يلفت النظر في سورية التعاملُ مع صفة “مُعارض” وكأنها صفة ثابتة للمُعرّف به، وكأنها مهنة ثانية له، فيقال: فنان معارض، أو كاتب معارض أو سياسي معارض، إلخ. ويمتد ذلك ليشمل التعريف بوسائل الإعلام، فيقال: مجلة معارضة أو قناة فضائية معارضة، إلخ. بالفعل، شكلت سورية، خلال العقود الستة المنصرمة، نموذجاً توضيحياً لظاهرة المعارضة المؤبدة. والحقّ أنه لا يصعب فهم هذا الثبات في الصفة، حين نتأمل الحال بوجود سلطات حاكمة تسعى لأن تكون مؤبدة، ويتوافر لها من الوسائل والسبل ما يمكّنها من تحقيق سعيها ذاك.
من طبيعة الأمور أن توجد، إلى جوار السلطات المؤبدة، معارضات مؤبدة لا تكفّ عن معارضة السلطة الحاكمة، فيما ينقصها، على نحوٍ ثابت، وسائل تغيير هذه السلطة، فتكون، والحال هذه، ضحيّة مؤبّدة لسلطةٍ أغلقت كل سبل التغيير المشروعة وغير المشروعة، وحبست المعارضة في المعارضة.
السلطة المؤبدة أنتجت كتلة سياسية صمّاء عبر صهر السلطة مع الدولة، ثم احتلال المجتمع بمزيج من القمع والترهيب والتحكّم بالعناصر الأساسية للحياة العادية. هذا التكوين المسخي الرهيب الذي يختفي وراء اسم الدولة وشكلها، يتغذّى على الفساد والعصبيات، وتستره أيديولوجيا سياسية بسيطة ومرنة، غايتها تعطيل إمكانية أي عمل سياسي معارض، أيديولوجيا تقوم على تأبيد الاستثناء والطارئ: استحضار خطر خارجي لا يزول أو الاستناد إلى كلام عن الخصوصية واستبطان المؤامرة، أو إلى “أبوّة” أو “عبقرية” القيادة التي نادراً ما يجود الزمان بمثلها، إلخ. الثابت في هذا المجهود الأيديولوجي المسطح إنكار مبدئي لحق أي معارضة بالوجود، ذلك أن الإقرار بحق وجود معارضة يقود إلى نسف مبدأ أبدية السلطة، لأنه يفتح، في النظرية على الأقل، إمكانية وجود سلطةٍ أخرى، وهذا في عرف السلطات الأبدية ضرب من الشِّرك.
انتهى هذا الواقع الثقيل (امتلاك السلطات إمكانات هائلة لتأبيد نفسها، في مقابل فراغ يد المعارضة) إلى تحطيم كل صوت معارض أو حتى مستقل، وإلى إنتاج ملايين الكوارث الحزبية والشخصية والعائلية، ليس فقط لمن تجرّأ على رفع الصوت، بل ولمن لم يكن ممتثلاً بما يكفي لوضعه خارج دائرة الشك والشبهة، وبما يكفي لحمايته من كيد أو غيرة “مواطنين” آخرين ممتثلين، نقول لم يؤدّ هذا الواقع إلى ذلك فقط، بل تسلل إلى ذهنية المعارضة ونفسيتها، وأنتج لديها شكلاً من التكيف، أو الاستسلام والقبول النفسي باستحالة الخروج من حالة المعارضة، أي القبول الضمني باستحالة الانتصار. بات في قرارة المعارضة السورية نفسها قنوط شبه تام من إمكانية التغيير، فتحوّل النشاط المعارض إلى ما يشبه الفعل الأخلاقي بوصفه “موقفاً للتاريخ” أو “كلمة حقّ في وجه سلطان جائر” يمكن أن تودي بقائلها، ولكن لا بد من قولها.
الأخلاقية في هذا النوع من المعارضة غطّت على الضعف السياسي، بمعنى أن القمع المديد للمعارضة أعطاها قيمة معنوية مستقلة عن السياسة، قيمة مستمدّة من الجرأة والتضحية والحق بالوجود بصرف النظر عن جودة الأفكار السياسية أو رداءتها. على هذا، باتت الشكوى من بطش السلطة وفسادها تتفوّق لدى هذه المعارضة على الاجتهاد في اجتراح السبل والمخارج المدروسة والعملية من الأزمات، ذلك أن حوافز مثل هذا الجهد، إذا توافرت الكفاءات، تبدو أقل بكثير من متاعبه، نظراً إلى أن مثل هذا الجهد لا يجد سبيله إلى الاختبار في الواقع، ولا يوجد من يكترثون به، لأنه صادر عن جهةٍ لا تمتلك من أمر تنفيذه شيئاً.
الصعوبة “الأمنية” للعمل المعارض ترافقت مع سهولة سياسية في هذا العمل، فالنشاط السياسي المعارض صار مزيجاً من هجاءٍ سهلٍ لسلطات مكروهة سلفاً، وتكرار مملٍّ لعيوب هذه السلطات ومظالمها، إلخ، يضاف إلى كلام عمومي عن محاربة الفساد وعن التنمية وعن تحرير التراب الوطني وحل القضية الكردية، إلخ.
صعوبة تحدّي السلطات القائمة، وما يبدو من استحالة تغييرها، جعلا المعارضة ترى في مجرّد الحفاظ على صوت معارض انتصاراً بحد ذاته. وإذا كان هذا لا يخلو من الصِّحة، فإن له انعكاسات سيئة على نظرة المعارضة إلى ذاتها، وعلى حديثها السياسي وطروحاتها التي تميل، تحت هذا الضغط، إلى البعد عن الواقع باتجاه رومانسي أو متطرّف. ولا يزال مثل هذا الخلل قائماً بعد أكثر من عقد على اندلاع الثورة السورية. يتجلى هذا في غزارة “النقد” (نقد الجميع الجميع) وقلة المقترحات العملية وندرة المبادرة إلى تنفيذ هذه المقترحات من دون الاكتفاء بصوغها على الورق. الاعتراض على أي فعل سياسي يقوم به آخرون، وإغراقه بشتى صنوف التهم والتشكيك، من دون عرض سبيل أو سبل بديلة، من أعراض الإصابة بالمعارضة المؤبدة التي لا تجد ذاتها إلا في فعلٍ معارضٍ لانهائي لا توفر منه سوى ذاتها، بعد أن باتت تجد في الرفض و”المعارضة” ليس فقط مبرّر وجودها، بل وتجد فيه أيضاً متعة مستقلة.
الجديد في هذه الحالة بروز منصّات إعلامية شخصية، يوفرها التطوّر الرقمي الواسع، لأفرادٍ يمتلكون مهارات إعلامية، يعوّض بها بعضهم عن الفقر السياسي والفكري لديه. يصبح هؤلاء مرهونين للمنصّة التي أنشأوها، ويمكن أن تشكل، في عالم اليوم، مصدر دخلٍ يقوم على عدد المتابعين. وهكذا يغلب لدى بعضهم الميل إلى جذب المتابعين على الميل إلى قول ما يفيد، أي يغلب الميل إلى أن يكون المضمون مسلياً أو فضائحياً على أن يكون مفيداً، فتحلّ السخرية محل النقد، ويتجاوز الكذب على الحقيقة. وغالباً ما يكون كل من يسعى لخطوة عملية، ضحية مرشّحة لهذا الصنف من النقد، أو قل من “البهدلة”.
المشهد السوري المعارض الذي تشكّل على هذه الخلفية هو الاقتصار على استهداف أي فعل أو خطوة عملية يقوم بها “الآخرون”، من دون تقديم خطوة بديلة، كما لو أن البديل غياب أي خطوة عملية.
المصدر: العربي الجديد