روسيا جاهزة لغزو أوكرانيا. الحشود والخطط العسكرية وسيناريوات زعزعة التماسك في الغرب الأوكراني جاهزة أيضاً. لا تتردّد المصادر الأميركية في توقّع سقوط كييف “خلال ثمانٍ وأربعين ساعة”. لا معنى لقصر التقدم الروسي على الشرق الأوكراني الواقع اليوم تحت نفوذه، فموسكو تعرف هذه البلاد وكانت تحتلها سوفياتياً، ثم إنها أهدتها شبه جزيرة القرم عام 1945، لكن فلاديمير بوتين قرّر استعادتها وضمّها “سوفياتياً” في 2014.
لم يفعل ذلك بدافع الحاجة الى النشاط الاقتصادي لشبه الجزيرة وموانئها، أو لتوظيفها في الهيمنة الروسية على البحر الأسود فحسب، بل لإعادة أوكرانيا كلّها الى الفلك الروسي، مثلها مثل بيلاروسيا. وبعد أن “تحلّ” موسكو مشكلتها الأوكرانية، لن تتأخّر بكين في مباشرة “حلّ” مشكلتها التايوانية. أصبح هذا ضمن المتوقّع مع “العهد الجديد في النظام الدولي”، كما يبشّر به الاتفاق الروسي – الصيني.
بالنسبة الى بوتين، يمكن أن يكون التفاوض مجدياً لكن بعد الغزو، أما الآن ففشلت كل المساعي الدبلوماسية لسبب واضح: انتظر تنازلات ولم تأتِ. هي مطلوبة تحديداً من الغرب الأميركي – الأوروبي. منذ اللقاء الأميركي – الروسي الأول في جنيف (10/01/22)، وما أعقبه من لقاءات في بروكسل وفيينا، كان هامش المناورة الغربي ضيّقاً: يمكن التفاهم مع موسكو على قيود متبادلة لنشر الصواريخ الهجومية، وعلى آليات وتدابير شفافة للحدّ من أي احتكاك أو تصعيد في البحر والجو. أما غير الممكن فهو أن يتعهّد حلف عسكري مثل “الناتو” عدم ضمّ أوكرانيا الى عضويته، فهذا يخالف ميثاقه الأساسي، عدا أنه يبعث برسالة مقلقة الى أعضائه من الدول الاشتراكية سابقاً.
ما دام هذا التعهد “مستحيلاً”، فإن “الهواجس الأمنية” لموسكو لن تعالج. وبعد مراسلات عديدة فحص بوتين الأجوبة الأميركية والأطلسية ووجد أنها “تتجاهل” مطالبه. إذاً، فالخيار الآخر هو أن تحقق روسيا ما تريده بقدراتها، حتى لو “اضطرّت” لغزو أوكرانيا. لذا حشدت حتى الآن مئة وخمسين ألف عسكري مع آلياتهم ومعدّاتهم، ورفدتهم بقوات إضافية على الحدود البيلاروسية – الأوكرانية، وتعتبر أنها أعطت الدبلوماسية فرصة “كاملة” منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2021، وفي الأثناء قدّمت كل المؤشّرات (هجمات إلكترونية تجريبية على خوادم مؤسسات الدولة في كييف وقواها العسكرية، طلعات استطلاعية…) الى كونها في صدد الإعداد للتدخّل، لكنها تنفي نفياً بروباغندياً قاطعاً أنها ستغزو. كان هذا النفي ليكون مقنعاً لولا الحشود التي رفضت موسكو خفضها كإشارة الى رغبتها في عدم/ أو خفض التصعيد.
عندما تُطلع الاستخبارات الأميركية الأعضاء المعنيين في الكونغرس والحلفاء الأوروبيين على ما تعتبر أنها خطط لـ”غزو واسع النطاق”، فإن الأمر يتجاوز الشائعات أو “حملات بث الذعر”، كما يقول الروس. وعندما يُكشف جانب من المعلومات وتجد العواصم الغربية ضرورة لمغادرة رعاياها وتقليص عدد دبلوماسييها في كييف، يكون الواقع على الأرض قد تخطّى إمكان لجمه بالسياسة.
ربما لا تزال هناك رهانات بسيطة على الاتصالات الجارية، لكن أحداً لم يعد يتصوّر بوتين متراجعاً من دون مكسب أساسي جلي لا يمكن أن ينتزعه إلا من الولايات المتحدة. أما التحذيرات من “عقوبات قاسية وكلفة كبيرة” ومن ردٍّ غربي “سريع وشديد وموحّد” فقد استبقه بوتين باتفاق غير مسبوق مع الزعيم الصيني شي جين بينغ. وكما أن متظاهراً في كييف رفع لافتة تدعو أوكرانيا للانضمام “الى الناتو فوراً”، فإن الرئيس الروسي يرى الفرصة سانحة له الآن للتحرك فوراً، استباقاً لأي مفاجأة، علماً بأنها كانت ولا تزال مستبعدة.
أبدت الدول الغربية إدراكاً لصعوبة ضمّ أوكرانيا الى الاتحاد الأوروبي، وبالتالي تعقيدات ضمّها الى “الناتو”، فلم تتعجّل بتّهما تحسّباً لردّ الفعل الروسي، واستعاضت عن ذلك بالدعم السياسي واللوجستي وحتى العسكري. ولأنها لم تفعل، فإن بوتين سيقدم على رفع هذا الملف عن الطاولة، نهائياً. بالطبع لو كانت هناك قوات أطلسية في أوكرانيا لما كان دفع بالسيناريو الذي ينفّذه حالياً. فهو يستطيع أن يغزو بسهولة، أمّا إدارة الأزمة لاحقاً فلن تكون بالسهولة نفسها.
حين تحدّث جو بايدن عَرَضاً عن “توغّلٍ بسيط” بدا كأنه يعرض على بوتين “حلاً وسطاً”، بل قال بوضوح إنه لن يرسل قوات أميركية “لخوض حرب مع روسيا” في أوكرانيا. لكن فكرة “تقاسم النفوذ” في أوكرانيا لم تعد تغري بوتين كما كانت تخامره أيام “الوفاق المكتوم” مع دونالد ترامب.
وإذ تتوقع الاستخبارات الأميركية الآن خسائر بشرية ما بين 25 الى 50 ألف مدني وما بين 5 الى 25 ألف عسكري أوكراني، كذلك ما بين 3 الى 10 آلاف جندي روسي، فليس بوتين مَن يتوقف عند هذه التقديرات إذا كان تحقيق الهدف ممكناً، ولا يزعجه نزوح ملايين الأوكرانيين لاجئين الى دول الجوار. كانت روسيا قد طلبت خلال المفاوضات أن يقلّص الأطلسي حضوره في بولندا ورومانيا ودول البلطيق، وألّا يشملها بشبكات الصواريخ الهجومية. لم تنجح الدبلوماسية في تكريس مبدأ “الحرب المحرّمة” في أوروبا، لذلك ترسل دول “الناتو” حالياً، بما فيها أميركا، تعزيزات عسكرية الى هذه الدول، تحسباً لحرب أوكرانيا و”ما بعدها”.
من شأن هذه الحرب أن تكسر حلقة صلبة في بنية نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهذا ليس وليد صدفة. هذه الحرب ليست ضد أوكرانيا، بل إنها ضد الأطلسي، ضد القوة العظمى الأميركية التي لم يبحث اتفاق بوتين – شي عن أي غموض في نيّة تحدّيها ومواجهتها. طوال عقدين عملت الصين وروسيا على تجسيد التعددية القطبية في الواقع الدولي، وقد يكون الوقت حان الآن لتغيير قواعد اللعبة عسكرياً وسياسياً: لا توسيع لـ”الناتو”، ولا تشكيل لتحالف أمني جديد، ولا تدخّلات أو “ثورات ملوّنة” تحت شعار الديموقراطية… بكين تدعو الى معالجة “القلق الروسي من الناتو”، وموسكو تدعم “الصين الموحّدة مع تايوان كجزء لا يتجزّأ منها”. هي عودة ساخنة الى الحرب التي لم تعد/ ولن تبقى “باردة”. كانت الصين تواكب التنمّر البوتيني على الغرب وتستفيد منه، وشاركت روسيا في حصد مصالح من الصراع الأميركي – الإيراني. وكما ينعكس التلاقي الاستراتيجي الصيني – الروسي على الغرب والشرق معاً، فإن إيران ارتضت أن تصبح إحدى أدوات هذا التلاقي لتحقّق أهدافها من خلاله.
المصدر: النهار العربي