بالرغم من رفض إيران تعليقات مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان عن رصد واشنطن صفقة طائرات مسيّرة (درون) إيرانية لصالح الجيش الروسي، إلا أنها لم تنكر أنها تستعد لتقديم ما يصل إلى مائة من هذه الطائرات للجيش الروسي، بما فيها ذات قدرات تسليحية، لاستخدامها في حرب أوكرانيا. وأكد ذلك المتحدث باسم وزارة الخارجية ناصر كنعاني بقوله: “لا توجد تطورات جديدة، وتاريخ التعاون بين إيران وروسيا في مجال التقنيات الحديثة يعود إلى ما قبل الحرب في أوكرانيا”، ولكن واشنطن عادت وأكدت أن وفداً روسياً زار طهران مرتين متتاليتين لاختبار مواصفات، ومعاينة إمكانات نماذج محدّدة من “درون” إيرانية من أجل رفد عمليات الجيش الروسي في أوكرانيا، وأن العرض الإيراني للطائرات تم في قاعدة كاشان (200 كيلومتر جنوب طهران).
يطرح الخبر أسئلة كثيرة: هل استنزفت روسيا كامل احتياطاتها وترسانتها العسكرية في حربها على أوكرانيا؟ أم أن الدعم الغربي المتزايد منع، بشكل ما، انهيار الجيش الأوكراني، وهذا ما يهدّد المصالح الروسية، ودخولها في حرب استنزاف طويلة الأمد، لن تتحمل تبعاتها وزارة الدفاع الروسية وخزينة البلاد، وهل باتت موسكو تخشى من سيناريو تطوّر مشهد العمليات العسكرية، بعكس ما تريد، أو أن موسكو باتت تخشى من انتقال الجيش الأوكراني من الدفاع إلى الهجوم، أو أن نوعية السلاح المقدّم عبر الدعم الغربي لأوكرانيا أوقع خسائر نوعية في صفوف الجيش الروسي، مع خشية رصدت، أخيرا، لدى الروس من استخدام الطائرات المقاتلة القاذفة والاستعاضة عنها بضربات من صواريخ أرض – أرض بعيدة المدى، وتلك عوامل مجتمعة تتطلب من موسكو ضخّ إمكانات جديدة وقدرات حديثة. وبالتالي، برزت حاجة عسكرية روسية لتقنيات الطيران المسير، ومنه الإيراني، لوقف تلك الخسائر، أو لمنع تغير السيناريوهات من الجانب الروسي؟
ليس التنسيق العسكري الروسي الإيراني مستغرباً، وهما يتشاركان الجغرافيا السورية عبر تنسيق دقيق في سورية منذ عام 2015 على الأقل، لكن المستغرب أن قمة طهران المقبلة ستجمع الرئيس الروسي بوتين بأردوغان رئيس تركيا، البلد المنتج لطائرات بيرقدار التي تدعم الجيش الأوكراني، وتجمعه في الوقت نفسه مع إبراهيم رئيسي، رئيس إيران، البلد المنتج لطائرات درون التي ستدعم الجيش الروسي في أوكرانيا.
المعلوم في تاريخ الصناعات العسكرية أن الاتحاد السوفييتي سابقاً، ووريثته العسكرية روسيا، حالياً كلاهما من الدول الرائدة في التصنيع العسكري، ولروسيا خبرات ليست قليلة في مجال تصنيع الطائرات المسيّرة عن بعد، وقد استخدمتها في سورية بشكل كبير، مثل الطائرة “أورلان-10” التي تسطع حتى في ظروف الحرب الإلكترونية المعاكسة، ولدى قاعدة حميميم أيضاً المسيّرة “فولك – 18” والطائرة “إيليرون – 3″، التي تسمّى “صائدة المخربين”، نظراً إلى قدرتها على العمل والتخفي، وتملك روسيا مسيّرات من نوع “غروشا” لأغراض الاستطلاع ومسيرة أخرى من نوع “إس – 17” تصنف طائرة درون هجومية، وغيرها كثير من الطرازات التي استخدمتها روسيا في عملياتها القتالية، وقد شكلت تلك الطائرات منظومة قتالية متكاملة في قاعدة حميميم ما بين طائرات درون، تقوم بمهمة الاستطلاع والتجسّس، للحصول على إحداثيات الأهداف المعادية، ومن ثم ربطها مع منظومة إدارة النيران، لتصل إلى أدوات التنفيذ في منظومات المدفعية وراجمات الصواريخ والطائرات المقاتلة لتدمير تلك الأهداف. ولدى قاعدة حميميم مجموعات طائرات درون انتحارية كُشف عنها أخيرا، تلك الطائرات، وإذا ما أنهت رصيدها من القذائف التي تحملها، تصبح صاروخاً عبر انقضاضها على الهدف المراد تدميره وتفجير نفسها فيه، فما الذي دعا موسكو إلى الاستعانة بطهران لإمدادها عسكرياً بطائرات مسيّرة؟
يمكن القول إن الاستعانة الروسية بترسانة إيران قد تكون بسبب نجاح النماذج الإيرانية في حرب اليمن، وبدقة الإصابات التي حصلت عليها عندما قصفت منشآت أرامكو في السعودية، وحاجة روسيا لتلك الطائرات تكمن أيضاً بمحاولات موسكو إبقاء زخم التفوق العسكري لقواتها وحلفائها في أوكرانيا، والحفاظ على ما حصلت عليه في جنوب أوكرانيا وجنوب شرقها. بمعنى أن عملية استيراد طائرات “الدرون” من إيران لا تعكس ضعفاً للجيش الروسي، وقول الرئيس بوتين أخيرا “إن العملية العسكرية الروسية لم تبدأ بعد” يضيف تعقيدا وضبابية كثيرين على ماهية مفردات خطة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ومآلاتها وأهدافها ومساحتها، تلك الخطة التي قد يكون من مفرداتها تحشيد طاقات وقدرات عسكرية جديدة، تستدعي وجود طائرات درون الإيرانية، لتنفيذ مهام قادمة على نطاق أوسع، واستيراد نماذج أسلحة جديدة حتى للدول المتطوّرة والمتقدّمة عسكرياً ليس عيباً وليس بجديداً، وأحياناً بتطبيق مبدأ المفاضلة ما بين كلفة الإنتاج وكلفة الاستيراد تلجأ بعض الدول المتقدّمة للشراء من الخارج، كما فعلت الولايات المتحدة وفرنسا، عندما استوردت من إسرائيل طيرانا مسيّرا واستخدمته في جيوشها.
ولكن، تحدّثت مصادر أن العقوبات التقنية التي فرضها الغرب على موسكو ومؤسساتها العسكرية تسبّبت بمنعها من الحصول على تقنيات عسكرية متطورة وعناصر حسّاسة تدخل بتصنيع طائرات “الدرون”، فكان التعويض عبر الترسانة الإيرانية. وهذا ما أكده المحلل السياسي الروسي غيفورك ميرزايان (على قناة الحرة الأميركية)، بقوله: نعم نحن نصدر أنواعا كثيرة من الأسلحة المتطورة في مجال الصواريخ والطيران والمدفعية، لكن في تقنيات الطائرات المسيرة نحن لا نملك كل تقنياتها ولا نصنعها بالأعداد الكافية. لذلك من الطبيعي أن نستورد تلك المسيّرات لخدمة الجيش الروسي، ونحن بحاجة لتلك التقنيات، ولدى إيران والصين صناعات متطورة في هذا المجال، ولا غرابة باستيرادها من الحلفاء.
ليس رفد الجيش الروسي بطائرات درون مستغرباً، لكنه مؤشّر إلى أن الحرب الأوكرانية باتت مجهولة النهاية، ومجهولة المصير ومجهولة النتائج، وبات معها العالم يتحضر للاحتمالات الأسوأ، فبعد أزمتي الطاقة والحبوب، قد يشهد العالم مجدّداً أزمات طارئة وغير متوقعة، تحمل في طياتها مآسي كثيرة. والاستعانة بطائرات درون إيرانية من دولة كبرى، مثل روسيا، تؤكد أن تفوق جيوش الدول العظمى، عبر طائرات الجيل الخامس وغيرها من الطائرات المقاتلة، لم يعد تفرّداً يتم من خلاله إخضاع بعض الدول الصغيرة لأجندات الدول العظمى والغنية، وأن التطور العلمي لدولة حتى لو كانت فقيرة قد يمكّنها من إنتاج وسائط قتالية تُشكل عاملاً رادعاً للدول العظمى، كطائرات الدرون، تلك التقنية التي أصبحت عنصراً أساسياً من عناصر المعركة الحديثة.
المصدر: العربي الجديد