تُتم الثورة السورية/ ثورة الحرية والكرامة عامها الحادي عشر، وتلج العام الثاني عشر، ضمن مفاعيل دولية وإقليميىة دراماتيكية لم يسبق لها مثيلًا، فهي مازالت (على المستوى الشعبي) أكثر إصرارًا على المضي قدمًا، باتجاه كنس الطغيان الأسدي الذي ثارت عليه جماهير سورية أواسط آذار/ مارس 2011 وقلع براثن العسف والاستبداد ومن ثم إعادة بناء الدولة الوطنية السورية على أسس جديدة خالية من أمراض الطغاة، ومنعتقة من كل أنواع الحكم الشمولي الذي ابتليت به سورية منذ آذار/ مارس 1963 وحتى يومنا هذا. وسط حالة من التخلي والخذلان وترك الشعب السوري يلاقي مصيره بنفسه على يد الإجرام الأسدي المدعوم من دولتي الاحتلال الفاسشيستي الإيراني والروسي.
في حياة الشعوب انتصارات وانتكاسات، هفوات وعثرات، نكوص وإقدام، لكن هذه الشعوب وعلى مدى التاريخ الحديث والقديم لم تنحن ولم تهن أبدًا حتى تحقيق أهدافها والوصول إلى غاياتها، مهما كانت التضحيات. وقد كان للشعب السوري الثائر مع موجة الربيع العربي الباع الكبير والتضحيات العظمى التي جاءت على مذبح الحرية والكرامة، ومازالت تتحرك فصولًا،ولم يتراجع السوريون مطلقًا، بل مابرحوا أكثر تصميمًا على فعل المستحيل، إذ لا مستحيل تحت الشمس وأمام وعي الشعوب وتصميمها وإرادتها.
لكن واقع ثورتنا السورية التي بذلت الكثير من الدماء وتحدَّت كل نظم القهر والطغيان حتى أصبحت مضرب المثل في ذلك، هذا الواقع المر الذي نستذكره اليوم ونحن على أبواب ولوج العام الجديد من عمر الثورة، مازال يعاني من العديد من الانتكاسات واالعثرات، والكثير الكثير من العفَن والصدأ الذي علا واجهات الثورة وكينونتها. واليوم اذا ما أردنا أن نكون أكثر واقعية فعلينا أن نعترف موضوعيًا بهذه العثرات والأخطاء ونلقي الضوء عليها، في محاولة جادة للإجابة على سؤال تاريخي وموضوعي آني ومستقبلي قال ومازال يقول: ماالعمل؟ والى أين المسير؟
وهو سؤال لابد لقوى الثورة والمعارضة وبل وكل السوريين المعنيين بالثورة أن يسألوا أنفسهم إياه ويبحثون عن مواطن الخلل وصولًا إلى بناء آليات جدية توضع بين أيدي من يتنطح لقيادة الثورة والمضي بها نحو الحرية والكرامة لكل السوريين.
في طريق الإجابة عن هذا السؤال لابد أن نقف مع بعض تلك العثرات والمعوقات والتي نذكر منها:
_ حالة التشظي والتذرر التي أصيبت بها كل ألوان الطيف السياسي والعسكري، في المعارضة السورية، وهي مازالت تزيد تمظهرًا ووضوحًا، وتفتتًا يومًا إثر يوم، ولحظة بعد لحظة. دون امتلاك أي أرضية متينة كي تتمكن هذه القوى عبرها أن تعيد من خلالها إنشاء البنيان المتين الخالي من كل ماهيات التفتيت والشخصنة.
_ الاصطفافات الأيديولوجية الغارقة في القدم والمنتمية إلى عصور سادت ثم بادت، والمتكئة على شوفينية أيديولوجية، تمنع قيام أي لقاء حقيقي يمكن أن ينتج عنه حالة جديدة من العمل الوطني والثوري، بعيدًا عن تلك الأيديولوجيات. وهو وضع لاشك أنه يعوق العمل الوطني الديمقراطي، ويحول دون إعادة البناء من جديد على أسس وطنية، متخطية لكل عمليات التمترس الأيديولوجي، ومتجاوزة كل المنعرجات النخبوية التي باتت معيقًا في كثير من الأحيان.
_ الشخصنة والمصلحية الأنوية والذاتية التي لاتلتقي أبدًا مع المصالح الهامة لعموم السوريين، بل يكون ديدنها المصلحة الشخصية أو الفصائلية، ومنع أي حالة موضوعية تخدم الوطن كل الوطن من القيام بمسؤولياته لإنجاز المطلوب.
- غياب المراجعة الحقة والكاشفة لكل الأخطاء لدى نخب وقيادات ظنت (أن الله خلقها وكسر القالب) كما يقال، وأنها قد أمسكت بناصية القيادة وإلى الأبد كحال الانظمة المستبدة، وهذه مسألة تعود بنا إلى ماكان يقال سابقًا من أن ” الأنظمة المستبدة تنتج معارضات على شاكلتها” ويبدو أن هذه المسألة النظرية قد أضحت واقعية في مسارات المعارضة السورية في مجملها. ممايحول دون القيام بانتاج ورشة عمل ومكاشفة علنية للأخطاء، ومن ثم الاشتغال على التراجع عنها أو على الأقل الإعتراف بها وانسحاب المخطيء من المشهد والدفع ببدائل قد تكون أكثر وعيًا ونضجًا وشبابًا أيضًا.
- الخروج من حالة وضع البيض كله في سلة الخارج، وفقدان دفة القيادة، والقرار الوطني الصائب الذي لايخدم إلا المصلحة الوطنية السورية، وهو مايعرف عادة ضمن أية صراعات وطنية، ولا سبيل سواه ، إذ لايمكن أن توضع القرارات الوطنية بأيدي الأصدقاء ولا الأعداء، ولا (النص نص)، حيث من المستحيل أن تكون الدول فاعلة ومنسجمة إلا مع مصالحها الوطنية، وليس مع ومن أجل مصالح وطنية لشعوب أخرى مهما كانت صديقة لها.
- العجز والتعاجز عن وجود أية إمكانية حتى الآن لعقد مؤتمر وطني جامع للشعب السوري، يشتغل على مصالح السوريين وليس سواهم، وعقم كل التجارب التي قامت على هذا الطريق حتى الآن، حيث لم تتمكن بعد من التعبير عن كل الشعب السوري، ولم تتمكن من القطيعة مع أيدي العابثين أو الانتهازيين، وهذا المؤتمر الوطني الجامع بات مهمة أساسية لابد منها من أجل الخروج من عنق الزجاجة، والاعتراف بالأخطاء، والانزياح الموضوعي نحو إعادة انتاج قيادات وطنية صادقة وواعية بلا مصالح ذاتية إلامصلحة السوريين بكليتهم.
- عدم القدرة حتى الآن على إنتاج العقد الاجتماعي المطلوب الذي لايستثني أحدًا، ويضم بين ظهرانيه كل الأثنيات وكل الطوائف، وكل الحالة الوطنية والذي يعمل على إعادة تأسيس الوطنية السورية المتشابكة مع محيطها العربي والاقليمي، وهو منجز لابد منه ولا يمكن المضي نحو الأمام بدونه، وعينا ذلك أم لم نعيه.
- الوصول إلى قواسم مشتركة سورية تحاكي الواقع السوري، وتعيد بناء الذات الوطنية والهوية الوطنية السورية على أسس جديدة تستوعب مقولة أن ماجرى تحت الجسر من مياه الكثير الكثير ولم يعد مقبولًا المضي ضمن نفس المعطيات أو ذات الطرق التي لم تنتج إلا مزيدًا من الخراب واللاجدوى.
أمام كل ذلك والعديد من المسائل الأخرى التي تؤرق الواقع السوري، وتقض مضجع السوريين، بعد التضحية بمايزيد عن مليون شهيد، و65 بالمئة من البنية التحتية السورية، وأكثر من 900 ألف معتقل ومغيب، وتهجير ماينوف عن 14 مليون سوري بين نازح ولاجيء، والوصول إلى أكثر من 400 ألف معوق حرب، نتيجة المقتلة الأسدية والمحرقة الروسية الإيرانية الأسدية، حيث باتت مسألة إعادة الإعمار تتطلب أكثر من 450 مليار دولار حسب تقديرات بحثية أممية. ضمن هذه المعطيات وهذه الأرقام الصادمة، وهذه المعاناة السورية التي تجاوز فيها خط الفقر المدقع حاجز ال 90 بالمئة. كان لابد من الصراحة والوضح والنقد المزدوج حتى نتمكن جميعًا من الإمساك بدفة العمل الوطني السوري، على طريق إنجاز غايات وأهداف الثورة السورية، والخروج بها ومعها من هذا الوضع من الاستنقاع والعثار الكبير، وتجاوز حالة الخذلان والتخلي الكبرى. فهل نستطيع ذلك؟؟
المصدر: نداء بوست