مع دخول العدوان الروسي الشامل على أوكرانيا شهره الرابع تتصاعد الدعوات إلى عقد صفقات خطرة، فمع تزايد الشعور العام بالتعب وتشتت الانتباه يقترح مزيد ومزيد من المعلقين الميالين إلى الكرملين التضحية بأوكرانيا بهدف تحقيق السلام والاستقرار الاقتصادي في بلدانهم. وعلى الرغم من أنهم قد يظهرون بمظهر المسالمين أو الواقعيين إلا أنه سيكون من الأفضل فهمهم على أنهم عناصر تمكين للإمبريالية الروسية وجرائم الحرب.
ومن الطبيعي أن تفقد الشعوب والحكومات اهتمامها بالنزاعات متى طال أمدها، وقد سجل التاريخ على امتداد مساره حالات مماثلة عدة، ففي عام 2011 توقف العالم عن الاهتمام بتفاصيل الحرب في ليبيا بعد الإطاحة بزعيمها السابق معمر القذافي، وينسحب الأمر على سوريا واليمن وغيرهما من الصراعات المستمرة التي اعتادت تصدر الصفحات الأولى في الأخبار.
وعلى حد علمي فإن بقية العالم فقد اهتمامه بأوكرانيا بعد عام 2015، مع أننا لم نتوقف يوماً عن محاربة القوات الروسية التي تحاول بسط سيطرتها على الجزء الشرقي من البلاد.
لكن الغزو الروسي الحالي أخطر بكثير من الغزو السابق ولا يمكن للعالم أن يشيح بنظره، إذ لن يكتفي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالاستيلاء على مزيد من الأراضي الأوكرانية، ولا تتوقف طموحاته لا عند حد إحكام قبضته على أوكرانيا ككل، بل تتعداها لتشمل اجتثاث الأمة الأوكرانية ومسح شعبنا عن الخريطة، سواء بذبحنا أو بتدمير المعالم المميزة لهويتنا. بكلام آخر، بوتين عازم على تنفيذ حملة إبادة جماعية.
ومن أجل تلافي الشعور بالسأم من الحرب والوقوع ضحية روايات مضللة يجب أن يفهم الغرب على وجه الدقة السبيل الذي يمكن أن يحقق لأوكرانيا النصر ويقدم لنا الدعم اللازم على أساس ذلك، وبالنسبة إلينا فهذه الحرب هي حرب وجودية ولدينا دافع للمضي قدماً بها، ولو تمكنت قواتنا من الحصول على الأسلحة اللازمة فسيكون المجال مفتوحاً أمامها لدحر قوات بوتين المنهكة بالفعل بعد أن تصل إلى نقطة الانهيار.
أعتقد أن بإمكاننا شن هجوم مضاد على القوات الروسية في جنوب أوكرانيا وشرقيها على حد سواء مع الضغط على بوتين كي يختار بينهما، ولكن كي يكتب لهذا الهجوم النجاح على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين تزويد بلادنا سريعاً بالكميات المناسبة من الأسلحة الثقيلة المتقدمة، وعليهم كذلك مواصلة فرض العقوبات على روسيا وتشديدها، والأهم من ذلك عليهم تجاهل الدعوات المطالبة بتسويات دبلوماسية من شأنها أن تساعد بوتين قبل أن يقدم تنازلات جادة.
وقد يتهيأ لبعضهم في الخارج أن التسوية مع روسيا أمر مغر، لا سيما مع ارتفاع كلف الحرب، لكن الانصياع لعدوان بوتين يصب في مصلحته وسيساعده في التسبب بمزيد من التدمير لأمتنا، ومن شأن ذلك أيضاً أن يشجع حكومته على تنفيذ هجمات في أماكن أخرى من العالم مما يسمح له بإعادة صياغة قواعد النظام العالمي.
وفي ما يتعلق بنهجه في المحادثات فمن الممكن أن يتغير. أتصور أننا لو نجحنا في دفع القوات الروسية بعيداً بما فيه الكفاية فسيجد بوتين نفسه مضطراً للجلوس إلى طاولة المفاوضات والتعاطي بحسن نية. في المقابل، إن تحقيق ذلك يستوجب من الغرب التحلي بالصبر والتفاني في سبيل تأمين حاصل واحد يتمثل في تحقيق انتصار أوكراني شامل وكامل.
لن نتراجع
منذ اللحظة التي بدأت فيها القوات الروسية بالتدفق عبر حدود أوكرانيا دعا بعض المعلقين الغربيين إلى التوصل لحل وسط مع موسكو، ونحن معتادون على هذه الأنواع من الاقتراحات وقد سمعنا بها مراراً وتكراراً بين 2014 و2022، لكن حرب اليوم تختلف عن الحرب التي اندلعت قبل فبراير (شباط)، وفي الأسابيع الأخيرة بدأت هذه الدعوات تردنا من نخب بارزة في مجال السياسة الخارجية، ففي أوائل يونيو (حزيران) صرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للصحافيين أنه “ينبغي على ]الغرب[ ألا يذل روسيا” حتى يتاح لها إمكان “بناء منحدر للخروج” من الحرب، وكذلك ذهب وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر إلى أبعد من ذلك.
وفي سياق الكلمة التي ألقاها كيسنجر في “المنتدى الاقتصادي العالمي” في مايو (أيار) أشار بالفم الملآن إلى أنه ينبغي على أوكرانيا أن تتنازل عن الأراضي لروسيا مقابل السلام.
وبرأيي، تستند هذه التصريحات إلى الفرضية القائلة بأن الأوكرانيين حتى لو قاتلوا بشكل جيد فإنهم غير قادرين على إلحاق الهزيمة بقوات موسكو، لكن هذه الفرضية عارية من الصحة، وقد برهنت أوكرانيا عن قوتها وقدرتها على المواجهة بإحرازها انتصارات مهمة في معارك “تشيرنيهي” و”خاركيف” و”كييف” و”سومي”، ضاربة عرض الحائط بمخطط بوتين لخوض حرب خاطفة.
صحيح أن كسب هذه المعارك كلف الأوكرانيين ثمناً باهظاً، لكننا كنا سندفع ثمناً أشد فداحة بكثير لو أننا خسرناها. نحن نعلم جيداً ما الذي يعنيه النصر الروسي بالنسبة إلى قرانا وبلداتنا. انظروا مثلاً إلى مدينة “بوتشا” التي تحولت إلى مقبرة لمئات الأوكرانيين الذين قتلوا بوحشية على يد القوات الروسية المحتلة في مارس (آذار) 2022.
للأسف، تؤدي إمبريالية بوتين المريضة إلى إلزام موسكو بالحرب على الرغم من ارتفاع كلفتها بشكل صادم، وقد فقدت روسيا بالفعل ثلاثة أضعاف عدد الجنود الذين خسرهم الاتحاد السوفياتي طوال فترة وجوده في أفغانستان التي دامت عقداً من الزمن.
وعلى الرغم من ذلك تستمر موسكو في التضحية بقواتها من أجل الاستيلاء على المنطقتين الشرقيتين “دونيتسك” و”لوهانسك” (المعروفتين معاً بإقليم دونباس) وإبقاء جنوب أوكرانيا تحت سيطرتها، ومن المحتمل أن تمتد حصيلة الوفيات قريباً إلى ما هو أبعد من حدود روسيا وأوكرانيا وحتى أوروبا، وكذلك فإن الحصار الذي يفرضه بوتين على صادرات الحبوب الأوكرانية للضغط على الغرب من أجل رفع العقوبات عن بلاده قد يتسبب في تفشي المجاعة في جميع أنحاء العالم النامي.
وعلى الرغم من هذه المجزرة يبدو الرئيس الروسي في مزاج جيد، ووفقاً للقادة الذين تحدثوا إليه أخيراً فإن بوتين متأكد من أن “عمليته الخاصة”، وفق ما أخبر أحد القادة الأوروبيين، “ستحقق أهدافها”، وليس من الصعب علينا معرفة السبب في ذلك، فبعد نجاح الغزاة الروس في التقدم في “دونباس” باستخدام قصف مدفعي شامل بدأ بوتين في مقارنة نفسه ببطرس الأكبر الذي هو على الأغلب أشهر فاتح في تاريخ الإمبراطورية الروسية.
وإذا كان هذا هو السبب فعلاً فما جاء على لسان بوتين إذاً هو كلام مشؤوم كونه يلمح إلى احتمال عدم اكتفاء القيصر بالاستحواذ على “دونباس” أو حتى أوكرانيا كاملة.
ولا شك في أن الطريقة الأكثر فعالية لوضع حد لخطط بوتين التوسعية تتمثل في وقف تقدمه شرق أوكرانيا قبل أن يتمكن من المضي أبعد من ذلك، وطرد قواته المحتلة من جنوب أوكرانيا التي ينوي ضمها إلى روسيا، وهذا يستدعي مساعدة أوكرانيا في هزيمة بوتين على ساحة المعركة، وقد اتخذت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بعض القرارات غير المسبوقة بغية إعانتنا على إنجاز هذه المهمة، وفي مقدمها إحياء برنامج إعارة وتأجير تاريخي يسهل على الولايات المتحدة مد أوكرانيا بالأسلحة، وتلبية مناشدات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بإعطائنا أربعة أنظمة صاروخية متعددة الإطلاق في مايو (أيار) 2022.
يذكر أن نظيري وصديقي وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن شارك بفعالية في صياغة هذه القرارات، شأنه شأن القادة العسكريين الأوكرانيين الذين كانوا على اتصال مباشر بوزير الدفاع الأميركي لويد أوستن والجنرال مارك ميلي رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، وهو من كبار الداعمين لقضيتنا.
وما برحت هذه المساعدة خطوة أولى حاسمة ونحن ممتنون لها، لكننا نتمنى لو أنها وصلتنا في وقت أبكر وفيما كانت لا تزال الحوادث في بداياتها.
لقد حان الآن الوقت كي تتحول القرارات السياسية إلى أفعال حقيقية قادرة على تغيير قواعد اللعبة، وبما أن المدفعية الروسية تتفوق على مدفعيتنا بواقع واحد إلى 15 عند أكثر المحاور أهمية على خط المواجهة، فإن إمدادنا بعدد قليل من أنظمة الصواريخ الأميركية لن يكفي لمنحنا الغلبة في نهاية المطاف.
نحن بحاجة ماسة إلى مزيد من الأسلحة الثقيلة من جهات مختلفة كي نقلب الموازين لمصلحتنا، وكذلك بغية إنقاذ الأرواح، وتتمثل أكثر حاجاتنا إلحاحاً في مئات من أنظمة إطلاق الصواريخ المتعددة وقطع مدفعية مختلفة من عيار 155 مليمتر، إذ ستتيح لنا هذه الأنواع من الأسلحة قمع المدفعية الروسية، لكن وقف المدفعية ليس الشغل الشاغل الوحيد لأوكرانيا، وكي ننجح في تنفيذ هجمات مضادة فعالة فنحن بحاجة أيضاً إلى صواريخ مضادة للسفن ودبابات ومدرعات ودفاع جوي وطائرات مقاتلة.
باختصار، نحن بأمس الحاجة إلى أسلحة تثبت أن الغرب ملتزم بمساعدتنا في تحقيق فوز فعلي، وليس مجرد تلافي خسارة محتمة.
لنعش أحراراً أو نمت أبطالاً
منذ بداية الغزو سعت أوكرانيا مرات عدة للتوصل إلى تسوية دبلوماسية مع روسيا، لكن بوتين رفض المضي قدماً بأي محادثات ذات مغزى ظناً منه أن الدعم الغربي لأوكرانيا سيتضاءل مع استمرار القتال، وأن شعور الإرهاق سيفرض نفسه على الأطراف كافة بعد أشهر من حرب شاملة، وفي المقابل لأن الدافع الرئيس للحرب الروسية الحالية يتمثل في الإبادة الجماعية، لم يكن بوسع أوكرانيا والغرب بأسره الموافقة ببساطة على مطالب موسكو، فقبل يومين من الغزو صرح بوتين أن وجود أوكرانيا بحد ذاته خطأ وأن الاتحاد السوفياتي “خلق” أوكرانيا من طريق رسم حدود عرضية على الخريطة، ولهذا يجب أن يمحى كل أثر لها، ومن وجهة نظره فعلى الأوكرانيين أن يختاروا إما الانضمام إلى روسيا وإما الموت قتلاً.
ولم يخلف بوتين بهذا الوعد أبداً، فبعد دخول قواته الأراضي الأوكرانية عنوة، راحوا يطرقون أبواب المنازل بحثاً عمن وردت أسماؤهم في قوائم القتل التي أعدها لهم “جهاز الأمن الفيدرالي”، وبعدما عذبوا وأعدموا الأشخاص الذين يدرسون لغة أوكرانيا وتاريخها ونشطاء المجتمع المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان والجنود الأوكرانيين السابقين والسلطات المحلية وكثير غيرهم، غيروا لافتات الطرق من الأوكرانية إلى الروسية ودمروا الآثار الأوكرانية وحظروا التلفزيون الأوكراني ومنعوا استخدام اللغة الأوكرانية في المدارس.
ونحن في أوكرانيا لم نتفاجأ بهذه الحملة الوحشية فمعرفتنا عميقة بروسيا، وقد شهدنا على مدى قرون طويلة المثقفين الروس ووسائل الإعلام الخاضعة للدولة الروسية وهم يحرضون على الكراهية تجاه أمتنا، وكذلك شهدنا عدائية موسكو أثناء تمددها إلى ما وراء حدودنا مع إدانة وسائل الإعلام الروسية بشكل روتيني دول الغرب عموماً والدول المجاورة الأخرى خصوصاً، ومجموعة منوعة من الأقليات، لا سيما اليهود وأفراد مجتمع “الميم”، ويظهر أن النخبة السياسية الروسية تكن كراهية عامة وعميقة للآخرين، وليست هذه الكراهية سوى سبب آخر لعدم تجرؤ الغرب على رفع الراية البيضاء.
إن إحراز موسكو نصراً عسكرياً لن يتيح مجرد تعذيب واغتصاب وقتل آلاف الأوكرانيين الأبرياء الآخرين وحسب، بل سوف يقوض القيم الليبرالية كذلك ويفتح ذلك الأمر المجال أمام روسيا لتهديد أوروبا الوسطى ثم العالم الغربي بكامله. صدقوا أو لا تصدقوا، لا يوجد شيء أكثر خطورة على الاتحاد الأوروبي وحلف الـ “ناتو” من وجود روسيا أكثر جرأة أو وكيل موال لروسيا في مواقع إضافية على طول حدودها الشرقية.
ولحسن حظ أوروبا والولايات المتحدة أن أوكرانيا تقاتل هذه القوة الظلامية، وكييف على أهبة الاستعداد لمواصلة مهمتها حتى الفوز، لكن الحقيقة أننا عاجزون عن الفوز بمفردنا ولا بد من أن يفهم الغرب فداحة الأخطار والتداعيات التي قد تترتب على فشلنا، وإذا ما خسرنا الحرب فستختفي أوكرانيا من على وجه البسيطة ولن يعود هناك ازدهار أو أمن في أوروبا.
من سيء إلى أسوأ
من غير المنطقي التلميح إلى أن أوكرانيا قد تضحي بشعبها وأراضيها وسيادتها في مقابل سلام مفترض، أو اعتبار أن هذه الدعوات الأخيرة للتوصل إلى تسوية تشكل مجرد نتيجة ثانوية للإرهاق المتزايد، وأثناء حديثي مع عدد من صناع القرار في الدول الأفريقية والعربية والآسيوية، لاحظت أن بعضهم بدأ كلامه بالتأكيد على دعمه لقضيتنا كي يسارع بعدها إلى التعبير عن موقف أكثر جرأة، مقترحاً علينا بكل أدب ولباقة التوقف عن المقاومة، وصحيح أن ما اقترحه هؤلاء هو أمر مرفوض وغير وارد بالنسبة إلينا، لكن منطقهم بسيط، إذ إنهم يريدون شحنات الحبوب المكدسة في موانئنا جراء الحصار البحري الروسي، وهم على استعداد تام للتضحية باستقلال أوكرانيا من أجل الحصول عليها، وثمة صناع سياسة آخرين يبيعون ويشترون في التنازلات، فقد أعربوا عن مخاوفهم من أزمات اقتصادية مماثلة يمكن أن تتسبب بها روسيا، من قبيل الارتفاع الحاد في التضخم وأسعار الطاقة.
وبالتأكيد، يمثل ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة مشكلة خطرة، لكن الاستسلام لموسكو ليس هو الحل، بغض النظر عما سيعنيه ذلك للأوكرانيين.
إن روسيا دولة انتقامية ولديها عزم قوي على إعادة تخطيط العالم كله تحت تهديد السلاح، وتدأب موسكو حالياً على محاولة زعزعة استقرار الدول الأفريقية والعربية والآسيوية سواء من خلال جيشها أو عبر وكلائها، وقد نتج من هذه الصراعات أزمات إنسانية لا يمكن إلا أن تزداد سوءاً بخسارة أوكرانيا، أو بالأحرى انتصار موسكو الذي سيحض بوتين أكثر فأكثر على تجاوز كل الحدود وإثارة مزيد من الاضطرابات والكوارث في أنحاء العالم النامي.
ولن يقتصر عدوان بوتين المتزايد على العالم النامي بل سيتعداه إلى السياسات الأميركية والأوروبية التي سيرغب في التدخل فيها بقوة أكبر، وإذا نجح في غزو جنوب أوكرانيا فقد يتوغل إلى أعماق القارة العجوز بوضع اليد على “مولدوفا” الخاضعة في جزء منها لوكلاء روسيا، ويمكنه حتى إشعال أتون حرب جديدة في غرب البلقان، حيث تتطلع النخب الصربية المتزايدة العدائية إلى موسكو كمصدر للإلهام والدعم.
وبناء عليه يتعين على الغرب مساعدة أوكرانيا في كسب الحرب عوضاً عن اقتراح مبادرات سلام بشروط غير مقبولة، ويعني ذلك عدم الاكتفاء بتزويد أوكرانيا بالأسلحة الثقيلة التي تحتاجها لمحاربة قوات موسكو، بل الإبقاء أيضاً على العقوبات ضد روسيا وتشديدها، والأهم من ذلك تقويض الصادرات الروسية من طريق فرض حظر شامل على الطاقة من روسيا وعرقلة وصول موسكو إلى اقتصاد الشحن البحري الدولية، وقد تبدو الخطوة الأخيرة صعبة التنفيذ لكنها في الحقيقة قابلة للتنفيذ إلى حد كبير، لا سيما أن الاقتصاد الروسي يتسم بتوجه إلى التصدير ويعتمد بدرجة كبيرة على الأساطيل الأجنبية لتسليم بضائعه إلى الخارج، وبالتالي يمكن لهذه الأساطيل أن تتوقف عن خدمة بلاده.
إذاً تعتبر تلك التدابير الاقتصادية مفتاحاً أساساً، فلقد أنهكت العقوبات الاقتصاد الروسي وأعاقت قدرته على مواصلة الحرب، ومع ذلك لا تزال موسكو واثقة من قرارها وبالتالي لا يستطيع الغرب تحمل أي ضعف في العزم بشأن العقوبات، بصرف النظر عن الكلف الاقتصادية الأوسع نطاقاً.
الطريق إلى النصر
على الرغم من الانتصارات التي حققتها أوكرانيا في مرحلة باكرة من الحرب، قد يكون من الصعب على صناع السياسة الغربيين تصور الكيفية التي سنهزم بها القوات الروسية الأكثر عدداً والأفضل تجهيزاً، ولكن طريقنا إلى النصر جلي وبيّن، وإذا حظينا بالدعم الكافي فلا شك سنتمكن من إحباط تقدم روسيا واستعادة مزيد من أراضينا.
فعلى جبهة القتال في الشرق يمكن لأوكرانيا أن تتفوق باستخدام أسلحة ثقيلة أكثر تطوراً مما سيتيح لنا تعطيل غزو موسكو المتداعي في “دونباس” بصورة تدريجية. (قد تتصدر مكاسب الكرملين في هذه المنطقة العناوين، لكن من المهم أن نتذكر أن هذه المكاسب محدودة وقد أسفرت عن خسائر فادحة في صفوف القوات الروسية)، وستأتي اللحظة الحاسمة حين ستستخدم قواتنا المسلحة أنظمة إطلاق الصواريخ المتعددة التي زودنا بها الغرب لتدمير المدفعية الروسية وقلب الموازين لمصلحة أوكرانيا على طول خط المواجهة، ومن بعدها ستحول قواتنا تركيزها نحو استعادة بعض الأراضي المغصوبة مع إرغام الروس على التقهقر هنا وهناك.
واستطراداً، تشن القوات المسلحة الأوكرانية بالفعل هجمات مضادة في الجنوب، ومن المزمع أن نستخدم أسلحة متطورة لاختراق دفاعات العدو أكثر فأكثر، دافعين بالروس إلى التخلي عن “خيرسون”، المدينة التي تعتبر مفتاح الاستقرار الاستراتيجي في أوكرانيا. وأعتقد أننا لو أحرزنا تقدماً في كل من الجنوب والشرق فسنتمكن من تخيير بوتين بين التخلي عن المدن الجنوبية، بما فيها “خيرسون” و”مليتوبول”، في مقابل الاحتفاظ بجبال “دونباس”، وبين التخلي عن الأراضي المحتلة حديثاً في “دونيتسك” و”لوهانسك” في مقابل إحكام القبضة الروسية على الجنوب.
ومتى وصلنا إلى هذه اللحظة سيمسي بوتين على الأرجح أكثر جدية في شأن مفاوضات وقف إطلاق النار، أما نحن فسنظل ثابتين ومتمسكين بهدفنا المتمثل بدحر القوات الروسية عن أوكرانيا، ولو استمرينا في ممارسة الضغوط في هذا الاتجاه فقد يجد بوتين نفسه مرغماً على القبول بحل تفاوضي يقضي بانسحاب القوات الروسية من جميع الأراضي المحتلة، وقد سبق لبوتين أن سحب قواته من المناطق المحيطة بكييف بعد تعرضها لانتكاسات كافية على يد قواتنا، وإذا ما ازداد جيشنا قوة وتهديداً فسيكون لدى الرئيس الروسي أسباب وجيهة لتكرار تلك الخطوة، وعندئذ سيكون من السهل عليه تقديم التراجع على أنه بادرة حسن نية وخطوة تمهيدية للمفاوضات القادمة بدلاً من أن يبدو التراجع ضرورة محرجة، حتى لو جرت بطريقة منظمة وغير متسرعة، وستكون له حتى فرصة الادعاء بأن “العملية الخاصة” نجحت في تحقيق أهدافها المتمثلة في تجريد أوكرانيا من السلاح وتشويه سمعتها، بغض النظر عما يعنيه ذلك بالنسبة إليه.
وفي هذا السياق، يمكن لإقدام آلة الدعاية الروسية على نشر صور للوحدات والمعدات الأوكرانية المدمرة أن تدعم ادعاء بوتين وتساعده في تكريس الانسحاب دليلاً على معاملته الإنسانية للجنود الروس وخطوة حكيمة باتجاه السلام بوجه عام.
الخوف هو الشيء الوحيد الذي يجب أن نخاف منه
وفي المقابل، فإذا ما تمادى بوتين بتعنته وعناده فستواصل أوكرانيا زحفها نحو “لوهانسك” و”دونيتسك” ولن تتوقف حتى يعرب القيصر عن استعداده للتفاوض بحسن نية أو حتى يصل جيشنا إلى حدود أوكرانيا المعترف بها دولياً ويؤمنها، وسواء اختارت القوات الروسية الانسحاب أو أجبرت عليه فستكون أوكرانيا قادرة على خوض المحادثات مع موسكو من موقع قوة، وسنتمكن من السعي إلى تسوية دبلوماسية عادلة مع روسيا ضعيفة وأكثر إيجابية، وهذا يعني في النهاية أن بوتين سيجبر على الرضوخ للشروط الأوكرانية حتى لو لم يعترف بذلك علانية.
يتحفظ بعض صناع القرار الغربيين إزاء بذل جهد كبير لمساندة أوكرانيا خوفاً من رد فعل بوتين إذا تعرض لهزيمة نكراء في ساحة المعركة، ومن وجهة نظرهم يمكن لوضع مماثل أن يدفع بالرئيس الروسي الحانق والمعزول إلى خوض حملات جديدة من الاعتداءات الدولية، وفيما يسري بين القادة شعور عام بالقلق من أن يصبح بوتين إجمالاً أكثر خطورة وأصعب مراساً، يخشى بعضهم من إمكان استخدامه ترسانة بلاده النووية الهائلة.
في المقابل، إن بوتين ليس انتحارياً ولا أظن أن نصراً أوكرانياً سيفضي إلى حرب نووية، ومن المحتمل جداً أن يكون الكرملين بذاته قد تعمد إثارة هذه المخاوف وتغذيتها لأهداف استراتيجية.
إن بوتين سيد المناورات وأنا واثق تمام الثقة من أن الروس هم الذين يروجون لمخاوف تحذر من تداعيات محاصرة بوتين من أجل إضعاف الدعم الغربي لأوكرانيا، ولا ينبغي للولايات المتحدة وأوروبا الانخداع بترويجات مماثلة، فقد أثبتت لنا التجربة الفعلية أنه كلما تعرض بوتين للفشل فضّل التقليل من أهمية هذا الفشل والتستر عليه بدلاً من مضاعفته، على غرار حدث في موضوع فنلندا والسويد اللتين تقدمتا بطلبين رسميين للانضمام إلى عضوية حلف الـ “ناتو”، ولا شك في أن هذه الخطوة قد شكلت ضربة سياسية موجعة لبوتين الذي ادعى بأنه أغار على أوكرانيا بحجة وقف توسع الحلف، إلا أنها لم تستتبع بأي تصعيد. وعلى العكس من ذلك فقد حرصت الحملات الدعائية الروسية على التقليل من أهميتها، إذ زعم الكرملين أن الانسحاب من كييف، وهو فشل واضح آخر، كان بادرة “حسن نية” لتسهيل المفاوضات، وهذا هو بالتحديد النمط الذي سينطبق على هزيمة أوسع في ساحة المعركة لو حدثت. (وبمعنى آخر ستلعب أجهزة بوتين الدعائية دوراً في التقليل إلى أدنى حد من ردود الفعل المحلية التي قد يواجهها بسبب خسارته في أوكرانيا).
وبدلاً من التركيز على مشاعر بوتين يتوجب على الولايات المتحدة وأوروبا التركيز على الخطوات العملية التي يمكن أن تساعد بها أوكرانيا في تحقيق النصر، على اعتبار أن هذا النصر سيجعل العالم أكثر أماناً وسيستنزف القوات الروسية بحيث لا تعود موسكو قادرة على التدخل في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية وغرب البلقان، وكذلك سيؤدي ذلك الانتصار إلى تعميم الاستقرار العالمي من خلال تعزيز القانون الدولي والإثبات للمعتدين المحتملين الآخرين أن الهمجية نهايتها سيئة، ومن هذا المنطلق يتوجب على الغرب أن يعطي كييف ما تحتاج إليه في دفع الغزاة الروس إلى التراجع.
وإضافة إلى ما تقدم فسيكون لالتزام الغرب بدعم أوكرانيا حتى تحقيق النصر فائدة إضافية أخيرة تتمثل في إزالة الغموض الذي يكتنف الاستراتيجيات طويلة الأجل للولايات المتحدة وأوروبا تجاه روسيا.
واستطراداً، فمن شأن زوال ذلك الغموض أن يحفزها [الولايات المتحدة وأوروبا] على المدى الطويل ويساعدها في تجنب الإرهاق من الحرب، ويؤكد لها أن مهمتنا المتمثلة في إضعاف روسيا بشكل ملحوظ، ستمكنها [الولايات المتحدة وأوروبا] وبقية العالم من التفاوض بجدية مع موسكو متواضعة وأكثر إيجابية.
ونحن نتطلع قدماً إلى تحقيق ذلك لأن الديبلوماسية هي مصير كل الحروب، وفي المقابل فإن ساعتها لم تأت بعد، وفي الوقت الحاضر يبدو واضحاً أن الهزائم في ساحة المعركة تشكل طريق بوتين الوحيد إلى طاولة الحوار.
* ديمترو كوليبا هو وزير الخارجية الأوكراني
فورين آفيرز يونيو (حزيران)/ يوليو (تموز) 2022
المصدر: اندبندنت عربية