وفقاً لإحصائيات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لشهر كانون الأول/ديسمبر 2021، يعيش الآن على الأراضي السورية أكثر من سبعة عشر مليون إنسان، موزعين على ثلاث مناطق نفوذ متصارعة فيما بينها. لا يوجد انتماء سياسي موحّد في توزع هذه الملايين. المشهد مختلطٌ ومتداخل، ولا يتوافق أبداً مع التقسيمات المجرّدة.
تسعة ملايين وستمئة ألف سوري يسكنون مناطق سيطرة نظام الأسد، وهم حتماً ليسوا بكليتهم موالين لنظام القمع في دمشق، وإن كان معظمهم ينضوي تحت راية “الله يطفيها بنوره”، وهذا تعريف منحوت يعبر عن السوريين اللامنتمين لأي جبهة من جبهات الصراع. حتماً هناك الكثير من المعارضين الذين ظلّوا لأسباب كثيرة يطول شرحها (عند النظام)، وهي مفهومة ومبررة، حتى وإن طعن البعض بوجاهتها. الحالُ ينطبق كذلك على أربعة ملايين ومئتي ألف يعيشون في مناطق سيطرة (المعارضة)، وثلاثة ملايين ومئتي ألف في مناطق سيطرة قسد.
حين سارت قوافل التهجير القسري شمالاً، حملتْ في ركابها غالبيةً تعارضُ استمرار حكم الأسد، لكن كان فيها أيضاً عشرات الآلاف ممن جرفهم الخوف من المجازر والاعتقال والخطف، وكذلك المتخلفون عن خدمة التجنيد الإجباري في صفوف قوات الأسد، وبالتأكيد كان فيها الكثير من اللامنتمين السابق ذكرهم. ليست الغاية مما ورد أعلاه، إعطاء شهادات في الثورة والوطنية، إنما هي محاولة لتوضيح الحالة السورية بعيداً عن الخطوط المستقيمة التي يرسمها البعض.
والآن، لنطرح السؤال بشكل مباشر، هل نستطيع أن نطلق مسمى “مناطق سيطرة الثوار” على الجغرافيا الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام وفصائل الجيش الوطني؟ وهذا الوصف سيعني بديهياً أن الناشطين الثوريين الوطنيين هم أصحاب القرار على أرض “حررتها” ثورتهم. هيئة تحرير الشام فصيل عسكري ديني يهدفُ لتحقيق حلم فوق أو دون وطني، الفوق هنا ليس ترتيباً حضارياً. حلمٌ، إن صدّقناه تجاوزاً، يرتكز على أدبيات وعقيدة تنادي بدولة دينية من لون واحد. الديمقراطية في معتقد هؤلاء هي دين الغرب، والغرب كافر. وليس من بين مكونات فلسفتهم عن الحكم، ما يمكن أن يسمى “انتخاب”، ولا مبدأ الاحتكام للصندوق لاختيار مشرعين ونواب عن الشعب.
كلمة الشعب ذاتها لا تحمل عندهم ذات المدلول المعروف، فهي تخضع لفرز ديني مذهبي، على تخومها سيقبع من يُدعَون أهل ذمة أو خوارج ومرتدين. الحكم الآن للغالب بالسيف، وأهل الحكم هم أهل الحل والعقد، وما بقية أفراد المجتمع سوى رعية يتوجب عليها مبايعة الأمير (على المَنْشَط والمكره). مسألة تداول السلطة مطروحةٌ فقط ما دون كرسي الشيخ الأمير الفاتح، وأمراء الصف الأول، أمراء الاقتصاد والسياسة والحرب والقضاء والاستخبارات والرياضة والدين. للإنصاف، هناك تداولٌ مسموح به، فحكومة الإنقاذ التابعة للهيئة تتبدل كلياً وجزئياً كل فترة، بفرمان أميري ليس للرعية فيه ناقة أو حتى جرو. وربما بقرار من مجلس الشورى المشكل بقرار أميري أيضاً!
يتحدثُ البعض عن ليونةٍ جديدة في تعامل تحرير الشام مع “الرعية”، وذلك في سبيل الحصول على قبول دولي، يجيز مشروع الهيئة ويقبله. بإمكان المقيم في إدلب اليوم، أن يشتري علبة السجائر علناً، فالتبغ موضوع على الرفوف، الأمر الذي كان مستحيلاً قبل ثلاث سنوات. حينذاك، كانت حيازة التبغ تودي بالبائع إلى السجن، بعد حرق ما بحوزته من تلك المادة الحرام. وبإمكان من يشاء اليوم، تدخين “النرجيلة”، وهي موجودة علناً في بعض المنتزهات والمطاعم! دون أن تقتحم المطعم “جماعة الفلاح” بسياراتها المميزة التي كانت تحمل شعار “حتى لا تغرق السفينة”. “الفلاح” كانت بمثابة “الحسبة” قبل أن تتحول إلى شرطة. بإمكان السيدات في إدلب وقراها اليوم، ارتداء معاطف لا تبلغ الكاحل تماماً، في حين كان المعطف النسائي الواصل منتصف بطة الساق، قبل سنتين، زيّاً سافراً ستسمعُ من ترتديه، من نساء الفلاح، أشد عبارات الوعيد، والتذكير بنار ستحرق كل ما دنا المعطف من مغريات تستقطب عيون الرجال الجائعة!
لعلّ عيون الرجال شبعت اليوم، بعد المتغيرات التي طالت عقيدة أمراء الهيئة، ولعل ما دنا المعطف لم يعد مغرياً، بعد ما صنعهُ الجوع بالمغريات. كما بات بإمكان من يقود سيارته هناك، أن يستمع لأغنية، بشرط ألا يتسرب شرّ الموسيقا خارج السيارة. يجب ضبط درجة الصوت بدقة كي لا يعترض عنصر الحاجز زاجراً: “استترْ”، وهي عبارة تذكّر بوبال المجاهرة بالمعاصي. من خلال ما سبق من “حلحلة ورحرحة” وليونة تعتقدُ تحرير الشام أنها ستنالُ قبولاً دولياً بها. نعم، ربما يحصل ذلك في عالمنا المعاصر، لكنه سيكون كالقبول بالأسد المنبوذ، والذي يعدي وضعه كامل المواطنين السوريين ليكونوا منبوذين عالمياً.
في هذا المناخ، أين هم “الثوار”؟ أولئك الذين هتفوا يوماً منادين ومطالبين بالحرية السياسية، ومبدأ تداول السلطة عبر الانتخابات، أين هو القانون الذي يحمي الجميع ويسري على الجميع؟ أين القضاء الذي يحمي من عناصر دوريات الليل الملثمين؟ في إدلب اليوم عاد بعض الناشطين إلى العمل السري، فاجتماعاتهم ولقاءاتهم تتم في الخفاء، ويكتشفون كل فترة أنهم مخترقون، وبات معظمهم تحت رقابة الجهاز الأمني للهيئة.
لا يختلف الأمرُ كثيراً في مناطق سيطرة “الجيش الوطني”، من حيث حقيقة أن ناشطي الثورة خارج دوائر الحكم. القرار في هذه المناطق لقادة الفصائل، الذين يخضعون بشكل كامل لأوامر خارجية، أما الحكومة المؤقتة فهي كيان “تمثيلي” بكل ما تحمله كلمة “تمثيلي” من دلالات مختلفة. لعلّ هناك فارقاً بسيطاً بين المنطقتين، يتمثّلُ بكون القبضة الأمنية في مناطق تحرير الشام أشد إطباقاً منها في مناطق سيطرة الجيش الوطني، حيث المواطن بمنأى عن الاعتقال، طالما ابتعد عن انتقاد أمراء الحرب ومشغليهم. حتى كيانات ما يمكن وصفه بالمجتمع المدني من نقابات وهيئات سياسية واتحادات أدبية وحركات نسوية باتت تخضع للسيطرة، وفي العديد من الحالات، يتم اختيار قياداتها بناء على تزكية من قادة العسكر. أما مناطق قسد، فإن كانت تختلف من حيث الشكل والخطاب الإعلامي، فهي تشبه باقي المناطق بالواقع، من حيث الاعتقال والفساد وتجنيد القاصرين، وصولاً إلى القتل تحت التعذيب. من يستطيع المضي إلى الأمام في بيئة طاردة للحرية، بل وللحلم بها؟ بيئة عادت “المخابرات” إليها بأبشع ممارساتها، توقيف تعسفي وإخفاء قسري، وتتبع لكتابات الناشطين على مواقعهم الخاصة عبر الفضاء الافتراضي. سوريا المقسمة اليوم تتقاطع بمعظم ما سبق مع الفارق الكمّي طبعاً.
هكذا إذاً، وصلنا إلى كل ما أراده الأسد الأب، وكل ما تابع به الابن. لتظهر الحالة الأسدية، عالمياً اليوم، وكأنها حالة قدريّةً سوريّة لا فكاك منها. كنا على الدوام سوريين منبوذين دولياً مع الأسد، وكان إعلام الأسد يخاطبنا، ويخاطب العالم معنا، ما البديل؟ ويجيب بدون تردد، البديل هم الظلاميون والإرهابيون، ليصل العالم، إلى النتيجة المُقدَّرة إسرائيلياً: الأسد أهون الشرور. كادت الثورة السورية، ونحن اليوم على عتبات عامها الثاني عشر، أن تطيح بتلك المُسلَّمة عام 2011، لولا أن الخطط المحفوظة في الجوارير من أيام الأسد الأب، قد فُرِدت فوق الطاولات على الفور، وتم العمل بموجبها. ووصلنا اليوم _الحقيقة قبل اليوم بكثير_ إلى ما نحن عليه, ليقتنع العالم أن البديل للأسد سيكون أسوأ بالمقاييس الدولية، رغم قناعة السوريين أن لا أسوأ من الأسد. ولكن هذه هي الصورة التي تظهر دولياً، ولو كانت مستولدة بفعل فاعل، بينما حوربت أي مسارات أخرى، كان يمكن أن يستولدها المجتمع السوري، كما هو على حقيقته. هل نحن نادمون؟ بالطبع لا. يوماً ما ستنفتح صيرورات جديدة، وسيجد السوريون سبيلهم.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا