في أوج معارك إدلب الأخيرة، وخلال اجتياح روسيا وقوات النظام السوري أرياف المحافظة، وفي مقابلة مصوّرة قريبة من خطوط الجبهات العسكرية، قال زعيم تنظيم “هيئة تحرير الشام” أبو محمد الجولاني إن “الشعب التركي معني بمعركة إدلب بشكل مباشر، وسيكون لها تبعات سلبية على تركيا، عسكرياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً حتى”، واعتبر أنّ “إدلب هي امتداد سني لتركيا”، في رسالة استجداء صريحة للأتراك لوقف الاجتياح الروسي وسط تهاوٍ كبير للمناطق الخاضعة لسيطرة “تحرير الشام” وفصائل المعارضة العسكرية الأخرى، لكن ما الذي جرى بعد اتفاق موسكو 5 آذار/ مارس بين الجانبين الروسي والتركي وإعلان تسيير دوريات روسية ـ تركية مشتركة على الطريق الدولية حلب ـ اللاذقية إلى جانب اتفاق وقف إطلاق النار؟
يسود إدلب الهدوء، بعد “وقف إطلاق النار” بموجب اتفاق موسكو الأخير، إلا مناوشات وتوتر حاد قرب بلدة النيرب شرق إدلب على الطريق الدولية حلب ـ اللاذقية لمنع تسيير دوريات عسكرية روسية وفقاً للاتفاق ذاته، بين المعتصمين ضمن ما يعرف بـ”اعتصام الكرامة” والقوات التركية المنتشرة على الطريق من أجل تسيير آمن للدوريات، في ظل وجود مجموعات “ظلاميّة” بحسب توصيف الرئيس التركي “أردوغان”.
وفي وقت يؤكد فيه المعتصمون على مدنية الاعتصام، قالت مصادر لـ”بروكار برس” في وقت سابق إنّ “تحرير الشام” وحكومة “الإنقاذ” التابعة لها، يدعمان الاعتصام، وأكدت المصادر أنّ كلاً من “تحرير الشام” والإنقاذ ألزما عناصر وأمنيين وموظفين تابعين لهما بدوام رسمي في الاعتصام على الطريق الدولية، تحت طائلة الفصل أو قطع المرتبات الشهرية.
وعلى ضوء الأحداث الأخيرة على الطريق الدولية (M4)، يحمل الجانب التركي التزاماً بتسيير دوريات روسية، بينما “تحرير الشام” تعلن عن رغبة صريحة في فتح معبر تجاري مع النظام السوري لتنشيط اقتصادها وفتح منفذ مالي جديد، ضمن سياستها التوسعية في إدلب، وتبدو هذه المعطيات طبيعية في ملف إدلب المعقّد بعد أن اتّجه للتدويل خلال المعارك الأخيرة والمخاوف من موجات لجوء ضخمة، لكن ما أثرها على العلاقة المستقبلية بين “تحرير الشام” والأتراك؟
مواجهات مباشرة
أدت مواجهات مباشرة ولأول مرة منذ بدء الاعتصام المدعوم من “تحرير الشام”، إلى وقوع قتلى وجرحى في صفوف المعتصمين عرف منهم عنصر في جهاز الشرطة التابع لـ”حكومة الإنقاذ” وآخر في صفوف “تحرير الشام” بنيران القوات التركية بعد محاولتها فتح الطريق الدولية وفضّ الاعتصام، الأمر الذي دعا معتصمين إلى قطع الطريق الدولية إدلب ـ باب الهوى لساعات قليلة احتجاجاً على “اعتداء” القوات التركية.
في حين رصد ناشطون محليون، تحليق طائرة مروحية تركية قرب معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، قالوا إنها نقلت مصابين أتراك نتيجة المواجهات على الطريق الدولية حلب ـ اللاذقية.
وفي وقتٍ تحدث فيه ناشطون ومراصد محليّة عن استهداف متبادل للآليات العسكريّة بين القوات التركية و”تحرير الشام”، نفت الأخيرة استهداف عناصر لها من قبل القوات التركيّة قرب بلدة النيرب شرق إدلب أو إجراء أية عملية تفاوض مع الجانب التركي على خلفية الأحداث الأخيرة.
ماذا تريد “تحرير الشام”؟
تصر “تحرير الشام” على فرض سطوتها على الطريق الدولية في وجه الالتزام التركي بتسيير دوريات روسية على الطريق، لسبب اعتبره العقيد “مصطفى فرحات” محلل عسكري واستراتيجي أن “تحرير الشام” تحاول إيجاد موقع سياسي لها في منطقة إدلب وفي سوريا عموماً، والحصول على بعض المزايا والامتيازات من إدارة معابر وغيرها، والاعتصام القائم هو محاولات للضغط من أجل ذلك.
وأوضح “فرحات” لـ”بروكار برس” أنّ ذلك ينطبق على تيار معتدل في “تحرير الشام”، وإنما هناك تيار آخر يحاول خلط الأوراق بشكل دائم، ويتبنى نظرية “الجهاد المفتوح” العابر للحدود ولا يهمه التوصل لأي اتفاق وغير متفق مع أي تسوية سياسية أو اتفاق سياسي ولارتباطه بأجهزة استخبارات فهو الأخطر على الشعب السوري.
ونوّه فرحات إلى أنّ الطريق الدولية (M4) هو ذريعة لعدة أطراف منها روسيا وإيران وكذلك الشق المتشدد من “تحرير الشام” لإفشال اتفاق إدلب، وخاصةً أن التعهد بفتح الطرق الدولية كان شرطاً في وقف الهجمات على إدلب من قبل روسيا، ليكون تمهيداً لتسوية سياسية عامة في سوريا.
اقتلاع تركي لـ”تحرير الشام”:
التنسيق العسكري ـ الأمني غير المعلن بين تركيا و”تحرير الشام” عبر فصائل معتدلة ومقربة من تركيا منها “فيلق الشام”، في معارك النيرب وسراقب التي شارك فيها عناصر “تحرير الشام” بتغطية جوية ومدفعية تركية، إلى جانب دخول أكثر من 20 ألف جندي تركي وآلاف الآليات العسكرية المنتشرة في نقاط عسكرية، على مرأى “تحرير الشام” يبعد أي احتمال مواجهة عسكرية حقيقية بين الأتراك والأخيرة، بحسب مراقبين.
الكاتب والمحلل السياسي “أحمد الرمح” اعتبر أنّ المواجهات الأخيرة كانت بمثابة “قرصة أذن” تركية لـ”تحرير الشام” حتى تعود للحدود المتفق عليها في اتفاق موسكو الأخير، إضافة إلى اتفاق سوتشي 17 أيلول/ سبتمبر 2018 بين الجانبين الروسي والتركي.
وقال “الرمح” لـ”بروكار برس” إن تركيا ستنشر على حدود الطريق الدولية حلب ـ اللاذقية قوات من “الجيش الوطني” المدعوم من قبلها، على ضوء اتفاقها مع روسيا، مقابل انسحاب “تحرير الشام” من المنطقة الواقعة على الطريق الدولية.
وأشار إلى أنّ “تحرير الشام” تريد الثمن مقابل عودتها وانسحابها إلى المنطقة المتفق عليها، وهو ما يفسّر التوتر القائم في منطقة الطريق الدولية والمناوشات والمواجهات التي تحدث هناك.
التوجه التركي ومصير “تحرير الشام”
يقول “فرحات” إنّ تيار “الغرباء” في “تحرير الشام” الذي أشار إليه في حديثه، وهو غير المنسجم مع أي اتفاق أو تسوية سياسية حول إدلب، لا يمكن أن يكون له مستقبلاً في سوريا أو المنطقة، في حين هناك تيار يميل إلى الحلول ويتفق مع الرؤية التركية في تفويت الفرصة أمام النظام وروسيا للانقضاض على محافظة إدلب.
ومع غض الطرف حتى الآن عن هيمنة “تحرير الشام” في إدلب، على الرغم من الزخم العسكري التركي الذي من الممكن قلب الوقائع على الأرض، يرى مراقبون أنّ التوجه التركي في الوقت الحالي هو تثبت وقف إطلاق النار لمنع موجات نزوح نحو بلادهم أو أوروبا وفقاً لرؤية تركية ـ أوروبية ـ أمريكية، وهو ما اتفق معه محدثنا “فرحات” بالإضافة إلى فتح الطريق الدولية.
ويتابع لـ”بروكار برس”، هذا التجمع البشري الكبير في إدلب بحوالي 4 مليون نسمة، لا يقبل العودة إلى النظام السوري بعد ارتكابه كل هذه المجازر، ما يجعل تركيا متمسكة بملف إدلب لأن تدفق هذا الخزان سيشكل خطراً على الأمن القومي التركي وحتى على أوروبا، وإلى نضوج حل سياسي عام في سوريا”.
المصدر: بروكار برس