إذا كانت نشأة الدولة والمجتمعات السياسية، بحسب أرسطو، قد مرّت بأطوار العائلة فالقبيلة فالحاضرة فالمدينة فالدولة، فإنّ حافظ الأسد عمد إلى إعادة الدولة السورية إلى طورها الأول، فبدأ بتفكيكها منذ انقلابه على السلطة ليعيدها إلى مكوناتها البدائية القبلية والطائفية، وليستكمل وريثه سليل الإجرام مشروع تفتيتها وتدميرها من جميع النواحي السياسية والجغرافية والبشرية والاقتصادية، بل وإبادة سكانها وتهجير من تبقى من أهلها قسريّاً بغية إعادة تشكيلها سياسيّاً وتغييرها ديموغرافياً وعقديّاً.
لم تعد سورية الدولة حقيقة سياسية ولا مفهوماً قانونياً يمكن تلمس أبعاده الجغرافيّة والسيادية، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا إن سوريّة باتت مجرّد جغرافية مقسّمة ومستباحة تملأها الأنقاض والأشباح، تتصارع على أرضها وفي دهاليز السياسة الدولية والإقليمية مشاريع وسيناريوهات لم يثبت حتى هذه اللحظة أن أحداً منها يهدف جدياً للحفاظ على وحدتها، والاستجابة لمطالب إنسانها وآماله المشروعة.
لقد مرّت دول عديدة بفترات مظلمة وبنزاعات وحروب قاسيةٍ دامية قادت إلى دمار بناها المختلفة، لكنها استعادت حدودها الجغرافية وسيادتها ووحدة شعبها، وكان الطريق الواضح لإعادة إعمار إنسانها وبنيانها ومكانتها بين الأمم يبدأ بتغيير النظام الحاكم، وبصياغة عقد جديد بين أفراد المجتمع يحدد طبيعة الدولة ونظام الحكم، وينظم العلاقة بين السلطات بما يضمن تحقق مضامين المواطنة في العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية.
لا يخفى على عاقل أهميّة الدستور بين مواطني الدولة بسبب سموّه وخصائصه وآليات صياغة قواعده، فهو المنشئ للنظام القانوني للمجتمع وتتمتع قواعده بالمكانة العليا، كذلك فإنّ الدستور يوثق هوية الشعب وقيمه الروحية ومبادئه ولغته…، ويضع القواعد الضامنة لتطبيقها وترسيخها وحمايتها، كما أنه ينصّ على الحقوق والحريات والآليات التي تكفل الممارسة والتطبيق، إنّه القانون الأعلى للدولة ويعدّ مرجعاً للتشريعات والقوانين في الدولة.
ما سبق، وهو بعض من كلّ، يفضي إلى العديد من البداهات لعلّ أوّلها يتعلّق بالأطراف المتعاقدة إذ لا يمكن للنظام المجرم، الذي رفض أبسط أشكال الاستجابة للشعب المُطالب بالحرية والعدالة، بل وأنكر وجوده وارتكب أشنع الجرائم بحقه، أن يكون طرفاً في عقدٍ يؤسس لبناء دولة المواطنة والحريات ما يعني أنّ زوال سلطته الطغيانية ومحاكمة رموزه وشركائه في الجريمة شرط أساس لهذا البناء.
الدستور عقد يعبّر عن إرادة المتعاقدين في كل الأطوار التي تمرّ بها عمليّة صياغته بدءاً بالحوار بين أطياف المجتمع وممثليه والممهّد لانتخاب الجمعية التأسيسية المكلفة بصياغة القواعد الدستورية، وصولاً إلى الاستفتاء الديمقراطي على مواد الدستور جملة وتفصيلاً، بما يعبّر حقيقة عن إرادة أفراد المجتمع بكلّ أطيافه وقطاعاته ويكسب بالتالي صفتي العموم والإلزام، وهما مبدآن جوهريّان في الدستور، المصداقية والمشروعيّة.
إنّ أغلبية الشعب السوريّ مهجر أو نازح، وهم أصحاب المصلحة الحقيقية في استعادة وطنهم المحتلّ وتحريره من نظام الكبتاغون الفارسيّ وشركائه المجرمين، وهم بشوق ولهفة للعودة إلى بلدهم وإعادة العافية والحياة إليه، والخلاص من محنة اللجوء والتشرّد، وهذا لا يمكن أن يحصل عبر التجاوز للقرارات الدولية ذات الصلة، وتغييب بند تشكيل حكومة انتقالية المقدّم على صياغة دستور ديمقراطيّ، وتعيين لجنة من عدد من ممثلي مصالح الدول المتصارعة على الحلبة السورية لإنتاج عقد هو في حقيقته بين تلك الدول وليس بين السوريين، إذ لا يمكن الحصول على منتج تعاقدي ديمقراطي تتحقق فيه إرادة المتعاقدين وينال رضاهم وقبولهم دون اتباع الأصول والآليّات الديمقراطية في صياغة العقد، بل ودون حضور الأطراف المعنية ومشاركتها في اختيار ممثليها.
بداهات لا تنتهي تتعلق بالشرعيّة والهوية والتمثيل والاختصاص والجدوى وضمانات التطبيق ومصلحة أبناء الأم السورية، تلك التي يتمّ تجاهلها من قبل الهيئات الأممية والمجتمع الدوليّ والقوى الدولية والإقليمية.
وقت من الدم والدمع والألم يعانيه ويدفعه السوريّ من عمره وصحته سواء النازح أو المهجّر في شتات بات يضجّ بوجوده ويتململ من شكواه، أو ذاك الرهينة في أقبية الموت الأسديّ وفي زواريب المعتقل الأكبر سوريّا المحتلة، وما بين الخوف والترقب والحيرة والعجز تتشكل تراجيديا البؤس والتلاعب بمصير شعبٍ اختزلت قضيته في لجنة هلاميّة تستجدي الوهم، ولن تنتج سوى الفراغ والعبث.
المصدر: إشراق