قبل وقت طويل من قيام إسرائيل بشق شبكات الطرق المنفصلة للحفاظ على الفصل بين اليهود والفلسطينيين، كان البريطانيون قد وضعوا الأسس لهذا النهج مسبقاً.
* *
شهد العام الماضي ظهور عدد لا يحصى من عناوين الصحف في إسرائيل والخارج التي تشير إلى عقيدة “تقليص الصراع” -خاصة منذ انتخاب أحد أقوى مؤيديها، نفتالي بينيت، رئيساً للوزراء. والفكرة، التي تستند إلى كتابات ميخا غودمان (وهي نفسها من سكان مستوطنة كفار أدوميم في الضفة الغربية)، هي أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لا يمكن حله، وبالتالي يجب إدارته بشكل أكثر فعالية فقط. وفي ظل الأهداف المعلنة لتحسين نوعية حياة الفلسطينيين وزيادة الكفاءة الاقتصادية للاحتلال، تقترح هذه الاستراتيجية إقامة أنظمة حركة وتنقل منفصلة للإسرائيليين والفلسطينيين في محاولة للتقليل من المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال.
تشير دراسات أكاديمية مختلفة إلى أن تقييد الحركة الفلسطينية أصبح خلال العقدين الماضيين جزءًا رئيسيًا من طريقة الإدارة اليومية للاحتلال الإسرائيلي. ويدرك المستوطنون أنفسهم ذلك جيدًا: على سبيل المثال، في الآونة الأخيرة أطلقت شركة العقارات الإسرائيلية “ليف هار يزاموت”، التي تسوق المنازل في المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة، حملة بعنوان “الرواد الجدد”، تستهدف “العائلات التي تنظر إلى المجتمع والمستوطنة كقيمة عليا، لكنها ستكون سعيدة بالعيش في منزل واسع بمساحة 197 مترًا مربعًا مكون من 5 غرف نوم”. وتضمنت الحملة الإشارة إلى الشيء الأساسي والحتمي: “لن تعيش في مستوطنة تفتقر إلى طريق التفافي يفضي إليها”.
ويبدو أن غودمان على دراية جيدة بهذه المسألة. ولذلك يقع بناء شبكات طرق منفصلة للإسرائيليين والفلسطينيين في صميم خطتها المكونة من ثماني خطوات من أجل “تقليص الصراع”، والتي نشرتها في مجلة “الأتلانتيك” في العام 2019؛ وكانت الخطوة الأولى بعنوان “أبقِه متدفقاً”. وتتخيل غودمان فلسطينيًا افتراضيًا يعيش في رام الله ويسعى إلى زيارة ابن عمه في نابلس، وتصف حالة عدم اليقين المستمرة والشعور بالإذلال الناجم عن سيطرة إسرائيل على الطرق الفلسطينية، والتي يتم فتحها وإغلاقها أمام الفلسطينيين حسب إرادة الجيش الإسرائيلي.
الحل لهذه المشكلة، وفقًا لغودمان، هو شق شبكة من الطرق التي ستربط مختلف أجزاء الضفة الغربية الواقعة تحت سيطرة السلطة الفلسطينية، (أي البلدات والمدن الفلسطينية الرئيسية)، مع تجاوز المستوطنات الإسرائيلية بالكامل. ووفقًا لبيان غودمان، سوف تنضم هذه الطرق الجديدة إلى رحلات مكوكية منفصلة بالحافلات للفلسطينيين من الضفة الغربية للوصول إلى مطار بن غوريون، ومعبر فلسطيني منفصل ينشأ في خليج حيفا (تحت السيطرة الإسرائيلية)، وأكثر من ذلك.
قد تبدو فكرة غودمان عن استخدام الطرق لتقليص الصراع جديدة، لكن بالوسع إرجاع أصولها في الواقع إلى الطرق التي استخدمت بها الإمبراطورية البريطانية إنشاء البنية التحتية المدنية للحد من المعارضة في المستعمرات. وأظهر المؤرخ الإسرائيلي، ريفيل نيتس، أن البريطانيين استخدموا لأول مرة البنية التحتية للنقل كسلاح خلال حرب البوير في جنوب إفريقيا. وبعد ثلاثة عقود ونصف، نفذت سلطات الانتداب البريطاني مبادرة مماثلة في فلسطين، حيث أقامت طرقًا التفافية مصممة للالتفاف على الطرق الرئيسية التي كان يسيطر عليها المقاتلون الفلسطينيون. ولكن، بدلاً من تقليص الصراع الصهيوني-الفلسطيني، وضعت هذه المبادرة الأساس لتصعيده.
منطق واضح
خلال الثورة العربية (1939-1936) التي اندلعت في فلسطين ضد الاستعمار البريطاني واستمرار الاستيطان اليهودي في فلسطين، تبنت الإمبراطورية البريطانية استراتيجية شق شبكة جديدة من الطرق في جميع أنحاء فلسطين بهدف تجاوز الطرق المرورية التي يسيطر عليها المقاتلون العرب والالتفاف عليها. وتضمنت تلك الثورة، التي كانت الأكبر ضد الاستعمار في أي مكان في أرجاء الإمبراطورية البريطانية خلال الفترة ما بين الحربين العالميتين، هجمات متكررة على المركبات البريطانية والصهيونية، إضافة إلى إغلاق الطرق الرئيسية. وكان المحور المركزي للثوار يقع في المنطقة الواقعة بين طولكرم ونابلس وقلقيلية، التي أطلق عليها البريطانيون اسم “مثلث الإرهاب”.
كانت لشل حركة المواصلات في هذه المنطقة عواقب بعيدة المدى، لأنه لم يكن هناك، حتى أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي، سوى طريق رئيسي واحد يصل بين الشمال والجنوب في فلسطين -المعروف اليوم باسم “الطريق 60”- الذي يبدأ في الناصرة ويمر عبر جنين ونابلس والقدس، وينتهي في بئر السبع. ونتيجة لذلك، سمح شل حركة المرور على هذا الطريق للثوار بوقف حركة النقل في جميع أنحاء البلاد.
أصبحت حاجة الجيش البريطاني إلى تجاوز معاقل الثوار هي الدافع الرئيسي لمبادرة شق وتعبيد طرق رئيسية عبر مختلف أنحاء فلسطين خلال النصف الثاني من الثلاثينيات -في أكبر حملة من هذا النوع في تاريخ البلد. وشهد برنامج الطرق العسكرية شق 840 كيلومترًا من الطرق -حوالي ثلث جميع الطرق الممهدة خلال سنوات السيطرة البريطانية، التي بدأت في العام 1920 وانتهت في العام 1948 بإقامة “دولة إسرائيل”.
كان الطريق الرئيسي الذي تم تعبيده لتجاوز جنين وطولكرم هو طريق يافا-حيفا، المعروف اليوم باسم “الطريق 4”. وكان بناؤه قد بدأ في وقت مبكر من العام 1927، وتقدم ببطء على مدى عقد كامل -أحيانًا بمعدل فتح بضعة كيلومترات فقط، أو حتى بضع مئات من الأمتار في السنة- على الرغم من الضغط الكبير الذي مارسته المستوطنات اليهودية والمنظمات الصهيونية التي كانت تدفع إلى استكمال شقه. حدث ذلك لأن بريطانيا كانت قد أنشأت بالفعل خط سكة حديد موازٍ ولم تكن حريصة على شق طريق ينافس خط سكة الحديد الخاص بها ويضر بالعائدات. ومع اندلاع الثورة الفلسطينية، ازدادت الحاجة إلى طريق بديل بشكل عاجل، فحث البريطانيون الخطا: تم الانتهاء من شق الـ79 كيلومترًا المتبقية من الطريق بحلول أيلول (سبتمبر) من العام 1937، مع تعبيد آخر 25 كيلومترًا في زمن قياسي هو 45 يومًا.
بالنظر إلى الوراء الآن، يبدو وصف طريق يافا-حيفا بأنه “طريق التفافي” غريبًا بعض الشيء، خاصة وأن الطريق السريع الذي يربط بين اثنتين من أكبر المدن في البلاد يبدو طبيعيًا ومطلوباً. ولكن، حتى نهاية الثلاثينيات، كان هناك عدد قليل من المستوطنات اليهودية بين القرى الفلسطينية الواقعة على طول الساحل الفلسطيني، وهو ما يغلب أن يكون السبب في نظر السلطات البريطانية إلى المنطقة على أنها ليست أكثر من مستنقعات مقفرة. في نظر البريطانيين، كانت أهمية بناء مثل هذا الطريق هي نقل الحمضيات من البساتين قبالة السهل الساحلي إلى ميناء حيفا للتصدير. بل إن السلطات ذهبت إلى حد جعل شق المزيد من الطرق شرطًا للتوسع في زراعة الحمضيات.
إضافة إلى طريق يافا-حيفا، شق البريطانيون عددًا من الطرق الالتفافية المهمة الأخرى من الغرب إلى الشرق، بما في ذلك طريق الخضيرة-العفولة، المعروف اليوم باسم “طريق وادي عارة”، وطريق زخرون يعقوب-يوكنعام، المعروف باسم طريق “وادي الحليب”. وكان المنطق الكامن وراء شق هذه الطرق الالتفافية واضحًا تمامًا للناس في ذلك الوقت. على سبيل المثال، عند بناء طريق وادي عارة، كتبت صحيفة “دافار” المرتبطة بمنظمة العمل الصهيونية، الهستدروت: “سوف يجعل طريق الخضيرة-العفولة الجديد من الممكن عبور المسافة بين السامرة ووادي يزرعيل من دون أي حاجة إلى (استخدام) طرق طولكرم وجنين. ويمكن أن تعِد هذه الطرق المركزية بحركة مرور عادية من دون التأثر بالاضطرابات التي عشناها خلال أيام العنف”.
تكتيكات إمبريالية فاشلة
لم تكن شبكة الطرق التي تم شقها وتعبيدها في جميع أنحاء فلسطين في الثلاثينيات مجرد تراكم للطرق الصغيرة. لقد شكلت تلك الطرق معًا كتلة حرجة حددت، لأول مرة، مناطق معينة من البلاد على أنها “عربية” أو “يهودية”، وأدت إلى تخصيص “طرق يهودية” و”طرق عربية”، كما كانت تسمى أثناء تلك الفترة. كما أنشأت الشبكة أيضًا، ولأول مرة، جيبًا يهوديًا على طول السهل الساحلي، يمكن للمرء أن يسافر داخله من دون المرور عبر منطقة عربية واحدة، وبالتالي وضعت تلك الطرق الأساس لمنطقة يهودية منفصلة في البلاد.
لم يكن من قبيل المصادفة أن يتم الانتهاء من تشييد هذه الطرق في العام 1937. ففي ذلك العام، نشرت لجنة بيل، التي تشكلت للتحقيق في أسباب اندلاع الانتفاضة العربية، توصياتها التي تضمنت إلغاء الانتداب البريطاني واستبداله بدولتين ذاتي سيادة -عربية ويهودية. وكانت تلك المرة الأولى التي يوصي فيها مسؤول بريطاني بتقسيم فلسطين. لماذا، بالضبط، كان العام 1937 هو العام الذي أصبح فيه التقسيم ممكناً؟
بناء طريق يافا-حيفا، الذي اكتمل في ذلك العام وكان الهدف منه أن يكون بمثابة الشريان المركزي للدولة اليهودية المقترحة -إلى جانب الطرق التي تربط المستوطنات اليهودية في وادي يزرعيل بالسهل الساحلي- خلق لأول مرة قسمة قابلة للتطبيق بين الأجزاء الشرقية والغربية من البلاد. وسمح هذا الفصل المكاني بالاستيطان الصهيوني على الرغم من المقاومة الفلسطينية.
لم يحسم اقتراح لجنة بيل بتقسيم الأرض، الذي خالف موقف القيادة السياسية العربية الفلسطينية، الانتفاضة الفلسطينية أو يخمدها. وبعد حوالي شهرين من نشر خطة بيل، استؤنفت الثورة بكامل قوتها، حتى تمكن من إخمادها الجيش البريطاني في العام 1939، بالتعاون مع كل من القوات العسكرية والاستخباراتية للهاغاناه، المنظمة الصهيونية شبه العسكرية.
هناك، بطبيعة الحال، اختلافات كبيرة بين خطة شق الطرق للجيش البريطاني وخطة غودمان. فبينما استخدمت بريطانيا البنية التحتية كمجرد استراتيجية قتالية، تقول غودمان وأنصارها إنهم يريدون تحسين نوعية حياة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة من خلال تعزيز اقتصادهم وتقليل الإذلال الذي يواجهونه على أيدي سلطات الاحتلال. وفي مقابلة أجريت معه مؤخرًا، أعرب رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، عن دعمه لفكرة “تقليص الصراع”، قائلاً إنها ستسمح “بمزيد من الحركة، والمزيد من جودة الحياة، والمزيد من الأعمال، والمزيد من الصناعة”.
لكن الافتراضات القائمة على أساس أفكار غودمان وبينيت مشابهة جدًا لمصدرها التاريخي. أولاً، تنظر كل من خطة غودمان/ بينيت والخطة البريطانية إلى الفلسطينيين كموضوع يجب إدارته بدلاً من كونهم أشخاصًا يمكن التحدث إليهم مباشرة. ثانيًا، سعت كلتا الخطتين إلى إنهاء الصراع على هذا البلد من خلال إعادة صياغته على أنه قضية بنية تحتية غير سياسية، والنتيجة الفعلية لذلك هي الفصل المكاني بين العرب واليهود. وفي حين أن هذا الفصل كان نتيجة غير مقصودة لشبكة الطرق التي شقتها الحكومة البريطانية، فإن “تقليص الصراع” قد حوله ليكون الأجندة المعلنة للحكومة الإسرائيلية الحالية، بهدف إدامة سيطرة إسرائيل على كامل الأرض الواقعة بين النهر والبحر.
فكرة غودمان، التي تعتبر “الحل (للاحتلال والمقاومة ضد ذلك الاحتلال) ليس استراتيجيًا ولا سياسيًا، وإنما مسألة بنية تحتية”، هي في الواقع تكتيك إمبراطوري فاشل عمره أكثر من 100 عام. لم تختف المعارضة الفلسطينية للاستيطان الصهيوني آنذاك ولن تختفي اليوم. وفي الوقت الذي تعترف فيه منظمات حقوق الإنسان بشكل متزايد بادعاء الفلسطينيين بأن إسرائيل تديم نظام فصل عنصري بين النهر والبحر، من المهم الاعتراف بالأصول الإمبريالية لنظام الفصل المكاني في فلسطين، وتوضيح من هم الناس الذين يستمرون في دفعه وتعزيزه اليوم.
*شيرا بنحاس Shira Pinhas: طالبة دكتوراه في التاريخ في جامعة تل أبيب. تركز أبحاثها على التاريخ الاجتماعي للنفط والتنقل في فلسطين خلال الانتداب البريطاني. نُشرت أجزاء من هذا المقال أيضًا في عدد خاص من مجلة الدراسات الشامية the Journal of Levantine Studies المخصصة لمنطقة الشرق الأوسط في التاريخ العالمي.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The imperial roots of ‘shrinking the conflict’
المصدر: الغد الأردنية/(مجلة 972+)