حذر الباحث سام فاريزر في تحليل بموقع معهد “ريسبونسبل ستيت كرافت” الأمريكي، من مخاطر صدام عسكري مباشر بين الولايات المتحدة وروسيا، وكتب أنه منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط، لم تظهر أصوات مهمة تدعو الولايات المتحدة للانخراط في حرب مباشرة مع روسيا. ويبدو هذا الحذر منطقيا، فروسيا دولة نووية ولديها جيش لا يزال أضخم من أي جيش واجهته الولايات المتحدة خلال تدخلاتها العسكرية السابقة، بالرغم من الأداء السيء الذي أظهره الجيش الروسي في الحرب حتى الآن.
ومع الرفض العام للمشاركة الأمريكية المباشرة، طرح العديد من المعلقين والسياسيين عددا من المقترحات المخففة للتدخل العسكري الأمريكي، من بينها “منطقة حظر طيران” فوق أوكرانيا. وبالرغم أن هذا الإجراء يبدو قانونيا وغير مستفز، رفضت إدارة بايدن هذا الاقتراح لأن تنفيذه سيتضمن حتما إسقاط طائرات روسية، مما يؤدي بدوره إلى حرب أوسع.
ومع تصاعد خطر الأزمة الغذائية العالمية التي فاقمها توقف صادرات الحبوب من أوكرانيا وروسيا، ظهرت دعوات لاستخدام القوة البحرية لضمان نقل الحبوب الأوكرانية بأمان في البحر الأسود. وبالرغم أن هذا الاقتراح تم صياغته بلغة إنسانية، إلا أنه يرقى إلى دعوة إلى عمل عسكري عالي المخاطر تقوده الولايات المتحدة.
وتم طرح هذا الاقتراح بأشكال مختلفة من قبل وزير خارجية ليتوانيا، والقادة العسكريين الأمريكيين المتقاعدين بمن فيهم الأدميرال “جيمس ستافريديس” والجنرال ويسلي كلارك والجنرال جاك كين، وكذلك النائبة الديمقراطية إليسا سلوتكين، ومجلس التحرير في “بوسطن غلوب” و”وول ستريت جورنال”.
وفي حين أن مقترحات هذه الأطراف تختلف في التفاصيل، فإن جميعها تستدعي خطاب التدخل الإنساني لتبرير هذا العمل وإضفاء الشرعية عليه. وكان الأمر الأكثر لفتًا للنظر هو إشارة كل من وزير الخارجية الليتواني وصحيفة “وول ستريت جورنال” إلى الدول المشاركة في هذه العملية البحرية باعتبارها “تحالفًا للإرادة”، وترتبط هذه العبارة بالحرب الأمريكية على العراق وجهود إدارة جورج بوش لإعطاء قشرة من الشرعية متعددة الأطراف لغزوها غير القانوني.
وبالرغم أن تحرير الحبوب الأوكرانية من الحصار الروسي سيساهم في تخفيف أزمة الغذاء، إلا أن المرافقة البحرية ستتطلب بحكم تعريفها قوات عسكرية كبيرة لتنفيذ عمليات إزالة الألغام وللتعامل مع احتمال الهجمات الروسية على السفن.
وكان الكاتب سيث كروبسي من صحيفة “وول ستريت جورنال” واضحًا بشكل خاص في هذه النقطة، حيث دعا إلى “فرقة عمل بحرية ساحقة تتكون من مقاتلات متعددة الأحجام وغواصات مع دعم جوي”. وأيا كان التحالف الذي سيتم تجميعه للعملية، فمن المحتمل أن تضطر الولايات المتحدة إلى توفير الجزء الأكبر من هذه القدرات.
وكما هو الحال مع المحاولات السابقة للتدخل الإنساني، فمن المستحيل تجاهل الأبعاد العسكرية لهذه المقترحات. ربما يمكن تجاهل هذا عند التدخل في الدول الفاشلة أو ضد القوى الأضعف غير القادرة على الانتقام، لكن القيام بذلك سيكون أكثر خطورة في هذه الحالة.
وبحسب الباحث يشير مؤيدو التدخل البحري مثل “كروبسي” إلى أن الحصار والألم الناجم عنه يعد جزءا رئيسيا من استراتيجية الحرب الروسية، والتي تهدف إلى الضغط على أوكرانيا وحلفائها للبحث عن نهاية للحرب بشروط أكثر ملاءمة لموسكو.
ولن تسمح روسيا بكسر الحصار؛ لأن ذلك سيفقدها جزءًا كبيرًا من نفوذها. ومن وجهة النظر الروسية، قد يشجع ذلك الولايات المتحدة وحلف الناتو على المزيد من التدخل في مناطق أخرى من الصراع. وفي ظل هذه الحسابات، قد تجد روسيا أنه من الصعب للغاية عدم التعامل هذه العملية التي تقودها الولايات المتحدة.
وبالنظر إلى سلوك روسيا في الحرب حتى الآن، من غير المرجح أن ترفض قيادتها تأطير مثل هذه العملية على أنها “عمل إنساني”. لا شك أن وجود أسطول بحري غربي في المياه القريبة يمثل تهديدا لاستراتيجية الحرب الروسية وبالتالي سيُعتبر تهديدًا عسكريًا، وكون مثل هذا الأسطول ذا هدف إنساني لن ينفي هذه الحقائق.
حتى لو لم تهاجم روسيا السفن بشكل مباشر ومتعمد، سيكون خطر التصعيد العرضي مرتفعًا، كما حدث عام 1988 عندما أسقطت الولايات المتحدة طائرة مدنية إيرانية أثناء إجراء عملية مماثلة لحماية شحنات النفط في الخليج.
وأمام هذا الواقع، فإن الادعاء بأن الولايات المتحدة وحلفاءها يمكنهم كسر حصار موسكو “دون إطلاق النار” أمر مشكوك فيه.
ويرى الباحث أنه قد تكون هناك طرق أفضل للتحايل على الحصار، فالتفاوض على إنهاء للحرب نفسها من شأنه أن ينجز هذا الهدف. وإذا لم يتحقق ذلك، فقد قدم آخرون مقترحات أقل خطورة لتصدير الحبوب.
ويتضمن ذلك نقل الحبوب عبر طريق بري قصير إلى ميناء روماني، أو إبرام اتفاق محدود مع روسيا بشأن صادرات الحبوب، أو دعم مرافقة بحرية بقيادة بعض الدول غير الغربية الأكثر اعتمادًا على القمح الأوكراني.
ومن غير الواضح ما إن كان الاقتراح الأخير قابلا للتطبيق، إلا إن هذه العملية ستتميز بكونها متعددة الأطراف وأقل قابلية للتصعيد من خلال تقليل الدور العسكري للبلدان التي انحازت بقوة إلى أوكرانيا في الحرب.
بالفعل، تهدد أزمة الغذاء العالمية بعواقب كارثية على الاستقرار السياسي ومستقبل البشر في جميع أنحاء العالم، ويجب النظر في مقترحات لتخفيف هذه الأزمة، لكن وجود مهمة تسعى إلى تحقيق الأهداف الإنسانية من خلال الوسائل العسكرية لن تنفي الطبيعة العسكرية لهذه العملية، وستظل تحمل كل المخاطر التي يتضمنها العمل العسكري، ويجب ألا يستخدم المدافعون عن هذه الخطوة لغة وردية للتظاهر بخلاف ذلك.
المصدر: “القدس العربي”