في البدء: رسم بيكاسو الاسباني لوحته الرائعة غورنيكا في عام ١٩٣٧م بعد ان قصف الالمان قرية جورنيكا الاسبانية وراح ضحيتها الكثير من أهلها. اللوحة تخلد تلك المأساة وتدين القتلة على مدى الدهر. من هنا استوحت نجاة عبد الصمد عنوان مروياتها عن توثيق جرائم النظام المستبد القاتل بحق الشعب السوري الضحية.
نجاة عبد الصمد طبيبة و روائية سورية متميزة جدا. قرأت لها رواية لا ماء يرويها وكتبت عنها، أننا أمام موهبة روائية وسردية، حاضرة في قلب وعقل القارئ بكل عمق وشفافية ومصداقية.
أطلقت الكاتبة على مجموعتها اسم مرويات واقعية، فهي ليست رواية كما انها ليست مجموعة قصصية، هي أقرب لما أسمته الكاتبة بكونه سرد لوقائع متخيلة مطابقة بنسبة كبيرة للحقائق الواقعية.
كتبت المرويات في عام ٢٠١٢م وبداية ٢٠١٣م، تلاحق حالات معاشة للوجع السوري كما أسمته الكاتبة بمطابقة مع الواقع المعاش. واقع الثورة السورية على نظام الاستبداد والظلم في سورية، وردود فعل النظام على الشعب والمجتمع عموما من أعمال عنفية تصل لدرجة الاجرام الجماعي بحق شعب بأكمله. لم تتحدث الكاتبة بهذه المباشرة ولا بهذا الشمول، لكن تركت مروياتها تعطي هذا الانطباع بقوة، واقع الاسرة التي قتل اغلبها وتشوه البعض وتشرد البقية، جراء برميل متفجر سقط على البناء قتل أغلب من فيه، ليس فقط هذا البناء بل البلدة بأكملها. التشرد لمن بقي حيا كحل أخير للحفاظ على الحياة، المخيمات الجحيمية والطرق الصعبة التي تصل إليها، الخيم وغياب أدنى أسباب الحياة الانسانية، غياب لقمة العيش وسحق الكرامة. المدن السورية كلها حاضرة في مرويات نجاة عبد الصمد، حاضر القمع والبطش وسحق المتظاهرين، حاضرة السويداء بصفتها المدينة التي شارك شبابها فيها وخارجها بالتظاهر و بمطالب الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية أسوة بالشعب السوري كله، حاضرة حيث استطاع النظام تحييد السويداء بالتعاون مع أزلامه بها و بمشايخ العقل الذين آثروا السلامة على حساب الحقوق والكرامة، فكان مصير الثوار الناشطين بين شهيد ومعتقل ومنبوذ من محيطه ومشارك في نشاطات الثورة في بقية بلدات الثورة في سورية. حاضرة في اللهفة على استقبال جيرانهم أهل حوران بكل حميمية الاهل، واكرام عزيز قوم ذل، حوران درعا وريفها، مع السويداء أشقاء من مئات السنين يعيشون حياة توائم وتكامل واحترام متبادل، الناس في السويداء احتضنوا من هرب ونزح اليهم، جادوا بالممكن مهما كان متواضعا. حاضرة في صورة الجيش الباطش الذي يحارب شعبه ببسالة تتجاوز محاربة عدوه. في معتقل ينتهك حياة و انسانية من فيه من الثوار والناشطين. حاضرة في سرد واقع الحرب التي صنعها النظام وتورط بها الثوار، وبداية حضور للعنف الاعمى الذي لا يعرف الرحمة ويتساوى النظام المجرم مع الثوار في واقعة القتل او التعذيب او الاساءة للناس، مع الاشارة للفرق الهائل بين فعل النظام وحجمه وشموله، وقلة فردية فعل الثوار في حرب لا تبقي ولا تذر. حاضرة في الخطف والفدية ومرار عيش الأهل واحتمال الموت دون امكان دفع الفدية او مع دفعها حاضرة في الحديث عن أطراف من النظام وعصابات توالدت من رحم الانفلات العام او لثوار يريدون ان ينتصروا لثورتهم بأي طريق حتى المشتبه به.
نجاة عبد الصمد تجتاحنا بلغة بسيطة كالحقيقة، ساطعة كشمس، حادة كسيف مسلط، مؤلمة كموت مجاني على قارعة طريق او تحت برميل متفجر، او برصاصة قناص يتسلى بقتل الناس خاصة الاطفال والنساء، مفجع كحال طفل اكتشف في لحظة غياب كل اهله وبقيت له ام معاقة، او ام بقي لها ركن في خيمة تنتظر أن يحضر أولادها الشهداء القتلى من مدارسهم التي هدمت وبقيت أطلالها مع اشلاء اولادها واولاد الاخرين في قريتها النائية.
نجاة عبد الصمد في مروياتها تعيد إحياء مأساتنا ووجعنا نحن السوريين لكي لا تذهب للنسيان مع الزمن، لان الزمن خائن لاوجاع الناس، لكن التوثيق يعيد احياء الحدث حيث يجب ان لا يموت. لأننا ونحن الآن في عام ٢٠١٩م و بعد ثماني سنوات للثورة السورية، هناك من يعمل لطمس ما حصل وتجاوزه وإعادة شرعنة النظام المستبد المجرم. حكما مؤبدا على ما تبقى من الشعب السوري الضحية ، ما تبقى بعد حساب الشهداء والمشردين والهاربين والمعاقين والمصابين والمصابين بكل ما هو عزيز وغالي. لذلك يكون ما توثقة نجاة عبد الصمد وغيرها من المفكرين والأدباء والسياسيين السوريين المنتمين للثورة والشعب السوري، حفاظا على الذاكرة واحياء لواقع يجب ان لا يموت واصرار على اسقاط نظام الاستبداد والإجرام ومحاسبته ولو بعد حين. كل ذلك مقدمة وشرط لبناء دولة ديمقراطية عادلة للشعب السوري الذي يستحقها بعدما قدم كل تلك التضحيات.