نجح خلال عقدين من رئاسته في استشعار المزاج الشعبي لكن قراراته الأخيرة تبدو غير معتمدة على أسس أكيدة وقد يثبت أن المواطنين لا يتقبلون اجتياحه أوكرانيا
منذ اليوم الذي أطلقت فيه روسيا عملية اجتياح أوكرانيا، لاحت في أفق الأزمة هالة رجل واحد: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
بوصفه الحاكم المطلق، بدأ بوتين في طلب الدعم من الوزراء الرئيسيين في خطاب مباشر على الهواء، ختمه بهجوم لفظي غاضب ضدّ أوكرانيا، وأنحى باللائمة على لينين، وستالين، وغورباتشوف بسبب إجراءتهم الحسنة حيال أوكرانيا. وبعد ثلاثة أيام، ظهر من جديد في صباح يوم باكر من موسكو على القناة التلفزيونية الوطنية ليعلن بداية الأعمال العسكرية. هكذا اتّجهت أولى الدبابات باتجاه الأراضي الأوكرانية، وألقيت أولى القذائف خلال الساعات التالية.
غالباً ما يصوّر الهجوم العسكري الروسي على أنه حرب من الطراز القديم شنّها حاكم مستبد من الطراز القديم، فاجأ وصدم كلّ من كان يعتقد أن مثل تلك الحروب ولّى زمنها، أو على الأقل في أوروبا. وتذكّر مشاهد الاستعداد لخوض حرب الشوارع التي برزت في المدن الأوكرانية في الأيام القليلة الماضية، وبشكل مؤسف، بالأشرطة المصوّرة بالأسود والأبيض من تلك المدن عينها التي وثقت الهجوم الألماني عليها في 1941. ولكن من يشار إليه على أنه الحاكم المستبد من الطراز القديم يعكس أيضاً الزمن المتشعّب الذي عاش خلاله.
ولد بوتين عام 1952، في الجيل الأول لأطفال ما بعد الحرب العالمية الثانية، في مدينة لينينغراد وهي تعرف اليوم بسانت بطرسبرغ، وسيبلغ السبعين من عمره في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. تزامنت أيام بوتين الدراسية الأولى مع ما عرف في حينه بمرحلة “الدفء” [تحت قيادة الرئيس السوفياتي نيكيتا] خروتشوف، التي شهدت تخفيف وطأة القمع الذي فرضه ستالين على المستويين السياسي والثقافي. وكان بوتين في نهاية عقده الثاني حينما بدأ الاتحاد السوفياتي بما عرف لاحقاً بالتدخل الكارثي في أفغانستان. كذلك وصل بوتين إلى منتصف عقده الثالث بالترافق مع بدء غورباتشوف في بذل الجهود لإصلاح نظام الاتحاد السوفياتي ــ والتي فشلت في النهاية. في ذلك الوقت، كان بوتين قد تزوّج ورزق بطفلتين.
كان بوتين قد بلغ الأربعين من عمره حينما انهار الاتحاد السوفياتي، وقد اقترب من الخمسين عندما سماه الرئيس بوريس يلتسين خلفاً له. خلال العشرين سنة الماضية، كان بوتين على رأس السلطة في روسيا، عزز من قبضته بشكل واضح على مدى تلك السنوات مع مرور كل عام، وكذلك أمسك دوماً بالسلطة بشكل صارم، وقد طبع ذلك حكمه على مستوى العلاقات الدولية، وأيضاً من خلال القمع الذي استخدمه ضد المجتمع المدني الروسي المحلي، بما في ذلك زج الشخصية الروسية المعارضة ألكسي نافالني في السجن. وكان بوتين قد اتهم مباشرة في اغتيال المنشق الروسي المبعد أليكسندر ليتفينينكو، باستخدام المواد المشعة، ومحاولة اغتيال المنشق سكريبال وابنته في مدينة سالزبيري قبل ثلاث سنوات بمواد كيماوية، والمحاولة الفاشلة في تسميم المعارض نافالني، فيما نفى الكرملين علاقته بأي من هذه القضايا.
بعد عامين، سيخوض بوتين الانتخابات من أجل تجديد ولايته، بعد تعديلات دستورية مثيرة للجدل كان من شأنها أن تسمح له البقاء في السلطة حتى إلى ما بعد ولايته الرابعة والتي تنتهي في 2024. فوفق الدستور الروسي الحالي يمكنه أن يستمر على رأس السلطة “إلى ما لا نهاية”. وكان بوتين قد انفصل عن زوجته في 2014، حين قام الزوجان بإعلان الخبر على التلفزيون بعد حضورهما عرضاً للباليه الروسي. أما السبب المعلن فهو أن بوتين ليس لديه الوقت لأي شيء سوى العمل.
اليوم، ربما من المفيد التريّث للنظر في سلسلة الأحداث الكارثية التي عايشها بوتين وعدد من أبناء جيله من الروس. فبدايات شبابهم طبعها حال من التفاؤل التي سادت إبان عهد خروتشوف، وإن لم يدم طويلاً. في عهد غورباتشوف، عاد منسوب الأمل للإرتفاع من جديد، لكنه أثر بشكل جعل من الصعب التخطيط للمستقبل بالنسبة لمن يتمتع بالطموح لأن المسار المهني والوظيفي بالنسبة للكثيرين (في روسيا) قد أصبح مجهولاً ووحده من كان يملك شهية للمخاطرة نجح في الحصول على ثمار جهوده.
ويعتبر حلّ الاتحاد السوفياتي اللحظة التاريخية المفصلية، وقد تمّ بشكل سلمي وسلس يدعو للاستغراب والتعجّب، على رغم إمكانية اعتبار الحرب الأوكرانية اليوم أحد تداعياته البعيدة المدى [لانهيار الاتحاد السوفياتي]. بالنسبة للروس بشكل عام، كان الأثر المباشر لانهيار الاتحاد السوفياتي على حياتهم اقتصادياً بامتياز. فالجمهوريات الأربع عشرة الأخرى التي كونت الاتحاد السوفياتي تفرقت وتركت روسيا وحيدة لدفع الثمن في الكثير من القضايا. فالتضخم [الذي تلا الانهيار] أفقر طبقة أصحاب الرساميل وكبار السن، هؤلاء اضطروا لشغل وظائف عادية، بما في ذلك قيادة سيارات الأجرة (كما فعل بوتين) أو عرض ممتلكاتهم للبيع في الشارع. لم تبدأ الأمور في العودة إلى نصابها قبل عام 1999، حينما تولى بوتين رئاسة الحكومة ــ تمهيداً لتوليه رئاسة الجمهورية. فشعبية بوتين في روسيا تعتمد إلى يومنا هذا على إنجازه هذا.
هذه هي خلفية ما يجري اليوم. ولكن، هناك أيضاً الظروف الخاصة التي مرّ بها بوتين وشخصيته. فقد نجت عائلته من الحصار الذي ضربه الألمان حول لينينغراد، فقضى الآلاف من الجوع، كما توفي شقيقه عن عمر عامين قبل ولادة الطفل فلاديمير (شقيق آخر كان قد توفي أيضاً وهو رضيع). وعاد والد بوتين بعد مشاركته في الحرب مصاباً بعاهة، وعاشت عائلته في بيت مشترك (على الطراز الشيوعي) حيث تتشارك العائلات المطبخ والحمام (مع كل الضغط الذي قد يولّده هذا الظرف على الجميع). نشأ بوتين ولداً صغيراً نحيل البنية وقد لجأ إلى تعلم الفنون القتالية، للدفاع عن نفسه وحيزه على ما يبدو.
زبوحي من فيلم عن جاسوس سوفياتي، على ما يبدو، رغب بوتين في أن يصبح جيمس بوند السوفياتي، لكن طلبه رفض في البداية لأنه كان صغيراً في السن ولا يملك الكفاءات الكافية. وطلب منه أن يذهب لتلقي مزيداً من العلم لتحسين حظوظه. انخرط في دراسة الحقوق في ما كان يعرف بجامعة لينينغراد في ذلك الوقت ــ وكانت كلّية الحقوق فيها مرموقة في جامعة معتبرة. وتم اختياره بعد ذلك للعمل ضمن جهاز الاستخبارات الخارجية، وكان يعمل في البعثة السوفياتية في مدينة دريسدن الألمانية عند انهيار الاتحاد السوفياتي دولة تلو الدولة في كافة شرق أوروبا.
فيما كان بوتين شاهداً على عملية خسارة الشيوعيين سيطرتهم على ألمانيا الشرقية ــ التي كانت الجمهورية الأكثر ولاءً لموسكو من بين دول المعسكر الشرقي كافة ــ لا بد وأن ترك ذلك آثاره على شخصية بوتين لبقية حياته، كما شكّل معضلة خاصة بالنسبة لبوتين. فقبل عامين على انهيار الاتحاد السوفياتي، قام بوتين بتغيير ولاءه واتخذ قرار الاستقالة من جهاز الاستخبارات الـ “كي جي بي” وانتقل للعمل في واحدة من أكثر الإدارات المدنية تقدماً في روسيا السوفياتية ألا وهي مجلس بلدية مدينة لينينغراد ــ والتي استعادت اسمها الحقيقي سانت بطرسبرغ بعد حين، بقيادة المحامي والناشط الديمقراطي أناتولي شوبشاك.
ما لا يبدو واضحاً، أي الجزء الأكثر ضبابية من مسيرة بوتين المهنية ــ هو ما إذا كان قد هجر حبه الأول فعلاً، أي جهاز الاستخبارات السوفياتي، أم أنه بقي جاسوساً (كالمقولة الشهيرة “إذا كنت عضواً في الـ “كي جي بي” يوماً، فإنك تبقى كذلك مدى الحياة)، حتى بعد توجهه للعمل لصالح ما أصبح لاحقاً النظام الجديد. إحساسي، وذلك يبقى شعوراً، أنه رمى بثقله في العمل مع أستاذه في القانون السابق ــ فقط بسبب اليأس (فأين كان يمكنه أن يجد عملاً لإعالة عائلته في بلد كان نظامه السياسي يتغير باستمرار؟)، ولكن أيضاً في جزئية لأنه كان يفهم أين تضرب الرياح. علاقاته الشخصية سهلت خطوة لم يكن مرحب بها تماماً للانتقال إلى موسكو وانضمامه إلى قبيلة الرئيس السابق يلتسين والبقية الباقية من ذلك أصبحت جزءاً من التاريخ.
خبراء علم النفس الشعبي رأوا في بوتين شخصية تستحق الدراسة: فهو الشاب النحيل الذي تحول إلى مقاتل في الشارع عازماً على ضرب المتنمرين، إنه ممن خاب أمله في جهاز الاستخبارات (بعدما اطلع على حقيقة الأمور)، وهو الشخص المهووس باللياقة البدنية ــ تذكروا ركوبه الحصان عارياً (ليعرض عضلاته)، والشخص الرجولي الذي يهوى رياضة الغطس. كل هذه الصفات يتم استحضارها إلى العلن اليوم لمحاولة فهم أسباب ضيق الصدر التي ترجمت شعوراً معارضاً لما كان يراه حلفاً أطلسياً صاعداً ومعارضته التوجه الأوكراني الغربي المتزايد ليتحول إلى حرب واسعة النطاق.
كل هذه المعطيات ربما تكون جزءاً من الصورة التي قد تساعد على فهم تصرفات بوتين. لغير أنها تشكل جزءاً فقط من الصورة الكاملة. فخلال أكثر من عشرين عاماً كان بوتين يقود روسيا إما بوصفه رئيساً، أم رئيساً للحكومة، تزايدت سلطته قولاً وفعلاً ــ بشكل لا يمكن قياسه، لكنه مع كل ذلك بقي قادراً على تغيير السجل: وتحوله من حالة غموضه البارد، إلى الغاضب بعنف، وصولاً إلى تمتعه بالدهاء. لكن حتى خلال موجات الغضب تلك، يتمسك بوتين برباطة جأشه. فهو يظهر فقط ما يريد أن يراه الآخرون، لا أكثر.
أحياناً، بدا وكأن غضبه قد سيطر على تصرفاته بالكامل، فكان من الصعب في حينه التأكد إذا كان ذلك استعراضاً للتأثير الدرامي أم أنه قد فقد السيطرة على أعصابه. إحدى تلك المناسبات ظهرت عام 2004، في وقت من فترة رئاسته، عندما نجح المقاتلون الشيشان في محاصرة مدرسة في بسلان في جنوب روسيا وأدى ذلك إلى مقتل أكثر من 300 شخص. لقد تصرف بوتين أخيراً بنفس الطريقة حيث بدا عليه الإحباط ونفاد الصبر وحتى استياءه الشخصي تقريباً من نفسه، مطلقاً عبارات نابية وألفاظاً بذيئة تصلح لغرف الثكنات العسكرية ــ وذلك عندما أبدى امتعاضه من ما يعتبره عدم ليونة الغرب في التعامل مع مخاوفه من توسع حلف الأطلسي واتجاه أوكرانيا المعادي لروسيا. ففي وصفه الحكومة الأوكرانية بأنها مكونة من “مدمني المخدرات” و”النازيين الجدد”، وهو ما فعله حتى عندما شن الجنود الروس أول غاراتهم على أوكرانيا كاشفاً عن وجه بوتين الذي يكن الضغينة ويتصرف كرجل الشارع، وهو وجه طالما أبقاه مخفياً.
وفيما راكم بوتين القوة، وإن غير كافية ليتمكن لتسمح له اليوم بأن يكون الآمر المطلق والناهي على روسيا، ومن دون مساءلة، يتم تناقل الكثير من المزاعم عن جمعه ثروة كبيرة (وربما عن طريق الفساد) وعن أن هدفه الأسمى هو إعادة إحياء الاتحاد السوفياتي ــ أو حتى الإمبراطورية الروسية. وفيما استفاد المحيطون به بقوة من علاقاتهم ببوتين، لا يبدو لي أن الثروة هي ما يحفز بوتين، وليس لديه ــ وبرأيي أيضاً ــ أي طموح لاستعادة [أمجاد] إمبراطورية تعود لأي حقبة من الزمن. في هذا الموضوع، يشير في إحدى أحاديثه السابقة إلى أنه: “لا يمكن لأي شخص لديه قلب ألا يأسف على نهاية الاتحاد السوفياتي، ولكن لا يمكن أن يرغب في قيامة جديدة للاتحاد السوفياتي إن كان بكامل قواه العقلية”.
إن الحافز المركزي لدى بوتين منذ أيامه الأولى كرئيس يبدو وكأنه كان محاولة لإعادة الاعتبار إلى روسيا في العالم، بعد ما يراه حتى يومنا هذا من الشعور بالإهانة جراء انهيار الاتحاد السوفياتي، لكن الأهم برأيه هو الاعتبارات الأمنية التي تهم روسيا. فهذا هو ما أعتقد أنه يحفز بوتين أكثر من ميله نحو التوسع، وهو ما دفعه في عام 2008 إلى شن الحرب على جورجيا وضمه شبه جزيرة القرم في 2014: أي أنه شعوره العميق بالخوف من أن الغرب يحقق تقدماً ضمن ما يعتبره عمق روسيا الأمني.
هذا المنطق هو ما يحرك قلب مسألة الاجتياح الذي أمر بتنفيذه ضد أوكرانيا، الدولة التي يراها بأنه تم إعدادها من قبل الدول الغربية في السنوات الأخيرة لتصبح حصان طروادة تهدف إلى منع روسيا من تحقيق حقها التاريخي بأن تكون دولة عظمى. فكل الجهود العظيمة التي بذلها خلال السنوات الماضية هدفت إلى إقناع الغرب أن يتعاطى [بإيجابية] مع مخاوف روسيا الأمنية، كما قال خلال كلمته التي أعلن خلالها الحرب، أنها كانت قد فشلت. فاللجوء إلى استخدام القوة كان آخر الخيارات المتاحة بحسب قوله ــ لكن قلة فقط من زعماء العالم تنظر إلى المسألة [الأوكرانية] من هذا المنظور.
السؤال المطروح اليوم هو إلى أي مدى يلتف المواطنون الروس حول بوتين و[يوافقون] على انشغاله في القضية الأوكرانية ــ والتي تبدو بشكل متزايد هدفاً شخصياً للرئيس بوتين. فقد انتهى الزمن حين كان بوتين قادراً على استشعار المزاج الشعبي بدقة. لكن في السنوات الماضية، تماماً كما هي حال أبناء جيله ــ الذين عاشوا خلال مراحل كثيرة من التغيير (الذي شهدته روسيا) ــ أصبح هؤلاء أقلية بين أبناء الشعب الروسي، ولذلك سيبدو وكأن حكمه على الأمور لم يعد مقبولاً إلى الدرجة نفسها [كما في السابق].
الأسابيع القليلة المقبلة قد تظهر مدى وحدة روسيا في ظل حكم بوتين، وإلى أي مدى يمكن أن يكون القائد والشعب قد افترقوا [في المسيرة والمصير]. فهل يمكن أن يكون عهد بوتين قد اقترب من نهايته؟
نشر في “اندبندنت” 24 مارس 2022
المصدر: اندبندنت عربية