من منظور الواقعية السياسية التي ترسخت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وكردٍ على التوجهات المثالية التقليدية التي كانت تتمحور حول حلولٍ تُفضي لواقعٍ عالمي يسوده السلام والقيم الإنسانية بعد الحرب العالمية الأولى، يأتي كلام السياسي الأمريكي هنري كسينجر ورؤيته بضرورة تنازل أوكرانيا عن قطعةٍ من أراضيها مقابل لجم التوغل الروسي، ليكون عقلانياً من وجهة نظر البعض وتأكيداً على واقعية السياسي الشهير أو “استثنائيته” كما ذهب إليها البعض، حيث لمع نجمه في تطوير العلاقات الأمريكية الصينية وكذلك خلال الحرب الفيتنامية.
أما ردة الفعل الأوكرانية على هذا الغزو بقيادة الرئيس فولديميرزيلينسكي فأتت مثالية وبعيدة عن الحسابات السياسية، ليكون خيارها المقاومة، مُعليةً المبادئ والحقوق، ولتقول أنَه حتى لو لم تقف موازين القوى بجانب أوكرانيا فذلك لا ينكر عليها حقها في الدفاع عن سيادتها.
الواقعية السياسية هي الأساس الذي تبني عليه الدول الناجحة سياستها ضمن مجريات الأحداث الحاصلة، لكنها تبقى عاجزة عن إحداث تغييراتٍ كبرى تُفضي إلى حقبٍ تاريخيةٍ جديدة إن كان على مستوى المبدأ أو في الواقع، إذا إنَ الإيمان بمبدأ ما، هو القادر على ذلك، فهو الذي حرك الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز لاتخاذ قرار قطع النفط عن الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا إثر حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، ومحاولة هنري كسينجر نفسه، الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية الأمريكية آنذاك، إثناء الملك عن قرار القطع،قائلاً له: “إن طائرتي تحتاج للإمداد، ليرد عليه الملك: “وأنا أتمنى الصلاة في الأقصى”.
خيار المقاومة يأتي تحت مظلة الحقوق، حق الشعوب بالاستقلال وحق الدول بالسيادة، وإن تم تفسيره من منظورٍ سياسيٍ بحت فذلك يعني الانتقاص من أهمية فكرة الحقوق، والتي كانت سبباً بحد ذاتها عبر التاريخ إلى تغيير الوضع السياسي، إن كانَ داخلياً لدولة أو حتى العالمي، فأمريكا التي انتقل إليها السياسي كسينجر بعد ولادته الألمانية، بدأت ببناء دولتها بالمعنى الفعلي، بعد رفض سكان الولايات الأمريكية قرار الاستعمار البريطاني بفرض الضرائب على الشاي،المشروب الذي لا يحبه الكثيرون، وأنا منهم، ليكون ذلك الرفض شرارة الثورة الأمريكية (1965_1983)، وليكون على رأس نتائجها دستور الولايات المتحدة الأمريكية الحاكم المقدس لها، وفيها.
الدافع الذي انطلق منه هتلر وحتى بوتين الآن في غزوهم لدولٍ أخرى ومحاولة السيطرة عليها لم يعتمد على محاورَ ومعطياتٍ سياسية، بل أساسه الشعور بالظلم والإساءة من قبل الغير، كما يقولون !؟ ، تم توجيهه ليكون المبررَ لاستباحة سيادة الدول، أي أنَ الشعور الإنساني يبقى هو محرك الأفعال حتى السياسية منها، ولا يكفي واقع السياسة الدولية لتفسيره.
ستبقى الواقعية نظرية السياسيين المُعتمدة في اتخاذ القرارات، لتبقى المقاومة والإيمان بالحقوق خيار الشعوب والقادة، الذين يحلمون ببناء دولٍ ذات سيادة.
وصفُ زيلينسكي لكلام كسينجر “أنه يعيش في حقبة الـ 1938 ربما تجعله نتائجُ الغزو الروسي لأوكرانيا حقيقياً، فنشهد ولادة حقبةٍ جديدة لا تكون الدول العظمى هي المتحكمة، ولا يُتخذ القرار بناءً على حجم القوة، فالدول حتى لو تواضعت مقدراتها يبقى لديها القرار وخيار السيادة، لتعتمد الواقعية السياسية لتحقيق ذلك.
المصدر: الناس نيوز