في أهمية العَلمانية للاجتماع السياسي السوري (2 – 3)

د- عبدالله تركماني

2 – كيفية تعاطي الخبرة الإنسانية مع العَلمانية

أدرك الغرب أهمية الدين في حياة الشعوب، فلم يقوَ أي نظام سياسي، مهما كانت درجة انفتاحه، على إخراج الدين من الحياة العامة للأفراد والمجتمعات، وما حدث هو ضرورة النظر إلى الدين بوصفه ” أداة ” تستهدف مصلحة البشر، وليس وسيلة لخنقهم بطقوس قد تفضي، في النهاية، إلى عكس ما أُريد لها.

فليس من الصدفة أن يكون أخطر سؤال طرحه مفكرو عصر الأنوار، وأبلغه أثراً في التطور التاريخي الذي عرفه القرنان الثامن عشر والتاسع عشر هو: من أين تستمد السلطة السياسية شرعيتها لتتحكم في رقاب الناس ومصالح المجتمع؟

بالنسبة لهابرماس، الذي أصدر كتابه ” تغيير بنية المجال العمومي ” في العام 1962، لم يكتفِ بإهمال الدين، بل تجاوزه إلى ” وضع افتراضات معادية للدين أيضاً “. لكنه عاد، في العقد الأول من الألفية الثالثة (نظرية الفعل التواصلي)، للاهتمام بقضايا الدين. حيث اعتبر التنوير مشروعاً ” غير مكتمل “، ووضع ” العقلانية التواصلية في مواجهة العقلانية الأداتية “، بما يضمن ” الاستقلالية الشخصية والسياسية للفرد “. وفي كتاباته المتأخرة أكد هابرماس ” ضرورة تطوير موقف ما بعد علماني، يأخذ في الاعتبار حيوية الدين في المجتمعات المختلفة “. انطلاقاً من أنّ المجال العام هو ” مضمار للجدال العقلاني النقدي، والسماح بدخوله مسألة قدرة ورغبة في المشاركة في مجال مفتوح، أما الأفكار الدينية فمتاحة لأصحابها من تقليد محدد فقط، وبالتالي لا بدَّ من ترجمتها إلى لغة العقل العام ” (13).

في المقابل، اعترض تشارز تيلور على مفهوم ” العقل العمومي “، إذ المهم ” الاعتراف المتبادل والانخراط في المشاغل المشتركة لحملة العقائد كلها، من دون التركيز على الدين بشكل خاص “. العلمانية التي يؤيدها تيلور هي المؤسسة على قيم الثورة الفرنسية، قبل أن يتولد التطرف اللائكي، التي تعني الحوار بين الدين والدولة، ويمكن اعتبارها خيارات عمومية: الحرية والإخاء والمساواة، التي تحمي خيارات الناس وتدفع إلى الإصغاء لهم جميعاً، حيث ” ينبغي ألا يمَارَس الإكراه في الدين والعقيدة، وتشمل حرية الدين أيضاً حرية عدم الإيمان. كما لا بدَّ من وجود مساواة بين الناس من مختلف العقائد أو القناعات الأساسية، ولا يمكن أن تتمتع وجهة نظر دينية، أو نظرة إلى العالم، بمكانة مميزة، فضلاً عن اعتمادها عقيدة رسمية للدولة. ولا بدَّ لكل التيارات الروحية في الدولة من أن تجد أذناً صاغية، وهذا الإصغاء يساهم في الزج بها في العملية التواصلية من أجل تقرير غاية المجتمع، أي هويته السياسية ” (14).

جاء الجواب فيما طرحه جان جاك روسو من نظريات في ” العقد الاجتماعي “، حول ” الديانة المدنية “، التي ” لا تبقي من الديانة التقليدية إلا دين الإنسان، الذي لا يتعارض مع المسيحية وغيرها من الديانات التي يرفض أن تعتنقها الدولة. فدين الدولة هذا لا يأبه بالتفاصيل التي تُعنى بها المذاهب، واختلاف الديانات ليس مهماً بالنسبة إلى هذه الديانة التي يتبناها العقد الاجتماعي الذي تقوم عليه الدولة المدنية” (15).

كما أنّ إيمانويل كانْت لم يرَ أي تناقض بين الإيمان والعقل في فلسفته، وفي حياته، ولكنه قال عن مؤسسات الكهنوت الديني، وعن السلطة الاستبدادية: إنها مؤسسات تدوس بأرجلها حقوق البشر المقدسة. لقد كان منهج كانْت مثالاً على فصل العقل والمحاكمات العقلية عن الإيمان والفعل الإيماني. ويتمثل أساس فهم نظريته في الدين، أو للدقة في الأمل ” في توقعات الفرد الحديث لالتقاء السعادة وفعل الخير “، والسعادة في نظره دنيوية، ويقترب هنا من التعريفات الوظيفية للدين. أي ” قد يجد حتى المتدين سعادة دنيوية في القناعة الذاتية الإيمانية الراسخة بفعل الخير، والوقوف ضد الظلم. كما قد يجدها العلماني، المتدين وغير المتدين، في البعد الإيماني لفعل الخير، والوقوف ضد الظلم ” (16).

كما انتقد هيغل، من بعد كانْت، التفنيد التنويري للدين كأنه مجرد خرافات ” إذ اعتبر الديني مرحلة من مراحل ظهور العقل في التاريخ بأسئلة شبيهة بأسئلة الفلسفة. وهو يموضع الدين في إطار وعي العقل لذاته، أي في إطار مرحلة تطور العقل المطلق، وقد مَوْضَعَهُ بين الفن والفلسفة “. وخلافاً للتنويريين الذين سبقوه، أكد أنه ” لابدَّ من مصالحة الفلسفة مع التقاليد الدينية المتراكمة عبر التاريخ، كي يكون التفكير نابعاً من العقل الكلي لا من الفهم وحده “. وبذلك أراد كانْت أن يبين أمورًا أساسية (17): أولها، أنّ إعمال العقل خارج ما يصل إليه يعني الوصول إلى نتائج لا عقلانية، ويفضِّل منع العقل منها، وتركها لنشاط إنساني ذهني آخر هو الإيمان. وثانيها، أنّ لا مجال لإخضاع الإيمان، ولا الأفكار التي يقوم عليها للعقل. وثالثها، أنّ الدين ممارسة اجتماعية أخلاقية، ويجب أن يخضع لمتطلبات العقل العملي/الوظيفي.

أما ماكس فيبر فقد درس دور الدين في الحداثة (علم اجتماع الدين)، وأوصلته دراساته ونظرياته المهمة بهذا الشأن، التي ” لم ترَ الدين مجرد عائق في طريق الحداثة، بل دفعته إلى درس أنماط التدين التي ساهمت في صنع الحداثة الرأسمالية في هولندا وفرنسا وإنكلترا ” (18).

ومن المؤكد أنّ العقل الوظيفي، الذي تحدث عنه كانْت وهيغل وفيبر، ينطوي على حاجة الدولة الحديثة إلى العقد الاجتماعي، الذي لا يقوم على عدالة إلهية، ولا على إحسان إنساني مدفوع بالشعور الديني، بل على المصلحة. وكان مارسيل دوبادو في كتابه ” المدافع عن السلام ” في العام 1324 قد أعطى شروط التصور الحديث في السياسة، حيث ” أنضج نظرية للمجتمع المدني “، و” تصوّر دنيوي للسلطة السياسية ” (19).

لقد قلّل كل من التمايز والتوحيد المجتمعي من معقولية أي نظام ديني واحد شامل ” حافظ الدين على معقولية ذاتية بالنسبة إلى بعضهم، لكنّ خسرانه لهدفه بات أمراً مسلّماً به، إنه الآن اختيار وليس ضرورة ” (20). فقد أدى التنوّع الاجتماعي والثقافي إلى ميلاد الدولة العلمانية، من خلال التأقلم مع التنوّع الديني المتزايد، وحيادية الدولة.

وهكذا، فإنّ العلمانية في سياقنا التاريخي تبدو مصطلحاً إشكالياً، يثير تداعيات عديدة، ولكنّ عملية التثاقف التي عرفتها البشرية طوال تاريخها، تعكس الديناميكية المعروفة في تاريخ الأفكار، ولعلنا في سورية أحوج ما نكون إلى التعاطي مع الإشكالات التي طرحتها حركة التنوير الأوروبية (21): تأسيس الاجتماع السياسي المدني على قيم العقلانية والتسامح والعدالة بمفهومها القانوني المعبّر عن الإرادة المشتركة والفصل بين السلطات، وترجمة المضامين الأخلاقية والقيمية للدين في لغة العقل العمومي، وبناء الفاعلية الاقتصادية على أساس قيم الإنتاجية والإبداع والعمل الحر، وبناء منظومة قانونية وأخلاقية للسلم الأهلي والعيش المشترك.

هوامش

13 – د. عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء 2 من المجلد 1، المرجع السابق، ص ص 811 – 823.

14 – د. عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء 2 من المجلد 1، المرجع السابق، ص ص  823 – 824.

15 – د. عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء 2 من المجلد 2، المرجع السابق، ص 193.

16 – د. عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء 1 من المجلد 1، المرجع السابق، ص 259.

17 – د. عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء 1 من المجلد 1، المرجع السابق، ص ص 251 – 260.

18 – د. عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء 1 من المجلد 1، المرجع السابق، ص 291.

19 – فرانسوا شاتليه، المرجع السابق، ص ص 305 – 306.

20 – ستيف بروس، ترجمة مصطفى منادي الإدريسي، العلمنة، مؤسسة ” مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث “، 2015 ص ص 10 – 11.

21 – د. السيد ولد أباه، العودة لمشروع التنوير العربي، صحيفة ” الاتحاد “، أبو ظبي 4 آب/ أغسطس 2019

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى