بين إنكار الطائفية في سوريا ورد الصراع إلى الطبقي والاقتصادي، وجعلها عنصراً مركزياً لتحليل الأوضاع، والخروج بنتائج تحريضية تعمم سلوكاً عنفياً على طائفة محددة، أو مظلومية متواصلة على طائفة أخرى، ثمة رأي ثالث يميل نحو العقلانية، ويبتعد عن التحريض المجاني والإنكار الأيديولوجي، فيجد في الطائفية أداة سيطرة استخدمتها السلطة لترسيخ نفسها وضمان ديمومتها.
غير أن، التحليلات تلك، جميعها، تهمل الجذور الاجتماعية للطوائف في سوريا، التي تساهم في تحديد مسار العلاقات وأنماط السلوك داخل كل طائفة، وكذلك بين الطائفة ومحيطها، وربما علاقتها مع السلطة، بحيث تمتلك السيسيولوجيا كمصدر للتحليل موقعاً متقدماً، وتتشابك مع مصادر أخرى، كالسلطة والاقتصاد والعلاقة مع الطوائف الأخرى، بدل أن يحوز أحد المصادر تلك على التحليل كله.
لأسباب تاريخية تتعلق بتحولات المنطقة وصراعاتها، والتوترات بين الأكثرية والأقليات، والزمن العثماني وتفاعلاته، والانتداب وفشل مشروع الدولة الوطنية، نشأت مناطق ذات لون طائفي واحد، كجبال العلويين ووادي النصارى وجبل الدروز، فضلاً عن تجمعات أخرى للإسماعيليين وسواهم، فيما تمركز السنّة على المدن الرئيسية، مع حضور في الأطراف والأرياف لاسيما العشائر. ومع أن هذه المناطق لا تختصر الوجود الجغرافي لاتباع الطوائف، حيث يوجد مسيحيون في الجزيرة وسهل الغاب ومناطق أخرى، كما يوجد علويون في أرياف حماه وحمص، وقليل من الدروز في إدلب، وكذلك يتوزع السنّة في كل سوريا. غير أنها، تمثل جغرافيات خاصة للطوائف، بفعل الكثافة السكانية الطاغية. والأهم أنها مختبر، تصاغ فيه العلاقات بشكل نقي، عبر آليات من داخل الطوائف نفسها، ومع أن السلطة تتدخل لضبط هذه الآليات وتجيرها لصالحها، لكنها لا تعمد إلى تغييرها أو المساس بها. والآليات هذه، تتمثل، بموقع الدين داخل هذه الجغرافيات الطائفية، فالكنيسة بكهنتها وقساوستها تشغل موقعا مركزيا داخل قرى وادي النصارى ومناطق أخرى، وكذلك رجال الدين العلويون في جبال الساحل، وأيضاً مشايخ العقل في السويداء ومحيطها، عدا عن المشايخ السنة الذين توزع تأثيرهم عقب 2011 على طرفي الانقسام داخل الجماعة الأكثرية. العلاقة بالدين مع تفاوت شمول عقائده وقدرتها على التحكم بالأفراد، بين طائفة وأخرى، تسفر عن ترتيبات اجتماعية، داخل كل طائفة، زيجات بين أبناء وبنات الطائفة، وتقاليد وأعراف تثبت وتصلب البنى التقليدية، علما أن الأخيرة التي تتمثل بالعائلات والعشائر، هي بيئة مغذية، للطوائف. وإن صح أن جغرافيات الطوائف ترتبط باقتصاد البلاد، يصح أيضاً أن الاقتصاد لا يعمل بشكل متوازن بما يتعلق بتوزيع الثروة، بفعل تحكم السلطة وتكريس معادلات زبائنية تؤمن الولاء لها، فضلا عن تمركز النشاط الاقتصادي في المدن الكبرى، وإهمال الأطراف. وعليه، فإن للطوائف ديناميكيات اقتصادية خاصة بها. قرى وادي النصارى مثلا، تعتمد على السياحة ونسبيا على الزراعة، وعلى تحويلات المغتربين، التي تمد أبناء السويداء أيضاً بشروط البقاء. فيما يستند اقتصاد العلويين بشكل أساسي، على موقعهم داخل مؤسسات الدولة، وعلى الزراعة. خصوصية الاقتصاد لا تنسحب على الطوائف فقط، بل على المدن، إذ إن حلب ازدهر اقتصادها مع تحسن العلاقات بين أنقرة ودمشق، فيما كان الريف يعيش تهميشا وفقرا مدقعا. مثال حلب مفيد، لفهم علاقة السنّة بالاقتصاد، حيث تتأثر بانتشارهم الجغرافي، من دون أن تغير فهمهم لأنفسهم كجماعة أكثرية تفرز علاقاتها من داخلها. عند بقية الطوائف، التوزع الجغرافي عنصر هامشي، مع ذلك، لا يغير كثيراً، بديناميكيتها الاقتصادية الخاصة. حيث إن قرى الدروز في ريف إدلب، لا ينشط اقتصادها بمعزل عن بقية السكان السنّة، لكن، في الآن نفسه، لا يغير ذلك، من حقيقة وجود ديناميكيات خاصة في السويداء ومحيطها.
الاقتصاد والدين، وما يفرزان من أوضاع وعلاقات، كرّسا إذن، جغرافيات الطوائف ومجتمعاتها، بإدارة وتجيير من السلطة. وبسبب الفشل في تشكيل بلد عقب الاستقلال، والانقلابات، تفاقمت التناقضات وجرى تصعيدها أيديولوجيا، ولم تكن التحولات تغير الطوائف وتكسر تصلبها، بقدر ما هضمت الأخيرة هذه التحولات وجيّرتها لحسابها. فهجرة الأرياف للمدن مثلا، حصلت على وقع صعود العسكر الملون بنفوذ الأقليات في الجيش، والعاصمة دمشق، بدل أن تدمج القادمين الجدد، شهدت جغرافيات صغرى للطوائف، مثل جرمانا وعش الورور، فيما تزايدت علاقات المصاهرة بين القصاع ووادي النصارى. وبعد 2011، أنعش الصراع الأهلي العنيف، سرديات الطوائف حيال ذاتها، بعد فشل محاولات التغيير، وصارت بعض الجغرافيات مرسومة بالدم، وحاليا لا يوجد أفضل من الانهيار والتفكك وتدهور الأوضاع المعيشية، ليزيد من انكماش الطوائف على نفسها، ويكرس الجغرافيات السابقة، كمختبر لإنتاج علاقات داخل الطائفة نفسها، مع سعي دائم للاعتماد على داعم خارجي.
كاتب سوري
المصدر: القدس العربي