ما إن تراجعت حدة الأصوات الأمريكية قليلاً، وكانت على يقين من أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على وشك القيام باجتياح أوكرانيا عسكرياً، حتى عادت إلى الارتفاع ثانية.. فقبل أسبوع فقط، كانت تقديرات الأمريكان تؤكد أن فلاديمير بوتين على عتبة إصدار الأوامر إلى وزارة الدفاع للبدء بعملية اجتياحها خلال يومين، أو خلال أسبوع على أبعد تقدير مستندة بذلك إلى كمِّ الحشود العسكرية التي مركزتها موسكو قرب الحدود الأوكرانية.. وقد جاءت تقديرات الولايات المتحدة الأمريكية عبر أكثر من تصريح صدر عن وزارة خارجيتها تطلب فيها من بعثتها الدبلوماسية مغادرة أوكرانيا خلال أربع وعشرين ساعة، أو ثمانٍ وأربعين ساعة على أبعد مدى، في وقت أشار فيه “جيك سوليفان” مستشار الأمن القومي في الولايات المتحدة إلى ضرورة تخفيف أمريكا لبعثتها الديبلوماسية إلى أدنى مستوى، وكذلك أشار الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى ضرورة مغادرة الأمريكيين أوكرانيا، وجرى حديث عن عدم جاهزية حلف الناتو..
بعد ذلك التردد يعود التهديد الأمريكي إلى روسيا، فإن هي فعلت، فسوف تلقى ما لا تقدر على ردِّه.. ثم لينتهي الأمر بمليار دولار مساعدة لأوكرانيا.. إذاً ما الذي تريده الولايات المتحدة الأمريكية من خلف ذلك التسعير كله، أتراه يتعلق بزيارة بوتين إلى الصين، واطمئنانه إلى تأييد الرئيس الصيني “شي جين بينغ” مع طلبه التأجيل إلى ما بعد الانتهاء من الألعاب الأولمبية التي تستعد لها الصين.. أم إن الولايات المتحدة تريد نصب فخ لروسيا التي يسعى “إمبراطور غازها” اليوم بل يعمل جهده باتجاه تكوين قطب جديد يتصدى “لرأس الإمبريالية العالمية” التي هي “على وشك السقوط” بحسب إعلام “الاتحاد السوفييتي السابق” الذي ما يزال لدى بقاياه ذلك التفكير، فمنذ نحو ثلاثة عشر عاماً، قيلت أحاديث كثيرة عن نهاية الإمبريالية، وخصوصاً عندما نشأت الأزمة المالية لدى الولايات المتحدة عام 2008 إذ تنبأت تلك البقايا بالسقوط، لكن الأزمة لم تتعدَّ فترة زمنية لم تتجاوز السنة الواحدة حتى انتهت وتعافى “الاقتصاد الإمبريالي”. ولكن يبدو أن الأمريكيين، وبعد تجاربهم العسكرية الفاشلة، في فيتنام وفي أفغانستان والعراق لم يعودوا ليتورطوا في مثل تلك الحروب التي لم تجلب لهم سوى غضب الشعوب، وخسارة بلايين الدولارات، وآلاف القتلى.. وهم الذين لم يتدخلوا في الحربين العالميتين إلا متأخرين.. وعلى ذلك كانت خسائرهم لا تذكر قياساً لما قدمه حلفاؤهم، لكنهم حصدوا نتائج إيجابية مهمة على صعيد السياسة..
إن جوهر الصراع حول أوكرانيا، وقبل ذلك ضم جزيرة القرم، والدخول إلى سورية، وارتكاب ألوان المجازر بحق الشعب السوري، كل ذلك يشير إلى أنَّ الرئيس الروسي يعمل على استعادة أمجاد القياصرة أو حتى المجد الذي كان للاتحاد السوفييتي، وهذا حقه وقد لا ينكره عليه أحد! لكنَّ عليه أن يعلم أن الذي أودى بآخر قياصرة روسيا هو تخلف النظام الإقطاعي عن نهضة أوروبا الصناعية، وأن ما أسقط الاتحاد السوفييتي هو البيروقراطية التي حدَّت من التنمية العقلانية، وسخَّرت إنتاجها للنواحي العسكرية في محاولة لبسط نفوذه على العالم غير مستفيد من أهمية الاقتصاد ودوره في حسم الصراع العالمي الذي لا تحسمه نتائج الحروب بل قوة الاقتصاد.. وهزيمة روسيا في الحرب العالمية الأولى تعود إلى الاقتصاد الاقطاعي الآيل حينها إلى السقوط وهكذا كان وللأسف لم يزل متخلفاً لا عن الدول العظمى بل عن دول مثل الهند والبرازيل ناهيك بالعديد من الدول الأوروبية والآسيوية، إذ يندرج الاقتصاد الروسي اليوم تحت ما يمكن تسميته: بـ “الاقتصاد الريعي”، فهو يقوم على إشعال الحروب، وبيع الأسلحة للدول النامية، والغاز لأوروبا وغيرها، فترتيب روسيا قياساً للناتج القومي المحلي لايزال بعيداً عن مثيله الأمريكي بنحو عشر مرات.. فأمريكا هي الأولى عالمياً، ويليها الاتحاد الأوروبي مجتمعاً، ثم بعد ذلك تأتي الصين. وعلى التوالي اليابان، ألمانيا، الهند، إنكلترا، وفرنسا وإيطاليا والبرازيل وكندا..
ومن هنا ربما دعوة الجنرال المتقاعد ليونيد إيفاشوف رئيس جمعية الضباط في روسيا الرئيس الروسي بوتين للاستقالة بسبب استعداده لاجتياح أوكرانيا، وقد أكد إيفاشوف في مقابلة له مع إحدى وسائل الإعلام الروسية الليبرالية، “إيكو موسكفي”، أنه يتحدث باسم تجمع الضباط الروس.. وقد كان يحتل أعلى رتبة عسكرية في الجيش الروسي قبل تقاعده.. وقد تولى مناصب وقيادات عسكرية عالية المستوى قبل تقاعده، وكتب العديد من المقالات عن الشؤون العسكرية الروسية والجغرافيا السياسية من منظور قومي متشدد.. وقد اقترح في مقابلته أن يجري اعتقال الرئيس الروسي بوتين مشيراً إلى أن محاولة اجتياح أوكرانيا هو تحويل انتباه الشعب الروسي عن المشاكل الداخلية والتحديات الديموغرافية، وانهيار مستويات المعيشة، واستشراء الفساد في ظل سوء إدارة نظام بوتين. إذ أشار “إيفاشوف” إلى أن بوتين لم يظهر أي تفوق في قضية أوكرانيا ويخشى هذا الضابط الكبير أن تصبح روسيا “منبوذة” على المستوى الدولي، وأن يُنظر إليها كدولة مارقة بسب “سياسة بوتين المتمثلة في إثارة الحرب..
وإذا ما عدنا إلى الاقتصاد فإننا نجد أن تنميته تتوقف على نوع الديمقراطية القائمة في البلد المعني وحجمها، ما يعني ديمقراطية تعترف بوجود حرية أحزاب ورأي، ومعارضة فعلية، ومجالس منتخبة، وتبادل حقيقي للسلطة.. لا كما هو الحال في روسيا فديمقراطيتها ليست سوى مسرحية هزلية.
الحقيقة أن روسيا تعيش أزمة حقيقية، فهي لا تعرف إلى الآن كيف تتخلص من ورطتها في سورية، رغم كل ما نالته من استثمارات اقتصادية، ومبيعات أسلحة، ومواقع عسكرية، وشراء ذمم ضباط، وتجنيد أطفال سوريين، ليكونوا، بعد حين، مرتزقة يتعيّشون بدمهم، ورغم ذلك فأوكرانيا في نظر أوروبا وأمريكا ليست سورية، وأن للغاز الروسي الذي تتمول به أوروبا حلول جاهزة.. أما تأييد الصين لبوتين فلتقوية موقفها في صراعها المحتدم مع أمريكا، لا لروسيا، فهي دولة ناهضة، ولن تسير مستقبلاً تحت إمرة روسيا، بل على عكس ذلك فهي مرشحة لتصدر القطب الجديد إن أتيحت الظروف لتكوُّنه..!
المصدر: اورينت