في 30 من آذار/ مارس عام 2000 رحل عنا الدكتور جمال الاتاسي، و بعد أن وري الثرى جسداً.. قلنا وداعاً.. و نحن ندرك في لحظة الوداع تلك، أنه سيبقى فينا فكراً و تجربة، منهجاً و نضالاً.
و لجمال الاتاسي خصوصيته و موقعه في النضال الوطني و القومي، و خصوصية في ميله الطبقي، إذ بالرغم من أنه ينحدر من أسرة شبه أرستقراطية، إلا أنه كان طوال حياته بجانب الطبقات الفقيرة و المسحوقة مناضلاً صلباً من أجلها، و مدافعاً و مؤمناً بنهوضها.
و إذا كان من المألوف عادةً و جود المفكرين في مختلف مجالات الفكر و الثقافة، و من المألوف أيضاً تنامي السياسيين المشتغلين بالسياسة و العمل السياسي، فإن جمال الأتاسي نموذجاً للمفكر و السياسي معاً.. و بمقدار ما كان مفكراً يحمل مشروعاً مستقبلياً، كان سياسياً مارس العمل السياسي برحلة استغرقت جل حياته، و طوع الفكر و جسّده في حركة عمل و إرادة فعل و تغيير.. و كان مثالاً ” للمثقف العضوي ” الملتصق بالجماعة و المعبر عنها، و عن ضميرها و معاناتها، و الفاعل فيها و بقواها الحية، ضارباً المثل في الدفاع عنها.. ذلك المثقف الذي يراه يقرر النهوض بالأمة ” من حيث أن النهضة هي رؤيةً و فعل، رؤية مستقبل نُحيله حاضراً إذ نقوله، و فعل يحقق هذه الرؤية.. و هكذا تصبح الثقافة رسالة ( و بتعبيرنا نقول سياسة و إرادة تغيير ) “.. فالمثقف العضوي كما كان يصفه يندرج في ” تلك الفئة من المثقفين التي تميزت بموقفها المعبر عن ضمير الشعب و معاناة الأمة، هي التي يمكن أن تشكل النواة الصلبة لعمل وحدوي منتج، لتنتقل بوعي قضية الأمة و أزمتها من شكله المضمر في الوجدان الشعبي إلى الشعور الجمعي، حيث يأخذ شكلاً محدد المعالم.. و لتعطي من جديد مفهومها للأمة و وحدة الأمة، و ما تحمله من معان و معايير و مقومات، و من أهداف مستقبلية، و تضع الأمة على طريق تجدد حضاري و نهضة.
و لم يكن الفكر و السياسة عند جمال الأتاسي مرحلة بعد أخرى إلا #حركة مراجعة نقدية مستمرة، تغوص في أعماق التجربة و تحللها، ثم تعيد تركيبها و ترتيبها و استخلاص النتائج، و البناء عليها، وصولاً إلى رؤية استراتيجية تستشرف آفاق المستقبل.
و عندما نتحدث عن تجربته السياسية و استخلاصاتها، و بعد أن يقوم بالتمهيد لها بمقدمات عن طبيعة العمل الوطني و القومي، و المآلات التي قادت إلى التراجع و الانحسار أو الانكسار، و دور النظم الشمولية شبه المملوكية و أجهزتها، و القوى السياسية و انحسار فعلها، و العطالة و التعطيل الذي أصابها، فإنه يستطرد و يقول ” و إذا كان لي أن استخلص من التجربة السياسية بعد ذلك فكرة أقولها، فهي الوقوف عند ما تكشفه مراجعة تلك التجربة من قصورات كانت، فكراّ أو ممارسةً، في البناء الديمقراطي في عملنا السياسي، و لحركاتنا السياسية الوطنية و القومية، و لدورها في التقدم بالمجتمع و تحديثه، و تأسيس الديمقراطية و الحريات الديمقراطية في روابطه و علاقاته و تعبيراته، لتكون السيادة للشعب في مجموعه، و ليكون فعلاً لا قولاً هو المعلم و القائد، و لا يقوى على التحكم به حزب واحد، و لا على تسلط فئة عليه.. و الدرس الذي يمكن أن تعلمنا إياه التجربة و مسار التاريخ السياسي لقطرنا و أمتنا العربية – منذ خمسين عاماً و حتى اليوم – هو أننا لم نتقدم في أية مرحلة، أو أية خطوة ناجحة على طريق التحرر و التقدم و الوحدة، إلا عندما كان هناك نهوض شعبي، و إرادة شعبية جماعية تتحرك وراء مطلب، و تدفع نحو هدف “.
و كان الأتاسي مقتنعاً بما كان يدركه ” غرامشي ” في استراتيجية ” حرب المواقع ” بالعمل السياسي بالتقدم إلى المواقع المختلفة في الهيمنة السلطوية، تبدأ من حيث أضعف ثم إلى حيث أقوى، إنها خلع للهيمنة باحتلال المواقع واحداً بعد آخر بالتوجه العام أولاً إلى الجماهير، و أن تأخذ القوى السياسية الثورية مواقعها في قلب القوى الاجتماعية و فئات المجتمع المتعددة، و تنهض بها و من خلالها كل القوى السياسية، و تدخل في توجهات كل وطني و ديمقراطي، مقدمة لاستكشاف الطريق إلى حركة الجماهير و تحريضها و بناء تلاحمها الوطني و النهوض بوعيها السياسي، و العودة بها لساحات النضال ككتلة تاريخية فاعلة.
و نعود إلى حديثه عن قضية الفكر و السياسة في حياته، و قد تحدث عنها في مقال تحت عنوان ” حياتي بين الفكر و السياسة ” جاء فيه: ” و ما كان الفكر في حياتي مجرد تراكمات لمعارف و ثقافات أو لقناعات تشكلت و عبرتُ عنها، فأنا ما أنتجت في هذا المجال، و لا كتبت نشرة أو مقالة أو بحثاً و لا ترجمت كتاباً إلا و كان ذلك من خلال موقف أيديولوجي و سياسي، و لإحداث فعل و تأثير هادف في مرحلة معينة من مراحل عملنا الوطني و القومي.. و لا السياسة كانت حرفة لي أو وظيفة أو تطلعاً لموقع أو نفوذ أو سلطة، بل السياسة التي استأثرت بالقسط الأوفر من اهتماماتي كانت و مازالت في حياتي التزاماً بقضية، و إحساساً بمسؤولية، و واجباً وطنياً و قومياً لتغيير واقع، و العمل في إطار جماعة و مجموعة ملتزمة بأهداف النضال القومي، كمشروع للتحرر و النهوض العربي و الوحدة.. و بهذا المنحى لا تعود حركة الإنسان السياسية و سعيه للفعل و التأثير في التحرك التاريخي لمجتمعه و أمته، إلا و هي على تلازم عميق مع تقدم حركة وعيه و معرفته.. ليصبح الفكر دليل الممارسة، و لتصبح الممارسة منظوراً و منهجاً في التفكير أيضاً.
#تلك محطة من محطات رؤية رجل أمضى حياته باحثاً عن إجابات لواقع الأمة العربية المرير.. و لكنه و بذات الوقت لم يكن منظراً ينتظر من يؤمن بما كتب و دوَّن، ليكون له مريدين و أتباع، و إنما كان يتحرك بالفكر إلى ساحات النضال التزاماً بمشروع مستقبلي لنهوض أمته العربية، و فاعلاً و متفاعلاً مع الحركة السياسية الوطنية في مختلف أطوارها و مراحلها، و مُسهماً بعزيمة لا تيأس بالحوار المنفتح في بناء تجمعها و تحالفاتها فكراً و عملاً و نضالاً .