بين الفينة والأخرى تبرز في حياتنا ظواهر ومواقف تعمق خلافاتنا وتباعد بين وجهات نظرنا، تصيبنا، أحيانًا، بالدهشة، وتدفعنا، دائماً، للتفكير في حالنا ومآلاتنا، كما البحث في جذور ومضامين هذه المواقف الغريبة والصادمة، الثقافية والمعرفية والسياسية، وحتى الدينية.
ظواهر الانقسام طبيعية وصحية وإيجابية في عالمنا وواقعنا، وهي من سنن الخلق منذ الأزل، تبعاً لمرجعياتنا ووعينا وإدراكنا، خصوصاً إذا ما تناولت شأناً عاماً، بحصيلة تدافع الأفكار واختلاف زوايا الرؤيا يمكن تطويرها وانضاجها، وسد مكامن الخلل والقصور فيها، لكن في المقابل ما يصيبنا بالصدمة والخيبة، بعض المواقف التي تشير بشكل واضح إلى قصور وعينا وجهلنا واستنادنا إلى مناهج تفكير ومرجعيات تتنافى والفطرة الانسانية السليمة، عدا عن شكنا في أصولها واقتباسها.
طغت في الفترة، أو السنوات الأخيرة، لدى فئة منا (ذهنية التحريم)، التي تزعم دوماً حرصها على الأصول والثوابت، وتجنب الشبهات والانحرافات، وكأنها الوكيلة على فهم نواظم الحياة وقوانينها، ومرجعياتنا الدينية، وعقائدنا التي هي بطبيعتها متغيرة، متبدلة، بتغير الأزمان والأحوال، وتحتمل كلها قراءات متعددة، الأساس فيها الإنسان وكرامته.
من أمثلتنا العديدة في الآونة الأخيرة ماجرى من نقاش بعد استشهاد شيرين أبو عاقلة، مراسلة قناة الجزيرة الفضائية في فلسطين، وجواز الترحم عليها من عدمه، وهو موقف تكرر في السنوات الأخيرة، في حالات مشابهة، ما يدفعنا للقول بجرأة ووعي إلى ضرورة مراجعة خطابنا الديني، من أمور الدين والدنيا، وتغيير نظرتنا إلى أبناء جلدتنا وشركائنا في الوطن، دون تعصب وانغلاق، خصوصاً مع انبعاث نزعات لن تفضي بنا إلا إلى الفرقة والتبعثر والجحيم.
ليست القضية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، وهي تستحق ذلك بكل جدارة وإنصاف واستحقاق، بل ماهو أبعد من ذلك وأعمق منه، هي نحن والآخر، نحن و”الأصوليات” التي تتحكم بنا وتسير حياتنا، وتشدنا إلى قعر الهاوية، في وقت نحن فيه مطالبون بالانفتاح على العالم وتياراته الحديثة، باعتبار ذلك طريقاً وحيداً لنهضتنا وتقدمنا، وتعزيز مكانتنا ودورنا الانساني والحضاري.
وإذ ندعو إلى تغيير خطابنا، بل إلى ثورة في فكرنا وثقافتنا، فهي ليست دعوة مجردة، طوباوية، تغفل الوقائع وتقفز فوقها، لأننا ندرك بوعي وأصالة وإحساس وطني عميق ما أفرزته عقود الاستبداد، بل حقبها الطويلة، من مشكلات عميقة في بنى مجتمعاتنا وإنساننا المغلوب والمقهور، ونحن لا نرى في ثورتنا العظيمة في مارس/ آذار 2011 إلا انتفاضة على كل جوانب حياتنا وقيودها، وسعياً إلى الحرية بكل جوانبها.
لن نجادل أحداً في أمور الفقه الديني، فذلك له مكان آخر، إنما نتطلع من دعوتنا هذه إلى توحيد أواصر المحبة والإخاء الوطني والانساني، بما يعيننا على تحرير أوطاننا وتخليصها من كل أشكال الظلم والقهر والطغيان، ونزع فتيل الاحتراب المجتمعي تحت دعاوى ومزاعم باطلة، تجاوزتها البشرية في تطورها الصاعد نحو تعزيز قيم حقوق الإنسان وشرعنتها، وكل ذلك لا يعني عدم التفريق بين الظالم والمظلوم، المعتدي والمعتدى عليه، الحق والباطل.
في هذا الصد ندرك ونتذكر أن أصحاب (ذهنية التحريم) في السنوات الماضية كان دأبهم وشغلهم الشاغل هذه (القشور) التي أبعدتنا عن الجوهر والأصل في معركة استرداد حريتنا وكرامتنا، وكانت النتيجة وبالاً علينا جميعًا مكنت نظام القتل والاجرام من أن يستثمر فيها، ويستمر حتى اليوم محاولاً إعادة تقديم نفسه للعالم، ومحاولاً وصفنا بكل نعوت التطرف والتشدد، ونحن منها براء.
آن لنا أن نغير ذهنيتنا وخطابنا لأن ذلك وثيق الصلة بحريتنا وكرامتنا وغدنا المنشود، ومن غير اللائق والمعيب حقاً أن تبرز بيننا تلك الأصوات، وتدخلنا في قضايا لا نعتقد أنها كانت يوماً مطروحة على بساط البحث والجدل، حتى في أسوأ عصور البدائية والتخلف والانحطاط.
دون ثورة في الفكر والوعي والثقافة عمادها الإنسان وغايتها النبيلة وحدة مجتمعاتنا وأوطاننا، تقدمها ورقيها، سنبقى في متاهة البحث عن ذاتنا الإنسانية، وعن سبل بناء وطننا على أسس حداثية وعصرية.