المجاعة تعريفًا: هي ندرةٌ في الغذاء على نطاق واسع، تُسبِّبُها عدةُ عواملَ بما في ذلك الحروبُ، والتضخمُ، وفشلُ المواسم الزراعية، وانعدامُ التوازن السكاني، أو السياساتُ الحكومية. هذه الظاهرةُ عادةً ما ترتبط بالجفاف وبانتشار الأوبئة، وزيادةِ معدل الوفيات. فكلُّ قارةٍ مأهولة في العالم شهدت فترة من المجاعة عبر التاريخ، في القرنين التاسعَ عشرَ والعشرين، كان جنوبُ شرقِ وجنوبُ آسيا عمومًا، وكذلك شرق ووسط أوروبا، يعانيان من أكبر عدد من الوفيات بسبب المجاعة، وقد بدأت أرقامُ الوفيات بسبب المجاعة في الانخفاض بشكل حادٍّ منذ السبعينيات من القرن الماضي لتنحصر في أماكن محددة في إفريقيا!
أمَّا الفقرُ فقد عُرِّفَ: على أنَّه الحالةُ الاقتصاديةُ التي يفتقد فيها الفردُ الدخلَ الكافي للحصول على المستويات الدنيا من الرعاية الصحية والغذاء والملبس والتعليم؛ وكلِّ ما يُعَدُّ من الاحتياجات الضرورية لتأمين مستوى لائق في الحياة. في ضوء الشِّرْعة الدولية لحقوق الإنسان، يمكنُ تعريفُ الفقرِ بأنَّه وضعٌ إنسانٌّي قواُمه الحرمان المستمر أو المزمن من الموارد، والإمكانات، والخيارات، والأمن، والقدرة على التمتع بمستوى معيشي لائق، وكذلك حرمانُ الإنسان من الحقوق المدنية والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية الأخرى.
يبدو سوءُ توزيع الثروة، وسوءُ التنظيم، وكذلك الاتكالُ على الآخرين، والتقاعسُ عن العمل، وعدمُ التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع، والحروبُ، والاستعمارُ كلُّها من أسباب الفقر.
لكنَّ السؤالّ المهمَّ كيف يمكن محاربة الفقر والمجاعة التي يبشر بها قادة العالم؟ الجوابُ ببساطة بتغيير نموذج التفكير، نعم! وليس بأي شيء آخر. الحياة ببساطة هي تجسيد لفلسفتِك الخاصةِ ومنظورِك للحياة والظروفِ من حولك، لكن عندما تجعل حياتَك تجسيدًا لفلسفة غيرِك، عندها تحدث الكارثة؟ لقد عشنا لفترات طويلة قبل ثورات الربيع العربي بفلسفة غيرنا، و جعلنا نمط حياتنا تبعًا لفلسفة من يملك القوةَ الأكبر سواء كانت السياسية منها أو الاجتماعية-الثقافية (الأعراف والتقاليد)، أو الدينية (نظرة البيئة الدينية -التي خلقنا قدرًا بها – للمنظور الملموس و للغائب)، لكنَّنا حقيقةً لم نعشْ يومًا بفلسفتنا الخاصة؛ لأنَّنا تربينا لنكون تبعًا للأقوى، لا للأحق والأصح، ومفهومُنا للحق كان تبعًا لمفهوم التغلب، فالصحُّ والحقُّ فلسفة المنتصر، والخطأ والباطل فلسفة المهزوم.
من منظور التفكير هذا، لم تنفعِ الحلولُ القديمةُ في مواجهة المجاعات سابقًا، فلم تنفعِ الهجرةُ أو التكافلُ الاجتماعي في إيقاف المجاعة-على سبيل المثال- في بلاد الشام أوائل القرن العشرين. يبدو للمتأمل أنَّ من أخطاء التفكيرِ الجوهريةِ مقولة” أنَّ الحق يحتاج إلى القوة، والقوة تحتاج إلى الحق “, يبدو للنظرة الأولى أنَّ هذا أمرٌ لا خلافَ عليه، لكنْ إذا خُيرت بينهما فمن تختار؟ معظمنا يختار القوة ظنًّا منه أنَّه إذا امتلكها، انحاز للحق لاحقًّا، وهنا جوهر القصة!
يظن كثير من الإسلاميين أنَّ الإسلام سيختفي إذا انتهوا، أو كما يروج بعضُهم أنَّ الإنسانية سوف تنتهي إذا توقف الدعم عن منظمات العمل الإنساني، وأنَّ المعارضاتِ السياسية سيُقضى عليها إذا لم تُحابِ الولايات المتحدة وأوروبا والمال الخليجي، وتنزلْ عند رغباتهم! نلاحظ هنا أنَّ الموضوعَ منهجيةُ تفكيرٍ لا أكثر.
من خلال طبيعة عملي، عاشرت لسنوات كثيرًا من رجال الأعمال من جنسيات مختلفة، وبعد تجربة طويلة وجدت أنَّ رجالَ الأعمال المسلمين إذا خيرْتَهم بين الربح وتحقيق فرص عمل لشريحة أوسع من الشباب في مجتمعاتهم، أو بين الربح السريع في التجارة وبين سدِّ جزءٍ من فجوة الاكتفاء الذاتي عبر التصنيع المحلي لانحازوا بلا تردد للربح! وتكاد تسمع أجوبةً متطابقةً، والتبريرُ ذاته:” إذا امتلكتَ المال صنعتَ التغيير”! لكنَّ هذه المنهجيةَ في التفكير هي -في الواقع ومن باب التجربة-ما جعلت كافة ثروات المسلمين تُصرفُ في التدمير الممنهج للمجتمعات تحت ذرائع لا تُعَدُّ ولا تحصى!
في حادثة شهيرة في عام 1995، قال الرئيس مبارك للشيخ محمد الغزالي (رحمه الله)، وهو يربت على ركبته: ادعُ لي يا شيخ غزالي، أنا حملي ثقيل، لازم كل يوم أوكل (أطعم) سبعين مليونًا. عندها قال الشيخ الغزالي: “لم أشعرْ بنفسي وهو يقول ذلك، واستعدته الكلام أنت بتقول إيه؟! فكرر عبارته: أنا مطلوبٌ مني كلَّ يوم أوكل (أطعم) سبعين مليونًا” يقول الغزالي: “فوجدت نفسي أنفجر فيه، لأقول له: أنتَ فاكر نفسك مين؟ إياك أنت فاكر روحك ربُّنا! هو أنت تجدر (تقدر) توكل نفسك؟! يا شيخ اسكت، وأنت لو جت (جاءت) دبانه (ذبابة) على أكلك تأكله، ولا تجدر (تقدر) تعمل فيها حاجه.” فارتبك مبارك وتغير لونُ وجهه، وقال للشيخ الغزالي: أنا قصدي من الكلام المسؤولية التي عليّ. القصةُ نفسُها تكررت مع السيسي، وهو يخدر الشعب المصري بقوله يا ريت (يا ليت) معي مليارات حتى أصرفَها لكم!
تلك القصصُ تعكس منهجية تفكير، ستوصلنا بالتأكيد الى مجاعة حقيقية خلال الأشهر القادمة، وعندها لن ينفعَ استجداءُ من يملك الغذاء من الدول الكبرى، ولن تنفع أموالُ النفط، ولا البيتكوين، ولا الأسهم في الشركات الغربية والأندية الرياضية التي تملكها الصناديق السيادية الغنية التي تُقدَّرُ قيمتها بالتريليونات؛ لأنَّها جميعًا لا تصنع رغيفَ خبز يتقاسمه القوي مع الضعيف. بيل غيتس أحد السحرة الأعظم والأكثر عبقرية منذ سنوات خلت يستثمر في شراء الأراضي الزراعية، أمَّا مشروعُ زراعة القمح في كازاخستان، فقد عرضته على العديد من أصحاب القوة منذ سنوات خلت، لكن لم يتشجع عليه أحدٌ؛ لأنَّ عائده المادي لا كما يشتهون! كذلك لم تنفعِ المليارات التي صرفتها المؤسسات الإنسانية والدولية منذ 1948 إلى اليوم في استصلاح هكتار من الأرض؛ لأنَّ اللاجئين فضلوا كيس الدقيق الأبيض بعد الوقوف في طوابير على العمل الشاق في الزراعة!
ليس الفقر ما خشيه الرسول الأعظم (ص) على أمته، وليس التفضيل بين الشعوب والأمم وبني البشر عند الله بالقوة بل بالتقوى “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (الحجرات-13). من هنا نكتشف أنَّ رجل الأعمال (الذي يُنعت بالكافر) الذي في نهاية مسيرته يتبرع بمصنعه لعماله أو لأعمال الخير، قد فهم جزءًا من هذه الحقيقة، بينما جهلها كلُّ رجال الأعمال والسياسة وأصحاب القوة المسلمون إلا من رحم ربي! ربما لأنَّنا لم نملك يومًا الإرادة أو حتى الرغبة أن نكونَ أحرارًا فيما نملك!
لانقصد هنا أنْ نلقي اللوم فقط على أصحاب القوة فهم إفراز طبيعي لبيئتهم، ولكن نلقي باللوم على المجتمع كاملًا عندما تصبح شجاعةُ الشيخ محمد الغزالي حادثةً خارج المألوف، وليست منظومةَ تفكيرٍ لبشر يدَّعون أنَّهم يحملون تعاليم الحقّ!