رغم بعض الأصوات النشاز في أوساط الفصائل المسلحة في سوريا، التي تنادي بضرورة استغلال الانشغال الروسي في أوكرانيا من أجل تحريك الجبهات والعودة إلى القتال ضد النظام السوري، وباستثناء التصعيد الذي يقوم به تنظيم “داعش” في البادية السورية المترامية الأطراف، لم تنعكس تطورات الحرب الأوكرانية التي بلغت تقريباً عتبة شهرها الثاني على المشهد العسكري في سوريا الذي لا يزال محكوماً بالتهدئة التي فرضها اتفاق موسكو بين روسيا وتركيا منذ 5 آذار (مارس) 2020.
ويعتبر التيار القاعدي الذي يمثله فصيل “حراس الدين” وبعض المجموعات الأخرى التي ظلت محافظة على علاقتها بتنظيم “القاعدة” العالمي، من أبرز الأصوات التي تحاول استغلال الضجيج الأوكراني من أجل التشويش على اتفاقات التهدئة في سوريا، ومحاولة العمل على كسر الجمود الذي طغى على جبهات القتال فيها منذ عامين.
غير أن هذا التيار المتحمس لعودة القتال لم يعد يملك أدوات كافية للتأثير في المشهد العسكري، لا سيما في ظل حملات الاغتيال والاعتقال التي تنفذها ضده الطائرات المسيرة الأميركية من جهة، و”هيئة تحرير الشام” من جهة أخرى. لذلك يعتقد أن دعوة هذا التيار إلى القتال تصب في خانة نشاطاته المعارضة لتوجهات أبي محمد الجولاني الذي بات يتناغم أكثر مع التوجهات الإقليمية والدولية.
أما الفصائل المسلحة المنتشرة في منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون، فتبدو غارقة بمشكلاتها الداخلية وخلافاتها بين بعضها بعضاً، لدرجة لم تعد تستطيع معها أن تفكر مجرد تفكير في سيناريو تجديد القتال ضد الجيش السوري وحلفائه. وقد تكون الاشتباكات التي شهدها احتفال هذه الفصائل بالذكرى 11 للثورة السورية برعاية الحكومة السورية الموقتة في مدينة مارع شمال حلب، خير دليل على حالة التشرذم التي باتت تكبل أيدي هذه الفصائل عن القيام بأي عملية عسكرية جديدة.
ورغم أن “هيئة تحرير الشام” بقيادة أبي محمد الجولاني تعتبر الفصيل الأقوى من الناحية العسكرية، وبالتالي الأقدر على تحريك جمود الجبهات، إلا أن ثمة شكوكاً واسعة تدور حول رغبة الجولاني في استغلال الحرب الأوكرانية من أجل القيام بأي تصعيد عسكري. بل على العكس تماماً فإن الجولاني ينظر إلى الانشغال الروسي في أوكرانيا على أنه فرصة لتعزيز نفوذه في إدلب، والعمل على التمدد نحو منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون الخاضعتين للاحتلال التركي المباشر.
تكريس التهدئة؟
وخلافاً للتوقعات التي ذهبت إلى أن استطالة الحرب الأوكرانية ستؤدي من دون شك إلى وصول ارتداداتها إلى جبهات أخرى، مثل ليبيا والقوقاز وسوريا، رأى “مركز جسور” للدراسات أن الانشغال الروسي في أوكرانيا قد يكون أحد العوامل المساعدة في تكريس التهدئة في سوريا. وقال المركز في دراسة صادرة قبل أيام قليلة إنّ “فرص استمرار وقف إطلاق النار في إدلب لا تزال قائمة ومستمرة، لا سيما مع انشغال روسيا في الصراع مع أوكرانيا وحلف الناتو. ولا يبدو أنّ تركيا ستلجأ خلال هذه الفترة إلى شنّ عمليات عسكرية برية جديدة شرق الفرات تؤدي إلى الإخلال بالتهدئة في غربه، باستثناء احتمال تكثيف الضربات الجوية ضد حزب العمال الكردستاني، لا سيما بعد إطلاقها عملية “نسر الشتاء” في 1 شباط (فبراير) 2022″.
ويبدو أن “جسور” اعتمد آلية تأثير النزاعين في كل من ليبيا وأذربيجان من أجل تطبيقها على النزاع الأوكراني، وتأثيره في صمود وقف النار في سوريا، فقال إن “انشغال روسيا وتركيا في النزاع الذي اندلع في أذربيجان وقبله في ليبيا سبب لا يمكن إغفاله للحفاظ على وقف إطلاق النار في سوريا عموماً وإدلب خصوصاً”.
في المقابل، رصدت صحيفة “الوطن” السورية “ملامح تأهب نظام رجب طيب أردوغان لارتدادات الحرب الروسية في أوكرانيا على سطح المستنقع الذي غاصت به أنقرة في إدلب من خلال إجراءات احترازية، تجلت بتجميع نقاط مراقبته غير الشرعية تحسباً لإجلائها عند الضرورة وتقليص عدد قواته وعتاده العسكري خارج المنطقة المنتخبة للحرب المحتملة”، مشيرة إلى أن ذلك يأتي نتيجة تخوّف نظام أردوغان من تداعيات الحرب الأوكرانية في إدلب وعموم منطقة «خفض التصعيد»، التي يتوقع أن تكون مسرحاً للعمليات العسكرية الروسية بعد تجاهله تطبيق بنود «اتفاق موسكو» معها، بخصوص المنطقة، رغم منح موسكو له أكثر من سنتين لتنفيذه.
وأكدت الصحيفة نقلاً عن مصادر “أن نظام أردوغان استبق النتائج المتوقعة التي ستسفر عنها الحرب في أوكرانيا، بوضع خطط بديلة تنقذ ماء وجهه للانسحاب من مناطق طريق عام حلب – اللاذقية، أو ما يُعرف بطريق «M4»، كي لا يتكرر السيناريو المذل الذي فرضه الجيش السوري إبان عملياته العسكرية التي شنها مطلع عام 2020 بمساندة الحلفاء وقوات الجو الروسية وقادت إلى استعادة السيطرة على طريق عام حلب – حماة، أو ما يطلق عليه طريق «M5» ووضعه في الخدمة”.
وأعربت المصادر عن قناعتها بأن “أنقرة تدرك جيداً أن موسكو تعدّ «M4» وإدلب منطقة حيوية لربط شمال سوريا ووسطها بغربها، ونظراً إلى متاخمة ريفها الغربي لريف اللاذقية الشمالي، حيث قاعدة حميميم التي يستهدفها الإرهابيون بالصواريخ والمسيّرات بين الحين والآخر، ولذلك لا تضع أنقرة في حسبانها مواجهة موسكو في إدلب، إذا قررت الأخيرة وضع مخرجات «اتفاق موسكو» لفتح الطريق الدولي في مقدمة أولوياتها”.
وعدّت الإجراءات التي “بدأها جيش الاحتلال التركي خلال الأسبوعين الأخيرين في إدلب، مثل إعادة تموضع نقاط مراقبته ونقل جنود وعتاد عسكري من جنوب الطريق الدولي إلى شماله وإرسال جنود من «خفض التصعيد» إلى العراق لقتال «حزب العمال الكردستاني»، مقدمة لتنفيذ تفاهمات النظام التركي واتفاقاته الثنائية مع روسيا ولإعادة النظر بوجوده العسكري في المنطقة”.
وأضافت المصادر أن “جيش الاحتلال التركي يعمل راهناً على دمج نقاط مراقبته في جبل الزاوية بريف إدلب الجنوبي وجنوب «M4»، بغية تقليص عددها قدر الإمكان بدل أن تكون متناثرة ليسهل سحبها عند اللزوم، وبدت بوادر ذلك في نقاط إحسم والبارة والمغارة وإبلين ودير سنبل وشنان، على أن يعزز بها نقاط نحليا وكورين ومعترم والقياسات وبسنقول ومحمبل وسهل الروج شمال الطريق الدولي”.
تحديات أردوغان
ومن المرجح أن يبقى أردوغان حذراً في ردود فعله على تحركات بوتين في أوكرانيا، ومن المرجح كذلك أن يبتعد عن أي إجراءات قد يُنظر إليها على أنها تتحدى روسيا. وينبع هذا الحذر جزئياً من التحديات المتعددة التي يواجهها في الداخل. فالاقتصاد التركي يعاني صعوبات بسبب جائحة كورونا وسوء الإدارة المالية للحكومة. وعلى الصعيد السياسي، تتراجع قاعدة دعم أردوغان بعد عقدين من الهيمنة، بينما تزداد المعارضة.
علاوةً على ذلك، أدّت الصراعات المذكورة أعلاه في سوريا وليبيا وجنوب القوقاز إلى جعل أنقرة معرضة تعرّضاً متزايداً لتقلبات الكرملين، وفق دراسة أعدها معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى.
وبالفعل، يتمتع بوتين بعدد من العوامل المساعدة الفعالة التي يمكنه استخدامها ضد أردوغان على الفور إذا اتبعت أنقرة سياسة تقدمية تجاه أوكرانيا. على سبيل المثال، بإمكانه فرض مقاطعة سياحية؛ فلطالما كان الروس يشكلون جزءاً كبيراً من السياح في تركيا قبل الجائحة، وأردوغان بحاجة إلى موسم سياحي قوي هذا الصيف لمساعدة الاقتصاد على الانتعاش.
ويمكن للعقوبات التجارية الروسية أن تعرقل انتعاش تركيا أيضاً، ما ينهي أساساً احتمالات فوز أردوغان بالانتخابات الرئاسية لعام 2023.
وعلى صعيد آخر، بإمكان بوتين منح نظام الرئيس السوري بشار الأسد الضوء الأخضر لمهاجمة معقل المتمردين في محافظة إدلب، الأمر الذي قد يهدّد بتدفق 2-3 ملايين لاجئ آخر عبر الحدود إلى تركيا، التي تستضيف أساساً ما يقرب من 4 ملايين سوري. ونظراً إلى ازدياد المشكلات الاقتصادية وتنامي المشاعر المعادية للاجئين في تركيا، لن يتمكن أردوغان من تجاوز الصعوبات الاجتماعية والسياسية الناتجة من تدفق جماعي آخر للاجئين. كما بإمكان الرئيس الروسي عرقلة الاتفاقات الهشة لوقف إطلاق النار بين الحلفاء الروس والأتراك في ليبيا وجنوب القوقاز، مقوّضاً بذلك الصورة التي كوّنها أردوغان لنفسه محلياً كوسيط قوة عالمي، وفق الدراسة السابقة نفسها.
المصدر: النهار العربي