بعد مرور قرابة أربع سنوات على مقتل الصحافي السعودي “جمال خاشقجي” في القنصلية السعودية بإسطنبول، استجابت أنقرة التي جرت فيها محاكمة 26 متهما سعوديا غيابيا منذ يوليو/تموز 2020 لطلب السعودية بتسليم قضايا هؤلاء المتهمين إلى الرياض، وأعلنت في السابع من إبريل/نيسان الحالي نقل القضية إلى السعودية قائلة إنه لا جدوى من متابعة محاكمة غيابية على أراضيها. لم يكن هذا القرار مفاجئا، إذ إن أنقرة التي تسعى إلى إصلاح العلاقات مع الرياض وحلفائها، وقبل موعد زيارة الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” إلى العاصمة السعودية، قرَّرت اتخاذ خطوة تخدم بها مسار تهدئة الأجواء وتحسين العلاقات بين البلدين الأثقل اقتصاديا في الشرق الأوسط.
منذ أكتوبر/تشرين الأول 2020، تواصلت جهود تخفيف التوتر بين أنقرة والرياض، حيث زار وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو” السعودية في مايو/أيار 2021، وبالتزامن مع الزيارة، أجرى الرئيس التركي أردوغان اتصالا بالعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، فيما أعلنت الدولتان أنهما اتفقتا على العمل معا بُغية ضمان الاستقرار والسلام والازدهار في المنطقة، فاستمر بعد ذلك تبادل الزيارات بين المسؤولين السعوديين والأتراك لإصلاح العلاقات السياسية وتعميق العلاقات التجارية.
لكن التحوُّل الأسرع والأبرز على صعيد العلاقات التركية الخليجية حتى الآن كان من نصيب الإمارات، إذ احتفت أبوظبي بزيارة الرئيس التركي إلى أراضيها في منتصف فبراير/شباط الماضي حفاوة بالغة، ولم تكتفِ بإضاءة العلم التركي على مبانيها، بل إنها استقبلت أردوغان في جناح بلاده بمعرض “إكسبو دبي 2020” على أنغام الموسيقى التركية، فيما أثنى أردوغان أمام الجمهور على دولة الإمارات كونها أول دولة عربية تستضيف هذا المعرض العالمي.
تقارب بعد جفاء
بعد عقد من الزمن شهد الخلافات الأشد في تاريخ العلاقات التركية الخليجية، فاجأ الرئيس التركي العالم بزيارته إلى الإمارات، وأتت الزيارة بعد زيارة أخرى سبقتها لولي عهد أبوظبي محمد بن زايد آل نهيان إلى أنقرة، قدَّم خلالها تعهدات بـ 10 مليارات دولار من الاستثمارات في تركيا. ودون تردُّد، أعلن أردوغان خلال زيارته بدء صفحة جديدة مع الإمارات، قائلا إن هناك “إرادة قوية لتطوير العلاقات التجارية وزيادة الاستثمارات”، حيث شهدت الزيارة توقيع 13 اتفاقية تعاون ومذكرة تفاهم، بالإضافة إلى خطاب نوايا بشأن التعاون في مجال الصناعات الدفاعية، ومجالات أخرى مثل الصحة والتكنولوجيا والعمل من أجل المناخ وإدارة الأزمات والكوارث.
لقد بدأت إرهاصات تحسُّن العلاقة بين البلدين منذ العام الماضي، إذ جاءت الخطوة الملموسة الأولى مباشرة بعدما قرَّرت الرباعية العربية رسميا استعادة العلاقات الكاملة مع قطر خلال قمة العلا. وتزامنت المصالحة الخليجية مع رغبة أنقرة في اتخاذ خطوات عملية لإعادة ضبط سياستها الخارجية، وتصفير المشكلات مع منافسيها العرب الرئيسيين؛ لدوافع تمزج بين السياسي والاقتصادي. ولم تكِد دبلوماسية تركيا تخطو خطواتها الأولى نحو المصالحة مع الخليج حتى اندلعت الحرب الأوكرانية الروسية، التي منحت أنقرة المزيد من الدوافع نحو تصفير مشكلاتها، والعمل على إعادة نفسها لاعبا على طاولة المفاوضات والوساطات الدولية.
وفيما يبدو، أيقنت أنقرة أن طريق العودة إلى علاقات جيدة ومتينة مع الولايات المتحدة صعب في ظل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن الذي لا يبدو عازما على إعادة التحالف بين البلدين إلى سابق عهده. وقد عانت أنقرة من تبعثُر حساباتها بعد اندلاع ثورات الربيع العربي مباشرة عام 2011، حيث دخلت في عداء مع دول الخليج التي عادت تلك الثورات وداعميها، ونظرت إلى أنقرة بوصفها أحد داعمي جماعة الإخوان المسلمين، كما توتَّرت علاقاتها بواشنطن بسبب الخلافات الحادة حيال الملف الكردي في سوريا، الذي انفتح على مصراعيه إبَّان اندلاع الثورة السورية وظهور تنظيم الدولة الإسلامية، وهو ما دفعها لتعميق تعاونها العسكري مع روسيا، الأمر الذي زاد من حدة خلافاتها مع واشنطن.
عند بعض النقاط، وصلت الأمور في المنطقة إلى حد دخول الأطراف المتعارضة في مواجهات عسكرية بعضها مع بعض بصورة غير مباشرة في عدة بلدان، حيث وقفت كل من أنقرة ودول الخليج (الرياض وأبوظبي) في مواجهة بعضهما البعض في ليبيا ومصر، وحتى في سوريا حيث أعادت دول الخليج النظر في سياسة دعم الثورة السورية ونظرت في أمر الانفتاح البراغماتي على نظام الأسد، مقابل تمسُّك تركيا بدعم الفصائل المناوئة له، وصولا إلى الصومال حيث انحازت أبو ظبي إلى “صوماليلاند” مقابل دعم تركيا للحكومة في مقديشو.
ثم أتت فيما بعد الأزمة الخليجية عام 2017، التي قطعت بعدها السعودية والإمارات والبحرين ومصر العلاقات مع قطر، في حين ازدادت متانة تحالف أنقرة مع الدوحة بما في ذلك تعزيز الوجود العسكري على أراضيها. وأخيرا، كان مقتل خاشقجي في أكتوبر/تشرين الأول 2018 القشة التي قصمت ظهر البعير وأوصلت العلاقات التركية الخليجية إلى أدنى مستوياتها، سياسيا واقتصاديا.
أجواء المصالحة
أثقلت أعوام الصراعات الإقليمية تركيا ودول الخليج معا بالنظر إلى وزنهما الاقتصادي الكبير في المنطقة، ووضعت أمامهما تحديات عدة، مع رغبة مشتركة ربما في العودة إلى قواعد اللعبة القديمة قبل عام 2011. ومن ثمَّ سرعان ما لاحت بوادر إلقاء تلك الأعوام الساخنة والمتقلِّبة خلف ظهور الجميع، والاتجاه نحو سياسة تقارب مدفوعة بالمصالح البراغماتية، تتيح لتركيا من ناحية التفرُّغ لمواجهة المخاطر الإستراتيجية الحقيقية التي تُمثِّلها لها اليونان في شرق المتوسط وتُمثِّلها لها الفصائل الكُردية، كما تمنح عاصمتا الخليج الأكبر الفرصة لمواجهة تداعيات النفوذ الإيراني المتزايد واحتمالات عودة الاتفاق النووي مع الغرب. وبالتزامن مع ذلك، يرغب الطرفان في إيجاد منافذ اقتصادية إقليمية جديدة بعيدا عن العلاقات الاقتصادية المُعتادة مع الغرب الذي لم يعُد أحد يرغب بالاقتصار عليه لا في السياسة ولا في الاقتصاد أيضا.
بدورها، تحتاج تركيا قبل الانتخابات المقبلة عام 2023 إلى مزيد من الاستثمارات الأجنبية التي يستطيع الخليج أن يضخها، لا سيما بعد قفزت أسعار البترول (ومن ثمَّ السيولة المالية الخليجية). هذا وقد وصل الليرة التركية إلى مستويات قياسية للانخفاض فيما ارتفع معدل التضخم إلى 50%، وذلك بعد أن ألقت جائحة “كورونا” بتداعياتها على الاقتصاد التركي، وكذلك العلاقات الباردة مع الولايات المتحدة وسياسات الحكومة حيال سعر الفائدة. ولذا، تراجع اهتمام أنقرة بترف الدخول في صراعات جيوسياسية بعيدة، وبات حل الأزمة الاقتصادية أولوية قصوى للحكومة الساعية إلى الاحتفاظ بموقعها الحاكم بعد 2023.
ونتيجة لذلك، لم يكن من المستغرب أن يكون تسارُع التعاون الاقتصادي أبرز سمات التقارب التركي الإماراتي، مع إطلاق مشاريع استثمارية ضخمة. وبالمثل، تمتلك السعودية مقومات اقتصادية لا تقل إغراء بالنسبة إلى تركيا، في مقدمتها السماح لشركات البناء التركية بالاستثمار في مشاريع التطوير التابعة لرؤية المملكة العربية السعودية 2030، مما يعني أن تركيا ستجني حوافز اقتصادية تمنحها قدرة على مواجهة التضخم.
لقد امتلكت تركيا موقعا مميزا على جدول أعمال الاستثمارات الخليجية منذ عام 2002، لكن الأزمات الأخيرة جعلت قطر اللاعب الخليجي الأهم في الاقتصاد التركي، ورغم أن هذه الحقيقة من غير المُرجح أن تتغير في وقت قريب، لا يمكن تجاهل الفرق الكبير الذي يُمكِن أن يُحدثه دخول الإمارات والسعودية إلى مشهد الاستثمار داخل تركيا. وترغب السعودية أيضا من وراء الاستثمار في تركيا بتنويع اقتصادها خارج القطاع النفطي وتنويع وجهات استثمارها حول العالم.
على الصعيدين السياسي والعسكري، أدى استنزاف أنقرة في النزاعات التي انخرطت فيها انخراطا مباشرا أو غير مباشر إلى رغبتها في وقف عجلة التصعيد السياسي والعسكري، لا سيما وقد حققت إنجازات لا بأس بها أبرزها في ليبيا والصومال والقوقاز، ولذا يُعَدُّ فتح باب العلاقات السياسية الخليجية-التركية الآن فرصة كبيرة تُعزِّز وزن أنقرة في تسوية ملفات ساخنة أخرى لا تملك حسمها منفردة، وكذلك تُعيد صانع القرار التركي إلى سياسة “تصفير المشكلات” التي لاقت نجاحا أكبر في توسيع هامش الدور التركي بالمنطقة.
على سبيل المثال، من شأن إعادة العلاقات مع الرياض أن يُحدِث انحرافا في موقف المملكة المؤيد لليونان منذ بدأ الخلاف الدبلوماسي مع تركيا، فيما يمكن للسعودية أن تحصل على دعم أنقرة لموقفها في الملف اليمني في ظل تصعيدات جماعة الحوثي، سواء كان دعما عسكريا بتزويدها بطائرات مُسيَّرة فعَّالة، أو دعما دبلوماسيا بحشد تركيا لتصنيف الحوثيين جماعة إرهابية، والضغط على إيران من أجل تقديم التنازلات في ملف اليمن. أضف إلى ذلك ما يُحدِثه جذب الاقتصاد التركي إلى التشابك مع الخليج من توازن مع عودة إيران المُرتقبة إلى الاقتصاد الإقليمي والعالمي إذا ما نجحت في التوصُّل إلى اتفاق مع الغرب بشأن برنامجها النووي، وهو أمر يقلق العواصم الخليجية.
عوائق محتملة
ورغم كل تلك الفوائد، فإن الطريق نحو تحسين العلاقات التركية الخليجية ليس مفروشا بالورود، فثمة عوائق حقيقية في الطريق، وفي مقدمتها عدم ضمان استمرارية مجموعة العوامل الداخلية والخارجية التي دفعت نحو التقارب الأخير، فليس مستبعدا أن تتبدَّل المصالح أو تتغيَّر الظروف الإقليمية والدولية من جديد بما يُعرِّض العلاقات لاضطرابات جديدة، لا سيما أن أسباب الرغبة في العودة إلى تصفير المشكلات تكمن في رغبة الطرفين في الالتفات إلى ملفات يرونها أشد خطورة، أو تخفيف حِدَّة التوتر السياسي والاقتصادي وأعبائه، ولا تتعلق بعدُ بوجود مصلحة إستراتيجية حقيقة يمكن أن تنبني عليها شراكة طويلة الأمد بين الطرفين.
ثم هناك عامل آخر يتعلق النفوذ العسكري التركي في المنطقة، فرغم أن المصالحة الخليجية القطرية أظهرت أبو ظبي والرياض وقد تخلَّتا عن مطالبهما السابقة بإغلاق القاعدة العسكرية التركية في قطر، لا يزال من الصعب أن نتجاهل حقيقة أن العاصمتين الخليجيتين لم تقبلا بعد بالنفوذ التركي في المنطقة بصورته الحالية، وعلى رأسه امتلاك أنقرة قواعد عسكرية في البلدان العربية، وتوسيع نفوذها في القرن الأفريقي، وتعزيز وجودها في البحر الأحمر، وحتى في منطقة الخليج نفسها. ومن ثمَّ تبقى هذه الملفات مُجمدة على المدى القصير، لكنها مُعرضة للانفجار على المدى البعيد، ما يجعل استمرار التقارب الحالي مرهونا بالوضع الإقليمي والدولي.
ففي وقت تُضيف فيه قطر عمقا إستراتيجيا حقيقيا إلى الوجود التركي بالمنطقة بسبب موقعها الخليجي ودورها السياسي والاقتصادي، فإن اعتقاد البعض في الرياض وأبو ظبي بأن تعزيز العلاقات مع تركيا قد يجذب الأخيرة جزئيا بعيدا عن علاقاتها الفريدة مع قطر قد لا يثمر بسهولة على المدى البعيد، ولو قدَّمت الدول الخليجية تلك استثمارات ضخمة بالفعل، إذ لا تبدو تركيا راغبة في مقايضة المواقع الإستراتيجية التي نجحت في الحصول عليها لمجرد الحصول على استثمارات، مهما بدت هذه الاستثمارات حيوية إلى أنقرة في الوقت الراهن.
في نهاية المطاف، يمكن القول إنه في ظل الحاجة المتبادلة إلى تجاوز صفحات الخلاف بين تركيا ودول الخليج، يبدو أن المسار الحالي سيكون قابلا للاستمرار على المدى المنظور لتخفيف الأعباء التي تحمَّلها الطرفان أكثر من اللازم بسبب صراعات ما بعد الربيع العربي، وتراجع التزامات الولايات المتحدة بأمن المنطقة. بيد أن هناك تحديات تواجه استمرار تلك المصالحة على المدى البعيد ما دامت الظروف الإقليمية والدولية التي خلقت أسباب التنافر الإستراتيجية بين الخليج وتركيا مستمرة في المقام الأول. يدرك الطرفان أن المنطقة والعالم يمرّان بتحولات كبرى تفرضها أحداث مثل الغزو الروسي لأوكرانيا وعودة إيران المحتملة إلى المشهد الدولي وتقلبات السياسة الأميركية والتحديات الاقتصادية، وأن تلك التحولات تتطلب منهما إعادة معايرة سياساتهما في الوقت الراهن، لكن ذلك لا يعني أن أيًّا من الطرفين على استعداد لتغيير تموضعه الإستراتيجي في أي وقت قريب.
المصدر: الجزيرة. نت