الكلُّ لديه دوافعُه وحججُهُ المنطقيةُ التي تنطلق من مصالحه، ولكنّ الكلّ يشتركون في أمر واحد، أنهم بلا أخلاق، ولا يمثلون إطارًا مقنعًا للبشر حتى يسيروا خلفه أو يقتنعوا بتبنيه كأسلوب حياة. يتصارع أصحابُ القرارِ اليوم على بناءِ أمجادٍ شخصيةٍ لا غيرٍ، ويغطونها تارة بالقومية وتارة بالدين وتارة بالمجد التاريخي… صراعٌ عدميٌّ يتجلى فيه حمقُ البشرِ وتفاهتُهم وأنانيتُهم، وقد اختلفوا على تعريف الأخلاق لا المصالح. نعم الخلافُ اليوم ليس على تعريف المصالح بل على تعريف الأخلاق. والأخلاقُ هنا تعني تحديدَ الضارِ والنافع …الصحَ والخطأ…العدلَ والظلم …الحريةَ والالتزام…مفهومَ الضعف ومفهومَ القوة… ما يعمر الأرض وما يهدم الأرض… كلَّ ما يصح وكلَّ ما لا يصح…وهنا سقط الجميعُ لأن تعريفَهم للأخلاق لا يتأتى من إبراز قوةِ حجةِ كلِّ طرف، بل من كشف عيوب الطرف الآخر وسقطاته، بين ما ينادي به نظرياً وما يطبقه عملياً، وهنا خلافٌ جوهريٌّ عن الحرب العالمية السابقة التي كانت في إطار الدفاع النظري المؤسس على أدبيات صلبة لا ممارسة، أما اليوم فالممارسةُ جعلتِ الإطارَ النظريَّ يتهاوى أو على الأقل يمكن وصفه باللاواقعي أو العصي على التطبيق أو ربما المنافي للطبيعة البشرية!
أما نحن فنقف في آخر الصف، كيف لا وقد كان تعريفُنا للأخلاق مقتبسًا في آخر ثلاثة قرون من تعاريفهم وليس من تحقيق عملي لأخلاق ديننا، فإذا بنا نسقط جميعًا، وقد سقط سادتُنا وكبراؤنا فأضلونا السبيل. هنا تأتي أهميةُ إعادة تعريف ثورات الربيع العربي بأنها ثوراتُ أخلاقٍ وليست ثوراتِ مصالح. وسوف يأتي جيلٌ يخرج ويطبق تعاريف ليست تبعًا للساقطين، بل مقتبسة من العادل الذي لم يجعل له وكلاء حصريين في الأرض، بل جعل له تعليماتٍ حصريةً للأخلاق من يدعي ملكيتَها عليه أن يطبقَها قبل أن يسوقَها.
الاتحاد السوفياتي الذي يبكي بوتين منذ أكثر من عشرين عامًا إلى هذه اللحظةِ على أطلاله، قام على تصدير الأيديولوجيا -وبرأي أنه سقط قبل انتصارِه في الحرب العالمية الثانية عندما انهزم في الحرب الإسبانية انهزاماً فكرياً -أخلاقياً وليس عسكريا – أما روسيا بوتين فتقوم على تصدير المصالح “الطاقة والخبز”، والمالُ عصبُ الاقتصادِ ومحركُ البورصات، ومن هنا ندرك أهمية أوكرانيا بالنسبة إلى بوتين حيث معظمُ الغاز الروسي يمر بأراضيها ليغذّيَ أوروبا وتشكل مع روسيا وكازاخستان سلة العالم الثالث الغذائية! من هنا يعتقد بوتين أن روسيا هي القطب الثالث شاء مَن شاء وأبى من أبى، وهو وإن عادى العالمَ كلَّه وأصبح العدو رقم واحد، فإن مصالحَ الدول هي التي تتكلم وليست مشاعرَها، وما زحف الرئيس ماكرون إليه إلا دليلٌ ساطعٌ على هذا.
مَن يتابعُ الأحداثَ في دول العالم الأول يدرك مدى الارتباكِ لدى القياداتِ السياسية فيه. فهي لا تريدُ المواجهةَ العسكرية المباشرة مع الروس في أوكرانيا، ولا تملك خياراتٍ جديةً لردع بوتين. فالعقوباتُ الاقتصادية التي صدرت خجولةً وغيرَ مؤثرةٍ، كما هي الدعوةُ إلى مقاطعة مصادرِ الطاقة الروسية التي لا تتعدى الشعارات الشعبوية. فاستبدالُ مصادر أخرى بالغاز والنفط الروسي يحتاج إلى وقت. وهذا ترفٌ لا يملكه الغربُ في الوقت الراهن. وقد صرح الرئيس بوتين بأن أي إجراء لوقف استيراد الغاز سيؤدي حكماً إلى قطع تصدير البترول، وقد يؤدي إلى ما هو أوسعُ من الصادرات الروسية الأساسية، وكان يعني القمح. لم يقرأِ الغربُ جيداً ما أقدم عليه بوتين في جورجيا وشبهِ جزيرة القرم وكازاخستان وسوريا، ولم يحسبوا أن ما مدَّهم به من طاقة ومال وقمح هو سلاحٌ يستعملُه ضدَّهم في مخططات توسعِه.
يقول باحثٌ أميركي مقرب من وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، إن أمام العالم الغربي الديمقراطي! خصوصاً الأوروبي خيارين أحلاهما مرٌّ؛ الأول هو الاعتراف بالهزيمة أمام تخطيط بوتين التوسعي، والسذاجة في التعاطي السياسي معه، وعندها يجب أن يعضَّ على الجراح ويتم التعامل مع روسيا كقوة عالمية كبرى على قدم المساواة مع الصين والولايات المتحدة. وهناك خيارُ الدخولِ في حرب باردة تستنفدُ روسيا بإدخالها في صراع طويل في أوكرانيا وغيرها، وهو ما لمح إليه نائبُ رئيسِ الوزراء وزير العدل البريطاني دومينيك راب، في مقابلة مع «بي بي سي» يوم الأحد الماضي عندما قال: إن حرب أوكرانيا يمكن أن تمتدَّ لعشر سنوات وستكون مكلفةً للجميع.
أما بكين فتبدو في وضع مضطرة فيه إلى الاختيار أيضاً بين خيارين سيئين؛ أن تدعم «الرجل الأكثر سمّاً في العالم»، بشكل علني للغاية، وهذا لا يخاطر فقط بعزلها عن أوروبا وتعميق الانقسامات مع واشنطن، بل قد يجعل الصينَ عُرضة للعقوبات السياسية والاقتصادية. لكن إبعاد نفسِها عن موسكو، كخيار ثانٍ من المرجح أن يوجِّهَ ضربة للعلاقة التي يمكن القول إن بكين تحتاج إليها في فترة العلاقاتِ المتوترة مع كلِّ قوةٍ عظمى أخرى تقريباً.
بوتين تخطى نقطة اللا-عودة ويخوض حرباً وجودية يرى أن له فيها حقَّ استعمالِ كلِّ الوسائلِ العسكرية المتاحة، ولا يثنيه أيُّ قانونٍ دولي أو عرف أو تفاهم. وينظر باستعلاء إلى الضعف الأوروبي الساقطِ أخلاقياً، ويستغرب كما قال في محادثاته مع ماكرون “أن ولداً صغيراً في موسكو يفهم ما تريدُه روسيا”، لكن ما لا يفهمه بوتين أنه كما يقال “إذا اختلف الحراميةُ ظهر المسروقُ” والمسروقُ هنا ليس المصالحَ على رغم أهميتها، ولكنه الأخلاقُ ومنهاجُ الحياةِ القويم للبشرية! لذلك كان الحوارُ كما وصفه لافروف صادقاً بعد لقائِه وكيلَ الشيطان على الأرض: حوار الأطرش مع الأبكم!
لم تُنهِ الوحدةُ الأوروبيةُ الروحَ الانفصالية. ولا أنهاها انهيارُ الاتحادِ السوفياتي وعودةُ القوميات كلٌّ إلى ديارها. والآن توقظ الحربُ الشرسةُ في أوكرانيا المشاعرَ القوميةَ المتلاصقة والمتعادية على نطاق قد يستمر في التوسع حتى لا تعودَ نهايتُه مرئيةً. كما نرى، الكلُّ لديه دوافعُه وحججُه المنطقيةُ التي تنطلقُ من مصالحه ولكن الكلَّ يشتركون في أمر واحدٍ أنهم بلا أخلاق ولا يمثلون إطارًا مقنعًا للبشر حتى يسيروا خلفه أو يقتنعوا بتبنيه كأسلوب حياة، ولا يغرَّك تبني يمينٍ قومي ينضوي للدفاع عن الحريات في أوكرانيا، فهو ليس بنقاء المقاتلين في صف الاشتراكيين في الحرب الإسبانية الذين أتوا للدفاع عن منظور حياة بل هم شبابٌ يستبقون الهجومَ قبل أن تنتقلَ المعركةُ إلى وطنهم؛ فتطالُهم في مصالحهم لا في أخلاقهم ومبادئهم ومنظورهم للحياة! “يتصارعُ الفيلةُ فيموت العشبُ” لبناء أمجادٍ شخصيةٍ لا غير ويغطونها تارة بالقومية وتارة بالدين وتارة بالمجد التاريخي. صراع عدمي يتجلى فيه حمقُ البشرِ وتفاهتُهم وأنانيتُهم وتغافلُهم عن حقيقة ظاهرة: أن البشريةَ لن تتفقَ يوماً على منظور واحد للحياة، وأن من المستحيل أن يستطيعَ مفهومٌ واحد بشري أن يحكم َالأرض مهما ارتقى، إن لم يُستمدَّ من خالق البشر الخطوطَ العريضةَ وإن اختلف النموذج. الخلاف اليوم ليس على تعريف المصالح بل على تعريف الأخلاق. نعم سقط الجميع لان تعريفهم للأخلاق لا يتأتى من إبراز قوة حجة كل طرف بل من كشف عيوب الطرف الآخر وسقطاته فيما ينادي به نظرياً ولا يطبقه عملياً. فلا ضرورة في الحياة لمفهوم ومنهج حياة أخلاقي إن لم نستطع تطبيقه , وهنا اختلف مع كثيرين إن السيطرة السياسية قد تحرف المنظور الأخلاقي وتدمره على مبدأ” إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوٓاْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً” نعم ولكن المفهومَ الأخلاقي ينبع من تبني الناسِ للممارسة وليس للكتب والنظريات والقوانين , لذلك كان العربُ في الجاهلية عندهم أخلاقٌ على فقرهم وانعدام المدنية -بمفهومها حتى في وقتها- عندهم وعندها قال النبي (ص)” إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ “وأقولها بكل ثقة أن اخلاقهم بالمقارنة النظرية أعلى ممن يدعون الإسلام اليوم!
أما نحن فنقف في آخر الصف، كيف لا وقد كان تعريفُنا للأخلاق مقتبسًا في آخر ثلاثة قرون من تعاريفهم وليس من تحقيق عملي لأخلاق ديننا، فإذا بنا نسقط جميعا وقد سقط سادتنا وكبراؤنا فأضلونا السبيل. هنا تأتي أهمية إعادة تعريف ثورات الربيع العربي بأنها ثوراتُ أخلاق وليست ثوراتِ مصالح. وسوف يأتي جيل يخرج ويطبق تعاريف ليست تبعا للساقطين بل مقتبسة من العادل الذي لم يجعل له وكلاء حصريين في الأرض بل جعل له تعليمات حصرية للأخلاق من يدعي ملكيتها عليه أن يطبقها قبل أن يسوقها.
لقد خالفني الكثيرون، عندما كنتُ أتوقعُ الحربَ، وهم يرفضون حتى التفكير بهذا الخيارِ ويدفعون بالحجج والبراهين المنطقية، وربما سيخالفني الكثيرون عندما أتوقع أن العالمَ سيجوع ويبرد وربما يُبادُ ثلثا سكانه؛ ذلك لأن المعركة اليوم تدور على درجات لا تعد ولا تحصى من المساحات الرمادية، لكن ما أنا متأكد منه أن ثوراتِ الربيع العربي في مرحلة ما وفي زمان ما ستصبح أعظمَ الثوراتِ في التاريخ البشري؛ لأنها ستعيد اكتشافَ اللونِ الأبيض والأسود المفقود منذ زمن بعيد.