يعيش العالم اليوم في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، التي تُنذر بتغيير النظام العالمي القديم، وإحلال نظام جديد مكانه، ومن الممكن أن يولد نظام عالمي آخر ثنائي القطب أو ربما متعدد الأقطاب، وأصبحت الدول تفتش عن مكان لها في هذا النظام.
ومهما يكن من أمر الفترة الزمنية التي يحتاجها هذا النظام ليوجد، مع احتمال فشل ولادته، حيث تسعى القوى الدولية المتحكمة اليوم إلى المحافظة على سيطرتها على القرار العالمي، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، فإن من تداعيات هذه الحرب السيئة والخطيرة تهديد إمدادات الأمن الغذائي العالمي، وقد شاءت الأقدار أن تكون روسيا وأوكرانيا معاً مصدراً لـ80% من غلة الحبوب العالمية، خاصة القمح والزيوت، وبدأت الدول تشعر بخطر خسارة أمنها الغذائي.
وليس العالم العربي حالة استثنائية في هذا المجال، فمعظم الدول العربية على الرغم من الإمكانيات الكبيرة لديها تستورد حاجاتها الغذائية الأساسية، وإن كانت بعض الدول العربية تفتقر إلى الإمكانيات الزراعية بسبب الواقع الجغرافي، فإن بعضها الآخر يعيش أزمات وحروباً أو فشلاً إدارياً وسياسياً، ما جعلها تفتقد أبسط مقومات الرؤية المستقبلية والأمن الغذائي، وأمام الخطر المحدق بالشعوب العربية والتهديد بالمجاعات الكبيرة، فإن هذه الدول مدعوة إلى التلاقي، وإطلاق مبادرات تؤدي إلى ضمان الأمن الغذائي الكامل لشعوب المنطقة العربية.
إننا نعترف أن دعوات الوحدة العربية قد فشلت في النصف الثاني من القرن العشرين، لأنها لم تراعِ تعقيدات الواقع العربي المستجد، بعد فرض الانتداب وتقسيم المنطقة العربية إلى دول، ما أدى إلى فشل هذه المشاريع، لذلك فإن الكلام عن الوحدة العربية أصبح ضرباً من العبث، في ظل هذه الأجواء، لكن التكامل الاقتصادي أصبح ضرورة ملحة، ومصلحة شاملة للشعب العربي بأسره وللدول العربية وللأنظمة الحاكمة، ففي النهاية إن لم يبقَ هناك شعب فلن يكون هناك حُكم ولا حاكمون.
وبالفعل ورغم الأزمات والصراعات والحروب التي لا تزال مشتعلة في بعض مناطق عالمنا العربي، فإننا مؤمنون بأن الأزمات هي بوابات الحلول الشاملة، فلقد كانت الحرب العالمية الثانية آخر جولة عنف في أوروبا، حتى مجازر البوسنة والهرسك، ومثلت وسيلة الخروج من دورات العنف المتكررة، والدخول في السلم الشامل، بعد أن خلَّفت حجم دمار وموت مخيفين، جعل الإنسان الأوروبي يتساءل عن جدوى الحروب والصراعات، وشكلت بداية مرحلة سلام ووقفٍ للعنف، وإيجاد آليات أخرى لحل المشكلات والخلافات بين الشعوب الأوربية، كما شكَّلت بداية التكامل الاقتصادي عبر السوق الأوروبية المشتركة وإلغاء الحدود والقيود الجمركية، وتوحيد العملة والدخول في سلام دائم أدى إلى نهضة شاملة، وأوصل القارة الأوروبية إلى مكانتها العالمية اليوم.
وهكذا فإننا نقول إننا ندعم مسار بعض المشاورات التي انطلقت لحل المشكلات التي لا تزال مشتعلة في بعض مناطق العالم العربي، كما في اليمن (مفاوضات الرياض والهدنة الإنسانية)، وليبيا من قبلها، وكلها مؤشرات على بداية الخروج من نفق الحروب المتنقلة والصراعات الصغيرة والكبيرة، والخروج من دوامة العنف المستمر منذ عقود، وزادت أحداث ما بعد الربيع العربي والثورات المضادة من حدته في بعض الأقطار العربية.
وبما أن مصائب قوم عند قوم فوائد، وفي ظل الحديث عن زيادة العقوبات على روسيا، وصولاً إلى الاستغناء عن الغاز والنفط الروسيين، فإن البديل حتماً سيكون مصادر الطاقة العربية في الخليج، فضلاً على تلك الكميات المكتشفة في لبنان، بالإضافة إلى الموارد المصرية والليبية والجزائرية وغيرها في العالم العربي، لذلك فإننا ندعو لاستغلال العوائد المرتفعة المتوقعة للطاقة، بسبب زيادة الطلب وارتفاع الأسعار عالمياً، لتمويل مشاريع زراعية تكاملية في الدول العربية الصالحة للزراعة، لا سيما في لبنان وسوريا والعراق والجزائر ومصر وغور الأردن والسودان والصومال.
وهذه المشاريع تحتاج في البداية إلى تكاليف إنتاجية لتأمين البذور واستصلاح التربة، وتمديد شبكات مياه الري، يمكن تمويلها من العائدات التي أشرنا إليها، ستؤدي هذه المشاريع حتماً إلى توفر عدد كبير من المحاصيل الزراعية، وخلال وقت قصير يمكن تأمين الحد الأدنى من مقومات الأمن الغذاء العربي المشترك، الذي سيشكل خطوة نوعية أولى وغير مسبوقة نحو تكامل اقتصادي ووحدة جمركية، وذلك بقليل من التفاؤل.
إن هذا الكلام ليس ضرباً من الأحلام، بل إن هناك العديد من الوقائع والمعطيات التي تشير إليه، إننا نحتاج إلى الإيمان أولاً، وبقليل من الجهد والتعاون العربي قد نرى مشاريع كبيرة تبصر النور، وأعود معكم إلى إيماننا بأن الأزمات تصنع الحلول، فقد كانت الأزمة الاقتصادية اللبنانية كارثة مدوية نزلت بلبنان وشعبه، لكنها شكلت منطلقاً للبحث عن حلول فعالة ومستدامة للواقع اللبناني، وربما لم يحصد اللبناني الثمار، بسبب ضعف الإمكانيات التي فرضتها الأزمة، إلا أن مفاعيلها ستبرز على المدى المتوسط والبعيد، فقد بات الجانب الإنتاجي من الاقتصاد يحظى بالاهتمام، وتسعى وزارة الزراعة إلى إطلاق مشاريع زراعة القمح في لبنان، ما دامت أرضه مناسبة لذلك، فهل ننسى كيف أنبتت حبات القمح بعد أيام من انفجار مرفأ بيروت، في الرابع من أغسطس/آب 2020، فهذه الحبوب التي كانت موجودة في الصوامع في المرفأ تناثرت بعد الانفجار وأنبتت.
طبعاً لا يمكن أن تتوسع هذه المشاريع إلا بعد إتمام عملية تبريد الخلافات وحل النزاعات بين الدول العربية، فضلاً عن النزاعات العربية الداخلية، أو بالأحرى الحروب الأهلية، إلا أننا نقول إن الإنسان العربي قد سئم الحروب، وملّ النزاع، وكره أن يبقى لاجئاً في وطنه وخارجه، ويريد أن يحيا بكرامته وعنفوانه العربي، وأن يرى وطنه مزدهراً مستقراً، وأن يبقيه لأولاده ليحيوا فيه من بعده، لذلك فقد آن الأوان لاتخاذ قرارات مهمة تضمن المستقبل العربي، وتحمي مصيرنا المشترك، وتؤمّن الحياة الكريمة للأجيال العربية.
المصدر: عربي بوست