شدتها إليها بقوة وعمق: تحرير الفلاحين، مناصرة العمال، دعم الرأسمالية الوطنية، تحرير اقتصاد البلاد، استرداد ثروات البلاد، وجاءت معركة السويس وبناء السد العالي قمة هذا التحرك، واكتشف الناس أن معركة السويس في حقيقتها كانت معركة تحرير الأمة كلها، إذ كانت تجليا من تجليات معركة تحرير الجزائر وتحرير الأقطار العربية، وكانت تجليا من تجليات معركة العروبة والوحدة العربية، وتجليا من تجليات معركة عدم الانحياز والحياد الإيجابي.
“ارفع رأسك يا أخي فقد ذهب عهد الاستعباد” لم يكن مجرد شعار للتداول، ولا تعبيرا عن معركة أو مرحلة جزئية، وإنما كان شعارا كي تنفض الأمة عنها كل المعوقات التي تمنعها عن الحرية والتقدم والتوحد.
وفي خضم هذه المسيرة صارت ثورة يوليو، وصار جمال عبد الناصر التعبير الحقيقي عن كل إنسان عربي، بل عن كل انسان يتوق إلى التحرر، وإلى الكرامة، وإلى الإحساس بإنسانية.
كانت الجزائر تهتز على وقع هذه الثورة، كما دمشق، وبيروت، وتونس والمغرب العربي، وكما ثوار كوبا، والتواقين إلى الحرية في أمريكا اللاتينية.
كان نداء عبد الناصر هو نداء الأمة كلها للعالم كله، لذلك استنفرت هذه الثورة كل القوى المعادية، ولذلك كانت معاركها مستمرة لم تتوقف يوما ما.
صحيح كان أخطرها على الثورة عدوان يونيو 1967، لأنه مر وحقق بعض غاياته من خلال الثغرات التي تخللت مسيرة الثورة ذاتها، لكن الشعب الذي كانت الثورة في قلبه، وكان هو قلبها، كان يدرك بفطرته، أن في الصراعات هناك نصر، وهناك هزيمة، هناك تقدم، وهناك انتكاسة، وأن القضية الحقيقية لا تكمن هنا، ولكنها تكمن في الإرادة والإصرار، وفي الاستعداد لدفع الثمن وتحمل تبعات المعركة، والصمود فيها، وكانت هذه هي رسالة يومي 9/10 يونيو حينما خرج الشعب العربي في مصر والشعب العربي في كل مكان رافضا الهزيمة داعيا قيادة الثورة المخلصة الصادقة إلى الاستمرار في المعركة حتى النصر.
مدهش هذا الشعب، مدهش بحسه السليم، ومدهش بإدراكه الفطري لأولويات المعركة ولقيمها، ومدهش بقدرته على العطاء بدون حدود.
لقد أثبتت معارك إعادة بناء القوات المسلحة، وحرب الاستنزاف التي بدأت بمعركة رأس العش في الأول من يوليو من عام النكسة، أي بعد ثلاثة أسابيع فقط من عدوان يونيو، أنه حين يستيقن الشعب من صدق القيادة وصلابتها وحسن رؤيتها، فإن عطاءه يصبح بلا حدود
ومما يثير الدهشة بدون حدود أن أحدا بعد جمال عبد الناصر لم يستطع أن يقترب من هذه المكانة التي كانت له في الضمير الشعبي الوطني والقومي والعالمي، ولا أتحدث هنا عن نسبية المكانة، وإنما عن المكانة بإطلاقه، عن مكونات هذا المكانة ونسيجها.
ولا أدري كم استطعنا نحن الناصريين أن ندرك وبالتالي نتمثل هذه العلاقة بين يوليو وقائدها من جهة، وبين الضمير الشعبي من جهة أخرى، وما إذا كنا تحركنا منذ غياب جمال عبد الناصر على الطريق نفسه، وما إذا كانت جماهير أمتنا رأت أننا نسير على الطريق نفسه.
ولا أدري ما إذا كان حال الأمة كلها، وحال شعوبها كل في إقليمه وبلده يسمح أن نتحدث عن تلك المرحلة الزاهية من حياتنا، المرحلة التي كنا نعتقد ونحن فيها أننا نكاد نلامس القمر، وأن بيننا وبين الوحدة والتقدم خطوات، وأننا نتقدم بأسرع من كوريا الجنوبية، وقد بدأنا وإياها في المرحلة نفسها، وامتزنا عنها حينها بمفاهيم العدالة والتحرر والإنسانية.
أو يسمح لنا أن نتحدث عن تقدمنا الحثيث على طريق تحرير فلسطين، وبناء القوة العربية القادرة على ذلك، وكنا قد طردنا وحاصرنا الكيان الصهيوني في كل افريقيا حتى استخلصنا لاحقا من دول العالم موقفا يصنف الصهيونية باعتبارها نظاما عنصريا يجب التصدي الدولي له، وقد دخل هذا الكيان الآن إلى الكثير من أقطارنا العربية، وأصبح عند بعضها الصديق الصدوق، معه نتحالف، وبه نأتزر، وإليه نطمئن.
أو يسمح لنا حال الأمة أن نتحدث عن الوحدة الوطنية القادرة على التصدي لكل التحديات، ومقاومة كل الهجمات المعادية، وقد دمرت نظم الاستبداد والطائفية هذه اللحمة الوطنية وفتحت بلداننا أمام خرافاتهم وأحقاد ومزاعم، تخرب في الوطن وتاريخه، وتتعدى على مقدساته ورموزه، وتستنبت كل الشرور الطائفية، وتستتبع هذه الأوطان للعنصرية الفارسية، حتى صارت هذه تمد هيمنتها على العديد من أقطار هذه الأمة، فتنافس العدو الصهيوني في درجة خطرها وعدوانيتها على الأمة كيانا ووجودا.
أو يسمح لنا أن نتحدث عن عزة العربي وكرامته وقوته وقد تحول العربي، المواطن العربي بين أسير كسير في وطنه، وبين وشريد ولاجئ ومهجر في أصقاع العالم كله.
نحن في عصر نقيض لكل ما كان في عصر عبد الناصر وثورة يوليو، لكل معاني تلك الثورة، ولكل مفاهيمها، ولكل غاياتها واستهدافاتها، حتى أن الكثير من جيلنا لم يستطع لهول ما نحن فيه أن يدرك عمق وخطورة ما وقع في الخمسين سنة الماضية، وما زالت أعلام الثورة، وهديرها لم تغادر ناظريه ولم تغب عن سمعه.
نحن السوريين، أبناء الإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة، الذي فرقتهم جرائم النظام القائم، وطائفيته، وميليشياته، وشردتهم داخل وطنهم، وفي العديد من دول العالم، ليسجلوا أكبر حركة لجوء في هذا القرن، نشعر بالحنين والانتماء أكثر إلى ذلك الزمن، ففيه فقط كنا على اختلاف وتنوع عقائدنا وأدياننا وأصولنا العرقية نجد أنفسنا ونجد فضاءنا الوطني الحقيقي، ونجد آفاق مستقبلنا ومستقبل أجيالنا، لذلك ونحن في محنتنا السورية نتمسك أكثر ببناء سوريا الموحدة الواحدة، سوريا وطن الجميع جميع أبنائها، المنتمية بعزة وكرامة إلى أمتها، سوريا التي تحفظ لجميع أبنائها كرامتهم، وحقوقهم، وكينونتهم، سوريا قلب العروبة النابض، التي تجد في هذه العروبة حمايتها وحصنها وقوتها.