بداية لا يرمي العنوان إلى أن الفلسطينيّ فقدَ كرامته في يوم ما، فحاشاهم ذلك، بل القصد أنهم يُعطون دروسا لفاقدِي الكرامة في كيفية استعادة ما فقدوه، ونضالهم الدائم يستدعي إزالة أي لبس قد يعلق بنضالهم الطاهر، لذا وجب التنويه.
عندما قامت النكبة عام 1948، وقفت دول عربية، عسكريا، للمرة الأولى والأخيرة لأجل استرداد الأرض المغتصَبة، ولما أخفقت في الحرب اتجهت الأنظمة العربية دون استثناء إلى الانزواء التدريجي عن القضية الفلسطينية، صحيح أن الخصومة الرسمية استمرت قرابة ثلاثة عقود، حتى توقيع معاهدة كامب ديفيد التي افتتح بها السادات بوابة العلاقات العلنية مع العدو، لكن قرار المواجهة العسكرية مع كيان الاحتلال أصبح مستبعدا، فيما يبدو، من الأجندة العربية.
تُرِك الفلسطينيون وحدهم أمام آلة القتل الوحشية التي تزداد همجية مع تقادم الزمن، واكتفت النظم العربية بالشجب والتنديد ولم يقدموا أكثر من ذلك، ولو مجرد دعم الفلسطينيين بالمال أمام عدوّهم الشرس ليتسلّحوا هم، أو ليخففوا عنهم آثار العدوان الصهيوني على أموالهم وأرضهم، ثم تفتّق الذهن الغاصب عن حصر القرار الفلسطيني في جهة واحدة تفاوِض باسم الشعب الفلسطيني، دون تصويت حقيقي يعبّر عن إرادة هذا الشعب الصامد، ومن هنا دخلت القضية الفلسطينية واحدة من أخطر مراحل محاولات الإجهاز عليها.
مرت أكثر من أربعة عقود على انحراف أحد أكبر الفصائل الفلسطينية عن مسارالمقاومة واتجهت إلى مسار التفاوض والتطبيع، وسعت النظم العربية إلى الترويج الشعبي بأن الشعب الفلسطيني أصبح له ممثلون، وأنهم وحدهم من يقرر مصير القضية الفلسطينية، وبعد سنوات من محاولات تجريف القضية، وشحن الوعي الاجتماعي في الإقليم ضدها، وانتكاسة آمال الحرية، ظن الصهاينة وحلفاؤهم في الإقليم وخارجه أنهم استفردوا بالشعب الفلسطيني، وأن مسارهم سيتم فرضه بقوة الأمر الواقع؛ باعتبار أن الشعوب العربية تم إسكاتها ولن تقدر على الضغط على حكوماتهم بالتظاهر، وبالفعل كانت استجابة الشعوب متوافقة مع ظنونهم في ظل حكم الحديد والنار العربي، لكن ما لم يكن في الحسبان أن الفلسطينيين ناضلوا على مسارين أذْهَلَا الاحتلال وداعميه.
المسار الأول، هو مسار المقاومة المسلحة في غزة الشجاعة والمقاومة، فأصبحت أرض غزة محرّمة على الصهاينة، ولعل البحر والسماء سيحرَّمان كذلك عليهم، وبالطبع هناك مقاومة مسلحة في الضفة، لكنها لاتزال تحتاج إلى التحرر من المستبد الداخلي لتنجح في فرض المعادلات ثم تثبيتها.
المسار الثاني، هو مسار النضال السلمي وهو السائد في القدس الشريف وما يتصل بالأقصى المبارك، وهو ما نشاهده من صمود المقدسيين المرابطين داخل أولى القبلتين، وصمود المقدسيين في حي الشيخ جرّاح المؤدي إلى مسرى نبينا صلى الله عليه وسلم.
نشاهد صمودهم العجيب في هبّة باب الأسباط، وهبّة باب الرحمة، وحول جدران المصلى القبلي، وفي ساحاته فَجْراً وعَشِيَّة، نشاهدهم بصدورهم العارية أمام محتل غاشم لا يألوا جهدا في قتل النساء والطفال، ولا يعبؤ بتضييع عشرات السنين من عمر أصحاب الأرض في الأَسْر، أو يهدم بيوتهم التي آوتهم، أو يسرق أرضهم التي يسترزقون منها.
الجديد في انتفاضة الفلسطينيين الأخيرة في مواجهة ذبح القرابين في الأقصى، أنهم استحدثوا نوعا جديدا من المقاومة، وهي المقاومة بالشموخ أمام الغاصب، مقاومة الواثق في عدالة قضيته، مقاومة من لا يأبه بضياع روحه أو سنوات عمره أسيرا في سبيل قضيته التي لا يتزحزح عنها قيد أنملة.
قاوموا مثل هذا العمّ العجوز الذي جلس بجلبابه ولحيته واضعا قدما فوق الأخرى، وهو يشاهد عدوه المدجج بالسلاح ولا يرمش له جفن، قاوموا مثل العمّ الآخر الذي أصيب ذراعه، فتمدد ليصوّر أعداءه ويوثق لحظات إجرامه وهو ممدد على أرضه يستريح عليها وهو يقاوم بالصورة فقط.
قاوموا مثل الشاب الذي جلس على كرسيّه أمام أعدائه ليُعْلِمَهم من صاحب الأرض ومَن الدخيل، ومثل الفتاتين الجميلتين التي أمسكت إحداهما مصحفها، لتقرأ كتاب ربها، ولعلّها كانت تقرأ سورة الإسراء في ساحِ الإسراء، قاوموا مثل الجميلة شروق زماميري، وهي تذهب إلى الأسر، وتقول لمن يوثّق اعتقالها ويريد طمأنة أهلها “فِدا الوطن يا عمي.. فِدا الوطن” ومدّت بصوتها كلمة الوطن، لتضيف إلى تاريخه العريق تاريخاً بمدّها الصوت وهي تنطقه، ولِتقصفَ من عُمْر الصهاينة أوقاتا تساوي عمر أصغر شجرة زيتون في ساحة بيتها، وهي على قِصَر عُمْرها تجاوز عُمُر دولة الاحتلال.
هذه المقاومة لا تُسمَّى إلا بـ”المقاومة بالشموخ”، الداخلة في باب المقاومة بـ”الاستعلاء على العدو”، وهي مقاومة تُوغِل في نَفْس العدو وتصيبه بالاضطراب، كما تفعل المقاومة المسلّحة، وهذه ليست مبالغة في تقدير الوضع، فالعدو يضطرب من السلاح المقابل لأنه جبان، والجبان لا يحتمي إلا وراء الجُدُر والسلاح الباطش، فإذا وجد أن ما يحتمي به لا قيمة له أمام أعزل، فإنه يرتبك ويضطرب، بل قد يراجع مفهومه عن قضيته ومدى عدالتها.
لا يملّ المرء من تَكرار وصف الفلسطينيين بالشجعان المذهلين، والممسكين على قضيتهم بقبضة من حديد لا تتراخى لحظة، رغم أنهم يمسكون لهباً لا دَعَة فيه، لا يضرهم مَن خذلهم، ولا ينجرّوا وراء الغَاوِين، يؤمنون بحقهم وعدالة قضيتهم، ولا يفرّطون في أرضهم ولا مسرى نبي الأمة، فهم حرّاس الأقصى، وحرّاس كرامة الأمة أمام العدو الذي مرّغ وجهها مِراراً بهوان حكامها وتواطئهم، ومن أراد أن يتعلّم درسا في استرداد الكرامة، فلْيُيَمِّمْ وجهه قُبالَة الأقصى، ولن يُخطئ الدرس.
المصدر: عربي 21