كوفيد-١٩ هو مَرَض العَولمة والأنثروبوسين (Anthropocene) وهو حلقة من حلقات التدمير التي يقوم بها الإنسان في حق بيئته وكَوكَبه. عُرِف منذ مدّة، أن مَوطن هذا الفيروس المُستجد هو بعض الحيوانات الصغيرة غير المُستأنسة (مثل قطط الزباد – السفيت، بانجولين، والفئران والخفافيش)، التي يبقيها الصينيّون في منازلهم والمَطاعم وتُقدَّم كوجباتٍ فاخرةٍ لإظهارِ التميّز الاجتماعي، والتي تستخدم أيضًا كعقارات طبيّة وعلاجات سحريّة لبعض الحالات المستعصية. إذ اعتبر قدماؤنا أنّ جميع السُموم لها فضائل، فهي داء ودواء.
إنّ هذه المُعتقدات لا تنحصر بالصينيين ولا يجب تحميل مسؤوليّة انتشار هذا الفيروس بما نوصم (إعطاء أحكام نمطيّة مُسبقة) به الصينيين من “انعدام النظافة” في الطعام وأكلهم لأنواع مُختلفة من الحيوانات بما في ذلك القطط والكلاب (دون التساؤل لماذا يُعدّ أكل مثل هذه الحيوانات غريب جدًا بينما لا نجد ذلك عند شعوب أخرى تأكل الحلزون مثلًا!). الموضوع هو مُشاركتنا جميعًا بتَدمير بيئتنا بسبب الجشع، حيثُ نأكل كثيرًا، ونسعى إلى تجميع الكثير من المال، ولا نكتفي بما لدينا بل نريد المَزيد دائمًا. المزيد من السفر (إذ أصبحت الإجازة تعني السفر حصريًا) والملابس الفاخرة وأحدث الصرعات والماركات وأحدث الهواتف المَحمولة. لذا سمحت الرأسماليّة الريعيّة والجشعة والعَولَمة تحقيق ثروات كبيرة لحفنة من رجال الأعمال في مُدننا وذلك في وقتٍ قصيرٍ جدًا. وقامَت الطبقة الوسطى الجديدة والطبقة الوسطى الدنيا الجديدة بنسخ هذا الجشع ولو على مُستويات أقلّ لعدم قدرتها للتقليد الكامل. إنها مُحاولات أسطوريّة للوصول إلى السعادة (حسب تعبير الصديق السوسولوجي ريغاس ارفانيتس)، في ظلّ “معدّلات النمو” المُستمرّة كما لو أنّ الموارد لا نهاية لها. إلّا أنّ هذه النمطيّة لا تؤدّي إلّا للمزيد من المشاكل الصحيّة والأوبئة والموت والكوارث الطبيعيّة.
نعم، نحنُ نعيش أزمة وبائيّة عالميّة لكن لا يمكن التخلّص منها بتحفيز العمل في المختبرات الطبيّة فحسب، ولكن لابد من مٌعالجتها في مختبرات العُلوم المتنوّعة. وذلك من خلال عدّة تفاعلات مُتسلسلة، فقد بثّت هذه الأزمة الوبائيّة الذعر والهلع على أصعدة مُختلفة بما فيها أسواق الأسهُم الماليّة، فهي تشبه الأزمة الماليّة لعام ٢٠٠٨ التي نتجت، بشكلٍ أساسي، عن براديغمات الفصل التي راجت في حداثتنا المتأخرة: الفصل بين المجالات الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة، ولكن أيضًا الفصل بين الفرد والمُجتمع والطبيعة.
لا يُمكن فصل النضال من أجل البيئة عن نوع الاقتصاد السياسي وطبيعة النظام الاقتصادي الذي نريده. إنّ رأسماليّتنا النيوليبراليّة ليست فقط طريقة إنتاج بل هي أيضًا تكوينات اجتماعيّة تنظّم العلاقة بين البشر والطبيعة. وربّما أفضل تحليل للأزمة الحاليّة في توجّه الدول “للنمو السريع” جاء من قبل الاقتصادي الأميركي جيمس غالبريث وعالم الاجتماع الألماني كلاوس دور، الذي يُشير إلى أنّ النمو السريع يعتمد على استقرار التكاليف الثابتة للمواد الخام والطاقة على المَدى الطويل. عندما لا يكون كذلك، كما هو الحال الآن، تتكثّف المُضاربات الماليّة وتتقلّص الأرباح، وتولّد نزاعات حول توزيع الأرباح بين العمّال والإدارة والمالكين وسلطات الضرائب. بالإضافة إلى ذلك، إنّ تكلفة التغيّر المناخي مُرتفعة، حيث أنّ محاولة تخفيض انبعاثات الكربون بشكلٍ كبيرٍ جعلت العديد من الأنشطة التجاريّة المُستهلكة غير مُربحة. وبالتالي يقترح كلا المؤلّفان “اقتصادًا جديدًا واعيًا بطيئ النمو، يدمج الأُسُس البيوفيزيائيّة للاقتصاد في آليّات عمله”.
إنّ إعادة دمج الاقتصاد في الاجتماع والسياسة والثقافة لن يتحقّق دون ربط العلوم الاجتماعيّة بالفلسفة الأخلاقيّة، بالطريقة التي اقترحها بول ريكور: “هدفنا هو عيش حياة جيّدة مع الآخرين ومن أجلهم في ظلّ مؤسّسات عادلة”. أي أن ربط فكرة العيش الكريم مع الآخرين لا يحصل بشكلٍ فردي ودون إشراك الجَماعة والمُجتمع، إنمّا من خلال تبنّي مَبادئ الحُب والتضامن والضيافة والعطف مع الجميع، وخاصّةً مع المُهمَّشين. لن يكتمل ذلك إلّا في ظلّ نظام يضمن ويعزّز العدالة الاجتماعيّة والديمقراطيّة، يتماشى هذا مع ما اقترحه العلماء المناهضين للنزعة النفعيّة. أشعر أن مناهضة هذه النزعة بدأت تتمأسس، فهناك اتجاه إلى “التآلفيّة” التي نشرنا بيانها بنسخته الأولى والثانية The Convivialist Manifesto. أنا أُنادي مع زملائي في هذا الاتجاه بضرورة أن يكون هناك مدخول حدّ أدنى لكلّ العائلات (يحدّد في كلّ بلد) ورفع سقف مدخول الفرد (عن طريق سياسات ضرائبيّة صارمة)، حتّى ولو أدّى ذلك إلى هروب بعض الاستثمارات وبطئ النمو. إذ نطمح بهذا التوجّه إلى أن يكون بديلًا لأيديولوجيّات الشيوعيّة والاشتراكيّة والنيو-ليبراليّة والفوضويّة والعلمانيّة المُناضلة (التي تحوّلت لدين مُناهض للأديان الأخرى) والتي فشلت إمّا بسبب الخلل الفكري أو نسبةً لكيفيّة التطبيق.
باختصار، لا يُمكن مُعالجة مَشاكلنا الكبرى كانتشار الكورونا وتغيّر المناخ ونظام الاقتصاد السياسي دون تحفيز الوعي العامّ بعلاقة الناس بالأرض والإنسانيّة، والعودة لنمط حياتي بسيط بعيدًا عن الاستهلاكيّة. في مُقابلة مع الفيلسوف الفرنسي برونو لاتور نُشرت في لوموند في أيار/مايو ٢٠١٩، أَوضح من خلالها أن الناس أصبحوا على وعي تامّ بالتغيّر المناخي ولكنّهم لا يشعرون أنّهم ينتمون إلى الأرض التي يعيشون عليها، وينتقلون بسرعةٍ إلى أماكن أخرى كاستراتيجيّة هروب فرديّة. نحن بحاجة للعودة إلى التفكير برؤى بارزة لفلاسفة مثل إيمانويل ليفيناس، لتذكيرنا بضرورة التفكير في المسؤوليّة قبل الحريّة، وكيف أن علاقتنا بالآخرين تعتمد على فكرنا الإنساني. أتمنّى أن تشحن أزمة انتشار الكورونا لحظة الوعي لتحويل الأزمة إلى فرصة لتغيير اجتماعي حقيقي نطمح له جميعًا، لأنّ هذه الأزمة هي العلّة والترياق في آنٍ واحد.
المصدر: معهد عصام فارس