أحسب أن ليس هناك فوارقاً كبيرة بين من عمل مع خير الدين حسيب وضمن توجهاته الفكرية والسياسية، على المستويين النظري والعملي، وبين من اختلف معه حول بعض تفاصيل هذه القضية أو تلك أو إشكالية وأخرى، بمن فيهم من كان لديه وجهات نظر مغايرة، والأمر يتعلّق برياديته وإنجازاته ومشروعه الباذخ، فضلاً عن كفاءاته وقدراته وطاقاته ودأبه الذي لا يلين، فتلك أمور سيكون فيها مجانباً للحقيقة لو أخذ التقدير المعكوس، فالرجل كرّس حياته لقضايا آمن بها وكان مستعداً للتضحية من أجلها، أخطأ أم أصاب، ولعلّ من أبرز هذه القضايا:
وحدة الأمة العربية وأهمية انبعاثها الحضاري وتجدّدها لكي تلحق بالأمم المتقدمة. وكانت خلاصات تجربته الفكرية والحياتية مع نخبة متميّزة وكوكبة لامعة من المثقفين والمفكرين والباحثين العرب المؤمنين معه، التوصل إلى صياغة المشروع النهضوي العربي الذي يقوم على ستة أركان مترابطة ومتداخلة ومتفاعلة هي: الوحدة في مواجهة التجزئة، وهذه تحتاج إلى التحرّر السياسي في مواجهة الاستعمار والهيمنة، والاستقلال الاقتصادي والتنمية المستقلة في مواجهة التخلّف والتبعية، والديمقراطية في مواجهة الإستبداد، والعدالة الإجتماعية في مواجهة الاستغلال، إضافة إلى استنهاض الأمة لتواصل ماضيها المشرق بحاضرها ومستقبلها المنشود.
ومن أجل ذلك كانت مبادرته الأهم والأكبر هي تأسيس “مركز دراسات الوحدة العربية”، العمل غير المسبوق الذي فكّر فيه وعمل على إنجازه بجدارة وإصرار على نجاحه واستمراره، بل سخّر كل طاقاته ليصبح المشروع الواعد شجرة مثمرة تتفرّع منها مشاريع أخرى تصبّ في ذات الأهداف، فقد امتلك حسيب عقلاً عملياً ورؤية مستقبلية واقعية.
تقريب المسافاة وفتح الطرق وإزالة الحواجز التي تعيق علاقة مثقفي المشرق العربي بمثقفي المغرب العربي، وذلك عبر التواصل والتفاعل واللقاءات المباشرة والأعمال المشتركة بين المثقفين العرب بغض النظر عن الجغرافيا وأنظمة الحكم، بل أنه قدّم زاداً وفيراً لجميع المثقفين والعاملين بالشأن العام بمختلف اتجاهاتهم وألوانهم وتياراتهم الفكرية، وذلك عبر حصيلة بمختلف العلوم والآداب والفنون وفروع الثقافة كافة زادت على 1000 كتاب بشتّى الاختصاصات.
ولا أظنّ أن مركزاً فكرياً عربياً معمّراً قدّم مثل ذلك الإنجاز، وجعله بيد القارئ والمهتم والباحث العربي وبأسعار زهيدة، إنطلاقاً من شعار المركز “الخبز مع الكرامة”، ولم أزر بلداً عربياً أو أدخل مكتبة عامة أو خاصة رصينة في العالم العربي، إلّا وجدت فيها كتب مركز دراسات الوحدة العربية. وأستطيع القول بثقة ودون خشية من المبالغة أن جميع المكتبات الكردية التي تعرّفت عليها كان فيها رفوفاً خاصة لكتب مركز دراسات الوحدة العربية.
طريق التفاهم
إيمانه بالحوار طريقاً للتفاهم وحلّ المشكلات القائمة بين القوى الوطنية على صعيد كل بلد عربي وعلى المستوى القومي، وقد كانت فلسطين بوصلته التي لا يحيد عنها ولا يخطئ فيها، وكان يريد توجيه جميع الطاقات نحوها، سواء على المستوى العربي أو مع دول الجوار، ولتحقيق ذلك سعى إلى عقد مؤتمرات وندوات حوارية عن العلاقات العربية – الإيرانية، والعلاقات العربية – التركية وظلّ على اعتقاد راسخ بأن إقامة نوع من التوازن والتناظر مع أمم كبري في المنطقة سيكون لصالح الأمة العربية، وظلّ يردّد أن هذه الدول يمكن أن تكون صديقاً محتملاً وليس عدواً دائماً مع معرفته بالعقد والأطماع التاريخية والخلفيات القومية.
وقد سألني أكثر من مرة عن فكرة الحوار العربي – الكردي الذي كنت قد نظّمته في العام 1992 في لندن، وذلك ترابطاً مع إحياء هذا المشروع عبر منتدى الفكر العربي برئاسة الأمير الحسن بن طلال، فضلاً عن جمعيات ومنظمات وشخصيات ساهمت في التواصل مع الفكرة وتجلّياتها العملية في كردستان وعدد من البلدان العربية.
يضاف إلى ذلك إستفساره عن تنظيم حوار مثقّفي الأمم الأربعة: الترك والفرس والكرد والعرب، الذي عملت عليه خلال العقدين الماضيين. وعقدنا أول إجتماع له برعاية المعهد العربي للديمقراطية ( تونس)، ثم تبنّى منتدى الفكر العربي المشروع تحت عنوان “حوار أعمدة الأمة الأربعة”.
أعتقد أن رؤية حسيب وقراءاته للوضع الدولي والإقليمي وموقفه الثابت من الإمبريالية والصهيونية ومشاريعهما جعله أكثر انفتاحاً وتقديراً لأي جهد يصبّ بهذا الاتجاه.
احترام قيمة العمل والإنتاج وقيمة الوقت، وكان قد جسّد حقيقة ” الوقت من ذهب” فقد كنّا قد عرفنا عنه ذلك مذ كنّا طلاباً في الستينيات وهو أستاذ في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، فإضافة إلى اعتداده بنفسه وثقته بما يعتقد به، إلّا أنه كان يثق بقدرات الآخرين، ويعتبر الاجتهاد والعمل والمتابعة والتنفيذ والإدارة هي مشتركات لا بدّ من تقدير مرجعيّتها بالنسبة للعمل، وهو الأمر الذي استمرّ معه حتى أواخر أيام حياته، فلم يعرف التردّد أو الإهمال أو الكسل، وظلّ نشيطاً وواعياً لأهمية العمل وقيمة الوقت، حيث كان يسابق الزمن وبسرعة تكاد تكون خارقة.
إيمانه بالمستقبل، فلم يكن خير الدين حسيب لحظوياً أو آنياً أو مرحلياً وإن كانت المرحلية طريقاً للتطوّر، لكنه كان رؤيوياً مستقبلياً، ولذلك كانت مشاريعه مستقبلية، وكما أشرت في مداخلتي عند رحيله أن نصف عقله كان يعيش في المستقبل حسب غوركي في حديث عن أحد الثوريين الكبار.
وهكذا كان حسيب يعتقد أن المستقبل هو جزء من الحاضر ولا مستقبل دون حاضر، وبالطبع لا حاضر بدون ماضي، الأمر الذي ينبغي جعل الماضي والحاضر في خدمة المستقبل، وذلك هو مشروعه العروبي، حيث اختطّ نهجاً مستقبلياً، وحظيت الدراسات المستقبلية مكانة كبيرة لديه من دراسات الاجتماع السياسي والعلوم السياسية والاقتصاد والإدارة والعلاقات الدولية، لاسيّما بين العرب والعالم، وكل ما له علاقة خاصة بالمستقبل أو بالدراسات المستقبلية.
وأذكر مثالاً واحداً على ذلك، ففي غمرة الارتكاس والنكوص العربي الذي شهدته حركة التحرّر الوطني، ظلّ حسيب يفكّر بانجاز مشروع دستور عربي فيدرالي (إتحادي) يمكن الإفادة منه لأي بلدين عربيين أو أكثر يمكن اتحادهما، وكأنه بذلك يريد معاندة الواقع وتحدّيه، وحصل ذلك بعد موجة الاحتجاجات المطالبة بتغييرات في مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، كما حصل الأمر في تونس ومصر، وهو ما دفعه لتشكيل لجنة لصياغة دستور عربي بتوقّع أي أحداث سريعة قد تقرّب بين البلدان العربية.
وهكذا كان قد كلّف لجنة من الخبراء والمختصّين لإعداد هذا الدستور الذي شارك فيه هو أيضاً، وكان لي شرف كتابته بصيغته النهائية، حيث أوكل لي مهمة التنسيق للمجموعة التي عملت على مدى ثلاث سنوات بصورة متصلة ومتقطّعة، وكان هو يتابع أدق التفاصيل عبر اتصالاته المتواصلة.
مبادراته التي لا حدود لها، ويمكنني أن أقول أنه كان صندوق مبادرات متجدد ومتواصل ومتفاعل، وكان ينشغل من مبادرة إلى أخرى مع خيط من التواصل بين مختلف المبادرات. ولم أقابل أو أعمل أو أعرف شخصاً لا يكلّ ولا يملّ من تقديم المبادرات مثل خير الدين حسيب، وكل هذه المبادرات كان يرسم أهدافها التي تلتقي مع المشروع النهضوي العربي، الذي كان يجري عليه تعديلات وإضافات وتنقيحات مستمرة بين الحين والآخر، فهو يمتلك عقلاً حيوياً فاعلاً وناقداً في الوقت نفسه، ولم يتوان من نقد العديد من التجارب الوحدوية والأخطاء التي وقعت فيها من زوايا إيجابية، ووضع واقتراح أسس جديدة أكثر انسجاماً مع قناعات الناس وخياراتهم في إدارة تستجيب لمصالحهم.
مقولات قديمة
-7ظلّ خير الدين حسيب يفكر في الجديد دائماً، فلم يتوقف عند بعض المقولات القديمة التي عفا عليها الزمن، بل حاول الإنفتاح على بعض مثقفي التيارات الأخرى بروح إيجابية، وكان يستمع إلى تجارب القوى الأخرى، يضيف عليها ويصحّح ما ورد فيها ويدقّق بعض أطروحاته أيضاً. وقد لمست ذلك بنفسي خلال علاقتي به ومعرفتي بعلاقته مع بعض اليساريين العراقيين والعرب، كما هي علاقته مع بعض الإسلاميين العرب، فضلاً عن علاقته التاريخية مع القوميين العرب، وهو ما دعاه أن يتبنّى فكرة “الكتلة التاريخية” الذي سبق لي أن ناقشته فيها وفي حياته وعلى صفحات مجلّة المستقبل العربي، مبيناً الفوارق بين مفهوم غرامشي وبين مفهوم حسيب ومحمد عابد الجابري، لافتاً النظر إلى التمييز بين المشروع السياسي الخاص بالتحالفات بين التيارات وبين المشروع الفكري الذي قصده غرامشي.
أقول بعد هذا العرض أن النفوس الكبيرة تتسامى، والبشر خطّاؤون، لذلك علينا أن نأخذ بعضنا البعض بالتسامح، ولعلّ ذلك أحد دروس حسيب التاريخية.
أتوقّف هنا عند موقفه من الشاعر الكبير الجواهري وهو موقف غلب على معظم أنصار التيار القومي العربي بعد ثورة 14 تموز / يوليو 1958 على حدّ تعبير الكاتب والصحافي حسن العلوي، نظراً للاندفاعة التي حصلت والاصطفافات الاحترابية بين التيارين القومي والشيوعي، وانحياز الشاعر للتيار الشيوعي تحريضاً لقاسم، لكنه حين توفي الجواهري إتصل بي وسألني ما الذي يمكن أن نعمله له؟ وأشاد برياديته وإبداعه، وكنت قد توجّهت إلى دمشق من لندن لحضور مراسم الفاتحة، كما أذكر علاقته بمظفر النواب، وكم كان سعيداً، بل فخوراً بأن النادي العربي الذي كان يديره ضياء الفلكي – نائب رئيس المؤتمر القومي العربي، هو الذي قدّم مظفر النواب للجمهور العربي في لندن، كما كان سخيّاً بمساعدة العديد من اليساريين، سواء في دعم مسرح بابل الذي أسسه جواد الأسدي أو عند حاجتهم للعمل كباحثين أو متعاونين مع مركز دراسات الوحدة العربية كما فعل مع الباحث الشيوعي السابق هادي حسن.
وهناك شواهد أخرى عن طبع كتب على نفقته أو مساعدة يقدمها إلى هذه الشخصية أو تلك وإلى مجموعات عربية في هذا البلد أو ذاك، من الصندوق القومي الذي أسسه والأمر يشمل من موريتانيا وإلى اليمن مروراً بجميع أقطار الوطن العربي.
في الختام أقول ما أحوج أي مشروع إلى لمسة وفاء، وهذا الأخير يمثّل قيمة حضارية من جهة، فضلاً عن بعده الإنساني والأخلاقي من جهة أخرى، فما قيمة الأفكار دون تلاقحها مع الأخلاق بدلالاتها الإنسانية.
مداخلة قدمها د. شعبان بمناسبة الذكرى الأولى لرحيل المفكر العربي الكبير خير الدين حسيب يوم 11 آذار / مارس 2022 التي أقامها “نخبة” من أصدقاء خير الدين حسيب، وشارك فيها اكثر من 40 شخصية عربية والعديد من المؤسسات الفكرية والأكاديمية والقومية العروبية
المصدر: الشراع