من دون الغوص في الماضي العتيق لمنطقة الشام وبأحداثها ومآلاتها اللتان خلفتا تاريخاً ناصع البياض وجعلتا منها مدعاة للفخر والإكبار، نقفز إلى القرنين العشرين والحادى والعشرين لنجد نضوجا ووعيا متقدمين فى السياسة وفى العلوم أفرزه التلاقح والتواصل الحضاري بين هذه البقعة الخيرة من الوطن العربي والعالم الخارجي مقارنة بينها وبين دول المنطقة فى ذاك الزمان .
نشأت حركات تنويرية سياسية وإجتماعية ودينية، باعثة ومحفزة للهمم على أرضية ومعطيات وطنية وقومية مناهضة للوجود الأجنبي المتمثل فى الإنتداب الفرنسي، الذى دخل بأجندة ثقافية ورؤية إقتصادية تضع الهيمنة والسطوة على مراكز الإنتاج وأدواتها الفاعلة فى أيدى قلة برجوازية تأسيا بحال فرنسا خاصة وحال أوروبا عامة.
كان هذا التباين بين مجتمع متأصل و مشرب بالأعراف وبالتقاليد المحلية و مشبع بروح الدين وبين مجتمع آخر مختلف عنه فى النشأة وفى التطور بسط أرضية خصبة وهيأ لظروف مواتية أنبتت رؤى متقدمة و أفكارا نيرة على وقع سياسات الإنتداب الفرنسي، التى أحدثت تغيرات إقتصادية وإجتماعية واسعة لم تكن معروفة من قبل، فتحت شهية العناصر الطفيلية غير المنتجة فى التحكم في مصادر الإنتاج و مقدرات البلاد.
ولذا كانت سوريا هي السباقة فى نشأة الأحزاب والحركات السياسية فى العالم العربي وكانت لها نظم أساسية وبرامج مبنية على أفكار نظرية وموضوعية وكانت تصب معظمها في مقاومة ومحاربة الإنتداب و إقامة البديل الوطني أو القومي أو الأممي.
وقد تكونت أحزاب لا يمكن حصرها فى تلك المرحلة وفى عهد الإستقلال كالكتلة الوطنية وحزب الإستقلال و الإتحاد السوري وحزب الشعب والحزب الوطني وحركة التحرير العربي والحزب السوري القومي الإجتماعي وحزب الأحرار والحزب الشيوعي والحزب العربي الإشتراكي وحركة الأخوان المسلمين وحركة الإشتراكيين العرب وحزب البعث العربي الإشتراكي وحزب الوحدويين الإشتراكيين وحركة الإشتراكيين العرب والحزب الوحدوي والإشتراكي الديمقراطي.
وأبان قمة الكفاح الوطني ظهر أكثر من 25 حزبا كلها إندثرت. وكثير من تلك الأحزاب تعرض لخلافات فى الفكر و فى المنهج وبعضها إنقسم إلى أحزاب صغيرة غير فاعلة وأخرى تحالفت مع السلطة وبعضها إندمج فى أحزاب أخرى لتقاربها فى الأفكار.
تراجع الحراك السياسي وفقد الكثير من زخمه بعد إعتلاء حزب البعث السلطة وسيطرته على مفاصل الدولة السياسية والإقتصادية والعسكرية والأمنية والعدلية والإعلامية وأصبح نظاما شموليا يمارس التنكيل والإقصاء والمطاردة لكل قيادات ونشطاء الأحزاب الأخرى وحكم البلاد والعباد بيد من حديد ومثل أسوأ عنوان للظلم والطغيان والإستبداد فى العالم المعاصر.
وقد أثر الصراع السلطوي فى قيادات الحزب وما صاحبها من أحداث مواكبة كانت مدعاة لعلو قسوتة و تعاظم إستبداده وبخاصة فى الفترة “الأسدية” ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، هزيمة حرب 1967 وتسليم هضبة الجولان للعدو الصهيوني على طبق من ذهب ومجزرة حماة و مقتل الآلاف فى سجن تدمر 1983 والتدخل السافر فى لبنان والذى قاد إلى حالة من الفوضى والإنتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان كشفت عورة نظام يدعي الحرية والإشتراكية و الوحدة.
ومكن النظام “الأسدي” الطائفة العلوية من الإستحواذ على مقدرات البلاد الإقتصادية وإلى هيمنة الفئات غير المنتجة على منابع الإنتاج ومراكز الإستثمار الحقيقية وعلى مفاصل السلطات السياسية والعسكرية والأمنية وبذلك تحولت سوريا إلى سجن كبير تتحكم فيه أسرة الأسد وأسرة مخلوف والطائفة العلوية على الثروة والسلطة و تركوا الفتات إلى من تحالف معهم من أحزاب كرتونية.
واقع الظلم والقهر والإستبداد الذى دمغ هذه الحقبة فرض معطيات غير مسبوقة قادت إلى إبتكار أدوات تناسبه فى المقاومة والتصدي وكان طبيعيا أن تلجأ معظم الأحزاب والحركات السياسية المعارضة إلى التنظيم والعمل السري كسلاح مجرب لدى الكثير من حركات المقاومة العالمية المشابهة .
وحملت حركة العروبيين السوريين وتنظيم الأخوان المسلمين وغيرهما من الحركات الليبرالية لواء النضال من أجل وطن حر وديمقراطي.
هذه الإستهلالة تفسر لنا تباين وجهات النظر وإختلاف المعارضة حول مجمل القضية السياسية وسبل وأدوات النضال لم ينشأ من فراغ بل له مرجعيته التاريخية الفكرية والثقافية وكان من المفترض إستغلاله و توظيفه إيجابيا لإثراء الحركة النضالية ورفدها برؤى حديثة معمدة بتلاقح الخبرات والتجارب والمعرفة.
فى عام 2011 إندلعت الثورة السورية كواحدة من حلقات ثورات الربيع العربي بعد إنتصارات مجيدة للشعب العربي فى تونس و مصر و ليبيا واليمن وكان النظام قد أعد العدة لمواجهة الثورة – بعد كانت إرهاصاتها تلوح فى الأفق – بعنف وقسوة لم يشهدها العالم حتى فى العصور الظلامية ومارس القتل والسحل والإغتصاب والتعذيب والإعدامات الجماعية ودفن المناضلين أحياء وهدم المنازل على رؤوس سكانها وإلقاء البراميل الحارقة وإستخدام الأسلحة والمواد الكيمائية والغازات السامة المحرمة دوليا ودخل فى تحالفات إستعمارية مع نظام الملالي الإيراني وحليفه حزب الله اللبناني ومع روسيا وفتح المجال للتدخل الأمريكي لدعم الأكراد ولتركيا لمحاربة الأكراد، وكان لكل طرف حساباته ومراميه الشريرة وفى المحصلة النهائية كان النظام العالمي الرسمي يسعى لتوفير الحماية والأمان للعدو الصهيوني وتمكينه فى لعب دوره الأساسي فى ضرب تطور و إزدهار الأمة.
فى محاولة لإيجاد المسوغ والمبرر لضرب الحراك الثوري فى كل من سوريا و العراق ، تفتقت عقلية المخابرات العالمية فى صنع ما بات يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية وبثت حوله هالة مضخمة من الإدعاءآت و الأكاذيب وجعلت منه خطرا داهما يقضي على الحضارة الإنسانية ويهدد السلام والأمن العالميين وأوهموا الرأى العام بأن جيشه الجرار والمكون من عشرات الآلاف قادر على تغيير العالم و العودة به إلى العصور الوسطى.
الآن مضى هذا التنظيم وأصبح أثر بعد عين، فأين ذهبت تلك العشرات من آلاف القوات؟ لا أحد يتجرأ فى أن يقول بأنها كانت كذبة كبري وفعل خبيث، كان الهدف منه إذلال شعب وتدمير وطن وشيطنة دين قويم!
وبعد مقاومة جسورة من الشعب السوري سقطت أعداد مهولة من الشهداء والجرحي والمفقودين و خلفت أكبر أزمة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية، إذ بلغ عدد اللاجئين حوالى 5.7 مليون وفقا لمفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين منهم 3.7 مليون فى تركيا والبقية موزعة بين لبنان والأردن والعراق وأوروبا بالإضافة إلى 6.2 مليون نازح داخلي، فمن بين 23 مليون كانوا يعيشون قبل الثورة تمكن 9 إلى 10 ملايين فقط من البقاء في منازلهم الأصلية و وفقا للمرصد السوري لحقوق الإنسان فإن 138 ألفا قابعين فى سجون النظام بمن فيهم 86 ألفا فى عداد المفقودين أو المختفين قسرا.
وبعد مرور أكثر من 11 عاما على الثورة تبدو الحالة السورية أكثر تعقيدا بعد أن أستثمر النظام تحالفاته وإنتصاراته على الأرض لتثبيت موقعه إقليميا وعالميا، فى ظل تراجع زخم النضال الشعبي وخذلان النظام العربي الرسمي وإجهاض معظم ثورات الربيع العربي إستطاع أن يرمم علاقته مع بعض الدول ويعيد إعتباره عبر تواصل دبلوماسي يسعى حثيثا لرجوع سوريا إلى مقعدها فى الجامعة العربية وكما أن محاولات الأمم المتحدة فى التدخل لحل الأزمة تعطي الإنطباع بأن الحل كان معدا سلفا بمنظور يضع سوريا على واقع تعده مراكز خارجية تغيب فيه إرادة الشعب و الطبخة تعد فى على نار هادئة فى اللقاءات المتكررة بجنيف بغرض وضع دستور يكرس لنظام طائفي ومناطقي وعرقي يغيب الهوية العربية الإسلامية بعد التغيير الديمغرافي بفعل الإستيطان الفارسي والكردي بدعم من إيران و أمريكا.
ولم تفلح معظم الوساطات فى أن تنهى الخلافات بين الأحزاب والفصائل السورية المعارضة مما أضعف روح المقاومة وأزكى الشعور العام بالإحباط لدى الشعب ولدى المتعاطفين من الشعوب الأخرى.
فالوضع أضحى حالة خاصة وأعراضها جلية ولكن ليس فى مقدور أحد أن يقدم الوصفة الناجعة لعلاجها غير أهلها أصحاب المصلحة الحقيقية فى الحل والعقد.
وهنا تبرز قاعدة عامة مستفادة من تجارب الشعوب تذكرنا بأنه لابد من ترك كل الخلافات جانبا حتى يحقق النصر وبعد ذلك يمكن لكل تنظيم طرح رؤيته وأفكاره للشعب بطريقة ديمقراطية ليختار من هو أفضل وأقرب إلى هواه وتطلعاته.
وهكذا إنتصرت الثورة الجزائرية والثورة الفيتنامية وهناك من تنازعوا وفشلوا قبل النصر وأوضح مثالين معاصرين هما الثورة الفلسطينية والثورة السودانية.
ولذلك لابد من تواضع الاحزاب والحركات والنخب المعارضة وتوافقها على برنامج “قاسم مشترك” يلبي متطلبات المرحلة النضالية ويهيء إلى المرحلة الإنتقالية بما يلزمها من إشتراطات وقوانين تؤسس لمرحلة ديمقراطية مستدامة على قاعدة المواطنة وتسودها العدالة و الحرية و المساواة.
هذا ليس درسا أو تطاولا لشعب نحمل له معزة وإجلالا جبل على البذل والعطاء والفداء، وهو يعيش حينا من الدهر تعاظمت عليه المصائب والمحن، وهو نداء جهد المقل لعله يجد أذنا صاغية، وقلبا مفتوحا صادقا ويجمع القوم على قلب رجل واحد.
المصدر: “المدارنت”..