منذ سنوات بدأ السوريون يفكرون جدياً بمخرج من المستنقع الذي بدأنا نغرق فيه نتيجة عوامل موضوعية تفرضها الظروف العامة الخارجة عن إرادة السوريين وعوامل ذاتية تتعلق بدور السوريين أنفسهم سياسياً وعملياً.ولكي نكون أمناء يجب الإقرار بأن هناك عشرات المبادرات السورية ومئات الرؤى السياسية قدمتها تجمعات سياسية ومجموعات نخبوية سورية، أكدت أغلبها على ثوابت وطنية ديمقراطية تدعو لدولة سورية جديدة مدنية دولة تضمن حق المواطنة للجميع دون تمييز على أساس العرق او الدين.وتتوالى المبادرات بالظهور، وهي تعكس جهدا كبيرا نظريا في صياغة تلك المبادرات بمشاركة شرائح واسعة من المثقفين والناشطين الشباب والمرأة في الداخل والخارج. كما أن تلك المبادرات بتركيباتها المختلفة حظيت باهتمام شعبي وهي قيد النقاش والتداول والتعليق من قبل آلاف السوريين المهتمين بالشأن العام.وباعتقادي للمثال وليس للحصر يمكن ذكر عدد من المبادرات المطروحة مؤخراً والتي تتضمن توجهات وطنية واضحة ويلتف حولها فئات واسعة من النخب والناشطين ولكنها لا تحظى باهتمام مستمر ومتزايد في الأوساط الشعبية.وبالطبع فتلك المبادرات مختلفة في هيكليتها ومحتوياتها التفصيلية ومتقاربة من حيث النهج والهدف وآليات التنفيذ.
وعند متابعة اغلب المبادرات يمكن اجراء الملاحظات التالية:
- هناك اتفاق عام على أهم ثوابت الثورة من اسقاط النظام وتحرير سوريا من المحتلين بكافة اشكالهم وبناء سورية الحرة المدنية دولة المواطنة.
- بالرغم من الاختلافات الجزئية والتي لا تؤثر على جوهر المبادرات فإنها تشخص الواقع السوري وتقيم مسيرة الثورة ومآلاتها وآفاقها بشكل مقبول.
- المبادرات تتضمن أوراق سياسية وتنظيمية وأفكار مهمة حول اهداف الثورة وسبل تحقيقها وأن المعارضة الرسمية فشلت وأن من واجبات النخب الوطنية والثورية إيجاد مخرج سياسي واضح تسميه بأشكال مختلفة ولكنه جسم سياسي جديد وطني مستقل مرتبط بواقع السوريين في الداخل الموالين منهم والمعارضين والصامتين فأوضاع السوريين اليوم متشابها جدا لدرجة اننا عندما نتحدث عن السوري فلا فرق اين يقيم في ظل أي سلطة واقع فالجوع والقلق والخوف واليأس يشمل كل السوريين.
- هناك طروحات سياسية نظرية مهمة يقدمها البعض مثل الدكتور مضر الدبس في مقالاته ويكمل أفكاره عدد من الناشطين السوريين ومفادها أن السوري العادي يجب ان يستعيد السياسة ويؤمم سوريا ويسترجعها من النظام ومن المعارضة الرسمية اللذين سرقا سوريا ويستخدمانها لأغراض لا علاقة لها بطموحات الشعب السوري الذي قدم الغالي والرخيص لينال حريته وكرامته. فعقلية ما قبل 2011 التي يتمتع النظام والمعارضة، مع ضرورة الإشارة إلى وحشية وجرائم النظام التي تميزه عن المعارضة، تختلف عن عقلية ما بعد 2011 والتي تقتضي التحدث باسم كل السوريين وان تكون السياسة ملكا للناس وليست حكرا على مجموعات تدعي انها تمثل البلاد كالنظام او الثورة كالمعارضة.
- ان فكرة العمل بروح ما بعد الثورة 2011 مهمة للغاية لأنها تجمع السوريين على الروح الوطنية التي تنتمي لكل السوريين الطامحين الى التغيير السياسي واحترام حقوق الانسان في سوريا.
- وبالرغم من محاولات بعض الباحثين والسياسيين في تقديم أفكار ومقترحات قيمة لإصلاح الائتلاف كالأستاذ محمد صبرا إلا أن الهياكل الرسمية للمعارضة تحتاج لثورة حقيقية حتى يمكن الاستفادة منها شعبيا. أي ان الائتلاف يحتاج الى عملية نفض تنظيمية وتغيير أعضائه بالكامل وطرح أفكار سياسية تتناسب مع مآلات الثورة وطموحات السوريين وان يعود الائتلاف الى الثورة.
- تدعو كافة المبادرات الى تشكيل جسم سياسي وطني مستقل يمكن وصفه بمنظمة التحرير الوطنية السورية، يعكس طموحات الشعب السوري بكافة مكوناته وتنوعاته الثقافية والقومية والدينية.
- ن نتوقف عن آليات عقد المؤتمر السياسي الوطني وكيفية اختيار ممثليه فهي تفاصيل ليست جوهرية.
ولكي يكون كلامنا أكثر دقة نستعرض أمثلة على تلك المبادرات لا للحصر مع التقدير لكل الجهود الوطنية الفردية والجماعية الأخرى:
1) مبادرة مؤتمر القوى الوطنية السورية:
طرحتها مجموعة من الشخصيات الوطنية وبعضهم مستقلون وبعضهم ينتمون الى قوى وأحزاب سياسية وطنية وتدعو الى العمل لعقد مؤتمر للقوى الوطنية، التي قدمت أوراقا سياسية مهمة وشكلت لجنة تحضيرية مهمتها محاولة إطلاق العمل السياسي الثوري بأسس جديدة والتمهيد والتحضير لمؤتمر وطني شامل يسترجع للثورة ألقها الأول، ويعيد صياغة الأهداف المرحلية للقوى الثورية بما يؤكد الثوابت الوطنية للثورة السورية العظيمة. ولكنها لم تحقق اختراقا.
2) مبادرة الهيئة الوطنية السورية:
من المبادرات الواسعة والتي تضم نخب قانونية وسياسية واجتماعية واقتصادية وعسكرية متنوعة وقدمت وثائق قيمة توضح رؤيتها لسورية وأطلقت مبادرة حول آفاق المعارضة السياسية. وترى الهيئة أن كل المحاولات لم تتمكن من أن تنجز أي خطوة عملية وقادرة على الحياة ولاتزال القوى الوطنية والديمقراطية السورية مشتتة، وعاجزة عن الفعل، ويسيطر عليها العمل الفردي المنفعل والعاجز، لذلك لا بد من الاتفاق على ثوابت مسبقة قبل إطلاق أي حوار بين القوى السورية وهذه المحددات تنطلق من الواقع الراهن وظروفه وحاجاته الملحة، ومن أولويات المرحلة، ومن محاولة استبعاد كل ما هو غير مهم في هذه اللحظة ويمكن تأجيله إلى مرحلة قادمة خصوصا المرهون بمرحلة ما بعد الانتقال السياسي. كما يجب الاتفاق على قواعد القوى المتحالفة. وتقترح الهيئة الوطنية السورية تشكيل تحالف عريض أو جبهة للقوى الوطنية الديمقراطية ينبثق عنها هيئة مركزية تضم ممثلين عن كافة القوى الموجودة في التحالف، تشرف على العمل المشترك وتشرف على التزام القوى بالمحددات التي تم الاتفاق عليها.
3) مبادرة ندوة التجمعات الوطنية (بدعوة من الكتلة الوطنية):
دعت الكتلة الوطنية الى سلسلة طويلة من الندوات شارك فيها عشرات التجمعات السياسية والثورية المدنية والعسكرية وتوصلت الى مخرجات مهمة:
- حددت المبادرة أهدافا مرحلية هي تحرير سورية من المحتل الروسي – الايراني وأداته الأسدية والتصدي لقوى التطرف والانفصال في المنطقة الشرقية والشمالية الشرقية وجدولة خروج كافة القوات العسكرية الأجنبية الأخرى .
- ورسمت سبل تحقيق الأهداف وهي سياسية وعسكرية وحقوقية وثقافية وإعلامية واقتصادية واجتماعية وديموغرافية .
- وركزت على الحامل التنظيمي المتمثل بالتنظيم والعمل المؤسَسَاتي عبر تأسيس تيار شعبي عريض دون إقصاء أي مكون مجتمعي أو مرجعية فكرية أو قوة سياسية أو عسكرية أو مدنية أو أهلية تتفق مع الهدف المركزي للثورة. ودعت الى الاستفادة من الخزان الشعبي الكبير بغية حشده وتنظيمه في المواجهة بجميع فئاته السياسية والعسكرية والثقافية والحقوقية والاعلامية والعمالية والفلاحية والتعليمية والطلابية والشبابية والنسائية، حيث لا نصر دون إسناد شعبي واسع.
4) مبادرة الدكتور مضر الدبس
اقترح الدكتور مضر الدبس أفكاراً مهمة عرضها في سلسلة مقالات تمثل مبادرة متكاملة اغناها بعض الاخوة مثل الاستاذ حسن النيفي، وهي تستقطب نخب كثيرة وتنتظر بلورتها والانتقال الى خطوات عملية. والحقيقة أن هذه المبادرة تختلف نوعيا عن المبادرات الأخرى لأنها ليس فقط تتجاوز المعارضة الرسمية وبالطبع النظام بل هي تطرح منظومة فكرية سياسية تقلب كل المفاهيم وتضع الأمور في نصابها الصحيح وتخلص السوريين من وهم الثنائية المتناقضة: النظام والمعارضة. فكلاهما تجاوزته الثورة ويجب فتح صفحة جديدة بعقلية وفكر واليات عمل جديدة. وأهم عناصر هذه المبادرة:
- تأميم سورية لتعود ملكًا للسوري العادي.
- تشكيل جماعة سياسية تكون بمنزلة “هيئة تحرير وطنية واسعة” تفرض قراراتها السياسية باسم السوريين، وتستمدّ قوتها منهم لفرض خياراتهم على الجميع، وتدير تداخلات مصالح الدول، وتحقّق الانتقال السياسي وتأميم السياسة لتعود للمواطن السوري العادي.
- تتجاوز هذه الهيئة النظام والمعارضة معًا، مع الحرص على تمييز المعارضة من النظام على المستوى الأخلاقي، بوصفهما ينتميان إلى ما قبل 2011 على مستوى منهجية التفكير، ويمتلك كلاهما أدوات عملٍ سياسيٍّ منتهية الصلاحية، وضعتها الثورة في مكبِّ نفايات المفاهيم الكارثية والقديمة التي لم تعد تصلح للعمل السياسي بعد 2011.
- وأكثر هذه الأوهام كارثيةً اعتقاد المعارضة بصورتها الحالية بأنها “النخبة السياسية” في سورية.
- وما لم يمتلك السوريون العاديون مشروعَ السياسة في بلدهم، لم، ولن، يكون في الأفق أي فُرصةٍ قابلةٍ للاستغلال، ولن ينعكس إيجابًا على السوريين أي تغييرٍ في المعطيات الدولية والإقليمية، لا حرب أوكرانيا ولا غيرها.
5) مقترح الأستاذ محمد صبرا:
- يدعو الى اصلاح الائتلاف بشكل يعيد النظر به تنظيميا وسياسيا ويدعو الى عقد مؤتمر سياسي وطني جامع، يضم جميع الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية إضافة للأجسام النقابية والمؤسسات التي تؤطر عمل الإداريين وموظفي الدولة، كما تدعى إليه منظمات المجتمع المدني بكافة أشكالها وأنواعها بصفة مراقب من دون الاشتراك بالتصويت أو العضوية.
- ويقوم مؤتمر القوى السياسية بوضع خطة عمل سياسي وميثاق عمل وطني كامل للعملية السياسية وكيفية الوصول للمرحلة الانتقالية وإعادة بناء الدولة السورية ومؤسساتها.
وفي الختام ادعو كل الوطنيين السوريين أفرادا وجماعات للتشبيك بين المبادرات السياسية الوطنية السورية للخروج برؤية مشتركة وفق آليات عمل واضحة لعقد مؤتمر وطني عام تنتج عنه هيئة تحرير وطنية ديمقراطية سورية.
المصدر: سوريا الأمل