لم تكن زيارة الرئيس السوري بشار الاسد مطلع أيار/مايو الى العاصمة الايرانية واللقاء الذي عقده مع المرشد الاعلى للنظام الايراني السيد علي خامنئي، مجرد زيارة تهدف الى التأكيد على العلاقة العميقة والاستراتيجية التي تربط ايران بسوريا، او زيارة تصب في اطار محاولة القائد الجديد لقوة القدس الجنرال اسماعيل قاآني اظهار قدرته وتمكنه من الامساك بالملف الاقليمي بالمستوى الذي كان يقوم به سلفه الجنرال قاسم سليماني قبل اغتياله، والذي سبق ان عمل على ترتيب زيارة مماثلة للاسد في لحظة مفصلية كانت طهران وحلفاءها يستعدون لاعلان النصر العسكري في سوريا.
زيارة الاسد، وما نشر من تفاصيل عن مباحثاته مع المرشد الاعلى بحضور ومشاركة قاآني ووزير الخارجية حسين امير عبداللهيان، تعتبر مفصلية، كونها جاءت في توقيت دقيق يتزامن، مع ما تسرب من معلومات عن قرار روسي بتخفيف وجوده العسكري على الاراضي السورية ونقل قواته باتجاه الحدود البلاروسية، بالاضافة الى زج جزء منها في معارك اوكرانيا، خاصة بعد تسليم قيادة العمليات العسكرية في هذه المعركة لقائد القوات الروسية العاملة في سوريا.
هذا المتغير الميداني وما يحمله من تداعيات استراتيجية تتعلق بخريطة توزيع القوى وتوازنها على الساحة السورية، هي التي اثارت قلق الملك الاردني عبدالله الثاني، وما يمكن ان تؤدي له انتقال السيطرة الميدانية من القوات الروسية الى قوات حرس الثورة وحليفها اللبناني حزب الله في الجنوب السوري ومنطقة الجولان، والتي قد تعيد هذه المنطقة الى دائرة التوتر، وتضعها على حافة الانفجار، جراء ما تشكله هذه المتغيرات من ارتفاع في مسنوب القلق الاسرائيلي من هذا الوجود، نتيجة الفراغ الذي يحدثه الانسحاب الروسي وتسلم المحور الايراني لهذه المناطق.
المرشد الايراني كان واضحا في كلامه مع الرئيس السوري، عندما اكد ان العلاقة في المرحلة المقبلة ستشهد تطورا لافتا بين البلدين، وان “المقاومة” والتزام النظام السوري بهذا “المبدأ” شكل عاملا اساسيا في الصمود واستعادة المبادرة. مضيفا ان ايران لن تتخلى عن مساعدة سوريا والنظام في اعادة ترميم اقتصادها واعمارها. ما يعني انه مع الخروج الروسي من سوريا، ازيلت العقبات التي كانت تعرقل الدور الاقتصادي والاستثماري الايراني من العمل في هذا البلد. وقد ترجم هذا التوجه باعادة تفعيل خط الائتمان المصرفي الذي فتحته طهران للحكومة السورية بقيمة مليار دولار.
انتعاشة الدور الايراني في سوريا، والوعود التي قدمتها وتقدمها طهران لدمشق، بالمساعدة على تذليل العوائق امام عودتها الى الحضن العربي والجامعة العربية، ستستكمله طهران بالعمل على تفكيك اخر النقاط العالقة التي تتمثل في “الفيتو” او الرفض القائم لبعض الدول العربية لهذه العودة. وبالتالي، المساعدة على تعزيز التواصل السوري العربي في سياق يعيد سوريا الى الحضن العربي ويسقط اعتراض هذا الحضن على الدور والوجود والنفوذ الايراني في سوريا والعلاقة الاستراتيجية معها، ان لم يكن الدفع باتجاه الاعتراف والقبول به كواقع قائم.
هذه التحولات التي تشهدها الساحة السورية، وان كانت تعيد خلط الاوراق امام الفاعل العربي في معادلات الشرق الاوسط، وتعيد الامور الى نقطة البداية في الخلاف الذي كان قائما بين هذه الدول والنظام السوري حول العلاقة مع ايران، الا انه يشكل انقلابا في المعادلة التي حاولت اسرائيل تكريسها بالتعاون والتنسيق مع موسكو وواشنطن في ما يتعلق بتحجيم الدور والوجود الايراني في هذا البلد، خاصة في المناطق الحدودية في الجنوب السوري ومرتفعات الجولان.
وعلى الرغم من العمليات الجراحية التي كانت وماتزال تقوم بها تل ابيب لمنع حصول حزب الله اللبناني على الدعم والاسلحة من ايران عبر الاراضي السورية، والاستهداف الدائم لمواقع ومخازن الاسحلة التابعة لحرس الثورة والحزب داخل سوريا بتسهيل من الجانب الروسي. الا ان تراجع القبضة الروسية وقرار سحب غالبية قواتها وعودة الساحة السورية الى مسرح لنفوذ وعمليات الحرس والحزب، يرفع من حدة المخاوف الاسرائيلية من عودة التهديد الامني على حدودها الشمالية الممتدة من المثلث الاردني وصولا الى رأس الناقورة في جنوب لبنان، وبالتالي اهتزاز معادلة الامن والتهديد لصالح الفاعل الايراني على الساحة الاقليمية.
وتأتي هذه المتغيرات بعد ان شعرت ايران بان التهديد الاسرائيلي بات اقرب اليها من حبل الوريد، وترجمته في الاستهداف الصاروخي الذي قامت به لاحد المواقع في مدينة اربيل مركز اقليم كردستان، واعتبرته اجراءً ردعياً رداً على استخدام اسرائيل الاقليم لاستهداف عمقها الجغرافي والامني، من دون ان تعبأ بالمعادلة العراقية.
واذا ما كان قائد قوات الحرس الجنرال حسين سلامي، ومعه قائد قوة القدس قاآني قد افتخرا قبل اسابيع بتسيير طائرات مسيّرة فوق الاراضي الفلسطينية واختراق منظومة الدفاع الجوي الاسرائيلي، سواء انطلقت هذه الطائرات من الاراضي الايرانية او العراقية او السورية. فان الاجهزة الايرانية في المقابل، تبدو عاجزة عن مواجهة الخروق الامنية لجهاز الاستخبارات الاسرائيلي الموساد في الداخل الايراني، والضربات القاسية التي لحقت به جراء ذلك، وعمليات الاغتيال المتكررة لابرز العلماء الناشطين في البرنامج النووي، وفي مقدمهم الجنرال محسن فخرزاده الذي يعتبر “ابو البرنامج”، وسرقة اطنان من الوثائق السرية لهذا البرنامج، الى جانب الاستهداف المتكرر للمنشآت النووية بالقرب من طهران وفي نطنز.
عملية الاغتيال الاخيرة التي تعرض لها العقيد في حرس الثورة صياد خدائي في طهران مؤخراً، نقلت المواجهة الايرانية الاسرائيلية من دائرة الملف النووي الى الدائرة السورية، ما يعني ان اسرائيل تحاول رفع مستوى مواجهتها للطموحات الايرانية من الساحة السورية الى داخل الساحة الايرانية، باستهداف مفاتيحها وقياداتها العاملة على الساحة الاقليمية، ما قد يفرض على الجانب الايراني، اعادة تقويم ادواته الامنية بجدية هذه المرة، اذ بات كل المعنيين بالعمل على الساحة الاقليمية مضطرين للتلفت الى الخلف في شوارع طهران خوفا من ان تصل لهم يد الاغتيال والقتل. بالاضافة الى ضرورة تقويم حجم الخروق التي تعاني منها الاجهزة الامنية والمجتمع الايراني المأزوم اقتصاديا وماليا، وعدم قدرتها على رصد هذه الخروق التي قد تتصاعد في المرحلة المقبلة، كبديل اسرائيلي مرحلي عن المواجهة المفتوحة.
المصدر: المدن