لم يعد قاسيون يعانق إلا سحب الضبخن الخانقة، فاستمال المبدعون لرسم وتصوير إطلالتها الواسعة على دمشق وضواحيها عند إشراقة الصباح الباكر، بلونها البني المصفر المحتوي على مزيج من الأبخرة المؤذية من غازات وجسيمات دقائقية ناعمة وآوزن أرضي ومركبات عضوية طيارة VOCs وبيروكسيد أستيل نترات PANsوأكاسيد الآزوت وثاني أكسيد الكبريت وأحادي أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكربون، كلها مواد كيميائية تؤثر سلباً على صحة الإنسان لتودي به إلى القتل البطيء، إذ إنها تضعف مناعته وتسبب مشاكل قلبية ورئوية مزمنة.. مثيرة للربو والتهاب القصبات والسعال بالإضافة لأمراض العين من تهيج وحساسية، فالهواء الذي لا يستطيع أن يحيى من دونه الإنسان صار سبباً لأذيته شاء أم أبى، حيث أينما كان يقطن لابد له أن يقطع الأميال ليقضي عمله والسخام الأسود يطبق على أنفاسه، وهل سنصل لمرحلة التجول في شوارع دمشق وضواحيها والكمامات ترافقنا.
فظاهرة الضبخن وهي اختصار لمصطلح (الضباب الدخاني) باتت تميز المدن التي تعاني من تلوث الهواء بقياسات تفوق معايير الصحة العالمية، وتحدث في البيئة نتيجة تحقق ظروف مناخية طبيعية بوجود ملوثات كيميائية خطيرة بتراكيز عالية، فعادة طبقة الهواء الأقرب لسطح الأرض أكثر حرارة من الطبقات العليا بسبب انعكاس أشعة الشمس عن سطح الأرض وعندما يحدث انقلاب حراري علوي في الطبقة الأولى من المحيط الهوائي حيث بدلاً من أن تنخفض درجة الحرارة كلما ارتفعنا عن سطح الأرض تزداد درجة الحرارة مع الارتفاع وهذا ما يمنع صعود الملوثات الغازية والجسيمات الصلبة المعلقة في الهواء إلى أعلى الجو ويسمح بتراكمها وارتفاع تركيزها، فتتفاعل الملوثات الأولية مع بعضها أو مع مكونات الهواء الطبيعية وبشكل خاص أكاسيد الأزوت تتفاعل مع الأوكسجين بوجود الهيدروكربونات بتفاعلات كيمياضوئية بتأثير أشعة الشمس ينتج عنها ملوثات أخرى ثانوية أشد خطراً على صحة الإنسان والحيوان والنبات ويسبب حت الأبنية خاصة الأثرية منها، ولذلك تظهر جلياً هذه الظاهرة في فصل الصيف.
ومن مدة ليست بالبعيدة بدأ إجراء العديد من الدراسات العلمية بالاشتراك مع خبراء أجانب حول واقع تلوث الهواء بدمشق وجودته تطلّب ذلك قياسات عديدة لجودة الهواء أكدت حيازة دمشق المرتبة الأولى في تلوث الهواء مقارنة بباقي الدول الكبرى.. وبناء على ذلك تُطرح الحلول البديلة ولكن للأسف لاتصل لمرحلة التنفيذ، لتبدأ دراسة أخرى وهكذا.. ولكن حقيقةً هذه القياسات تفتقد للمنهجية الموحدة والاستمرارية فما ننتظره هو إجراء علاجي مدروس وبعيد المدى يخدم البيئة ويجعل الأجيال القادمة تشهد لنا وتحترمنا وليس حلول مؤقتة لرفع العتب. ومؤخراً تم تركيب اثني عشر محطة مراقبة تلوث الهواء كلفتها أكثر من ثمانين مليون ليرة سورية موزعة بين دمشق وحمص وحلب موصولة جميعها بشبكة رقمية مركزية، ننتظر تشغيلها ونتمنى لها العمل المستمر والفعال.
فعلى سبيل المثال بلغ تركيز ثاني أكسيد الآزوت في هواء دمشق 122 ميكروغرام/م٣ بينما المعايير المسموح بها من منظمة الصحة العالمية 40 ميكروغرام/م٣ وتركيزه في بكين /122/ وفي برلين /26/.
وتركيز غاز ثاني أوكسيد الكبريت في هواء دمشق 96 ميكروغرام/م٣ بينما المعايير المسموح بها من منظمة الصحة العالمية 50 ميكروغرام/م٣ وتركيزه في بكين /90/ وفي برلين /18/.
أما بالنسبة للغبار والعوالق في هواء دمشق 418 ميكروغرام/م٣ بينما المعايير المسموح بها من منظمة الصحة العالمية 90 ميكروغرام/م٣ وتركيزه في بكين /377/ وفي برلين /50/ .
وهناك أيضاً العديد من الأمثلة التي تبين انخفاض معدل التلوث في بلدان العالم الكبيرة لأنها عملت بشكل أساسي على فصل المناطق الصناعية بأحزمة من الغابات والأشجار وحسنت نوعية وقود وسائل النقل واستبدلتها بالغاز أو الكهرباء، حيث أن أهم مصادر تلوث الهواء هي وسائل النقل من حافلات النقل الداخلي أو المسافات الطويلة، واحتراق الوقود في الصناعة وفي الاستهلاك اليومي للمجتمع، ومنشآت توليد الطاقة الكهربائية، وما يطرح من العمليات الصناعية.
والجدير ذكره أن التخطيط العمراني في سورية يجعل هواء مدنها يتلوث بشكل دائم بالملوثات البيئية المختلفة التي يصعب كنسها حيث تتميز بشوارعها الضيقة وانخفاض نسبة المسطحات الخضراء وعدم مراعاة المواقع المناسبة والبعد المناسب للمناطق الصناعية عن المدن خاصة أن الرياح تلعب دورا فعالا في انتشار هذه الملوثات الهوائية ونقلها من أماكن بعيدة إلى المدن التي تعاني من انخفاض سرعة رياحها مقارنة مع أطرافها فهذا يساهم بتراكم الملوثات في أجواء المدينة، خصوصاً أن وسائل النقل في سورية تفتقر لكفاءة الاحتراق في محركاتها لانعدام صيانتها الوقائية والمستمرة من جهة ولتدني نوعية الوقود السوري واحتواءه على نسبة مرتفعة من الكبريت من جهة ثانية، إضافة إلى أن 30% من وسائل النقل في سورية تعتمد على وقود الديزل الذي يعتبر المسؤول الأول لانطلاق العوالق الدقائقية إذ تنبعث منها العوالق بقدر يزيد بين 30 إلى حوالي 50 مرة عن وسائط النقل العاملة بالبنزين فهذه العوالق هي المتهم الأساسي لتليف الرئة والتهاب القصبات والسعال المزمن خاصة العوالق التي يبلغ قطرها أقل من 10 ميكرون حيث يسهل استنشاقها واستقرارها في جسم الإنسان.
فجيد أن نستورد وسائل النقل الجماعية المريحة ولكن الأفضل أن نستوردها بتقانات صديقة للبيئة تعتمد على الوقود البديل والمتجدد (كالغاز الطبيعي أو الكهرباء) حتى لا نبقى في إطار الدارة المغلقة في حلول مؤقتة.
وأخيراً هل علينا الاعتبار أن الدافع الأساسي لارتفاع تلوث الهواء وتنامي تركيز غازات الاحتباس الحراري أن سورية في رخاء اقتصادي أدى إلى زيادة إقبال الناس على صرف أموالهم لشراء السيارات وتكييف الهواء والتقانات الأخرى المستنزفة للطاقة التي تساهم في إرهاق البيئة ورفع معاناة البشرية.. أم هو التمركز الصناعي الخاطئ والتجمع السكاني في مركز المدينة والاستهلاك الاقتصادي العشوائي وصعوبة السيطرة على القطاع الصناعي وما يلقيه من ملوثات قد لا نستطيع إحصاءها وكبح كوارثها، وعدم القدرة على ضبط وسائل النقل ونوعية وقودها الرديء.
إذاً لابد من الصرامة في تطبيق القوانين البيئية الناظمة لجودة الهواء المطروح من الصناعة ووسائل النقل للحفاظ على هواء نظيف وهو حق طبيعي لابد أن يتمتع به الإنسان.
المصدر: ديوان العرب