ليست المرة الأولى التي يحتفل فيها السوريون بعيد الجلاء؛ فقد مر على جلاء المستعمر الفرنسي؛ الذي احتلهم؛ سنوات طوالا (17- 4 – 1946) وعقودا متعاقبة؛ ولعله من زمن بعيد لم يعد الاستقلال يعني لهم الشيء الكثير؛ بل وربما قطاع منهم يترحم على زمن الاحتلال ذاك؛ مقارنة بما قاسوه؛ إن لم يكن على مدى سنوات حكم آل الآسد فأقله في السنوات الماضية؛ من “احتلال” وطني تجاوز بممارساته احتلالات أخرى على مستوى العالم؛ بالسلوك والممارسة؛ والقبح والفظاعة …
احتفال هذا العام يكتسب معاني مختلفة؛ فهم يحثون الخطى نحو تحررهم من “استعمار” محلي الصنع؛ من أبناء جلدتهم؛ عمل على تغيير ثقافتهم ومزاجهم وقيمهم بكل السبل المتاحة والممكنة؛ بل أزال من ذاكرتهم الوطنية الجامعة؛ رموزا وأحداثا ومحطات تاريخية؛ تفيد بمعنى الاستقلال وتضحياتهم الكبرى لأجله؛ ليكتب لهم تاريخهم “الوطني” من مبتدئه حتى منتهاه مربوطًا به؛ ومتسقا معه.
معركة الاستقلال “الثاني” تبدو كلفتها أكبر؛ وأكثر فداحة؛ بالنظر إلى شراسة عدوهم؛ وتغير عالم اليوم؛ وتبدل حتى مفهوم” الاستقلال” نفسه؛ في ظل العولمة والهيمنة التي تأخذ أشكالا متعددة؛ تتجاوز الشكل “الكولونيالي” المباشر لتأخذ أشكالا أخرى؛ كان يظن أنها “ناعمة” أو بقفازات من حرير؛ كالغزو الثقافي والفكري؛ والاستغلال الاقتصادي…ليكتشفوا أنهم أمام مزيج من” احتلالات” بشعة تتطلب منهم معارك “تحرير” متعددة ومختلفة …
لم يكن الاستبداد والطغيان مقدمة للاحتلال؛ كما كنا نقول على مدى سنوات؛ وليس صحيحا البتة ما كنا نردد عن وكالة النظم عن الاستعمار العالمي والقوى الخارجية؛ بل وضخ بما لا يرقى للشك؛ ولا يحتاج إلى الدليل والبرهان أن هذا النوع من النظم هو ائتلاف من الاستعمار القديم (المباشر- الكولونيالي) والحديث ( الهيمنة _ الاستغلال – تغيير الهوية ) والطغيان والاستبداد؛ ليعطي بنتائجه؛ ومفاعيله على الأرض؛ وباختزال معقد ومرير؛ كل تلك الآثار السلبية مجتمعة؛ التي تترتب على الاحتلال بنوعيه والاستبداد وأشكاله؛ والتي حصيلتها تدمير الإنسان والمجتمع؛ والإطاحة بالماضي والحاضر؛ ومحاولة مصادرة المستقبل.!!!
منذ الاستقلال الأول فشلت النظم والحكومات التي تعاقبت على الحكم؛ بغض النظر عن طريقة وصولها وشرعيتها؛ وإشادة البعض بفترات محددة من هذا التاريخ المضني؛ فشلت في أن تستطيع بناء الدولة والإنسان؛ وهما ركيزتا أي مجتمع أو أمة ومعيارهما الأساس في الحكم على نجاحهما أو إخفاقهما في الوفاء لأي مشروع وطني أولى أولوياته الاستقلال ..!!!
اليوم؛ في معركة الاستقلال الثاني؛ أو عهد الجمهورية الثانية؛ بعد إسقاط النظام؛ يتوقف على إعادة بناء الدولة والإنسان؛ الحكم على نجاح الثورة أو فشلها أو تعثرها…فثورة الحرية والكرامة انطلقت لأجل إعادة تصويب خلل كبير تمثل في تطابق الدولة والنظام والمجتمع؛ وسحق إنسانية الإنسان وإلغاء وجوده؛ وهو ما يتطلب إعادة صياغة عقد وطني جامع أساسه المواطنة؛ وإقامة دولة الحق والعدل والقانون؛ وفصل السلطات عن بعضها البعض؛ والعناية بالإنسان وتربيته؛ كونه المحرك الأساس لعجلة التاريخ…إلخ من مفاهيم وقيم حداثية؛ باتت معروفة؛ ومحل إجماع وطني….
لسنا الوحيدين بين أمم وشعوب الأرض الذين مروا بمراحل متعددة إلى أن تمكنوا من ” الاستقلال” وبناء المشروع الوطني الخاص بهم؛ وإن بقي هذا المفهوم نسبيا في حاضر عالمنا اليوم؛ كما ذكرت آنفا؛ ولكننا بكل تأكيد ربما نكون من أكثر شعوب المعمورة التي كلفها “الاستقلال” كل هذه الكلفة الباهظة ؛ وهذا الثمن؛ الذي لا يبدو حتى اللحظة أنهم انتهوا من سداده؛ بل ربما سيظلون يدفعونه لسنوات قادمة؛ ولكنهم بإصرار وعناد على تحدي الواقع واقتحام المستقبل.!!!
منذ لحظة الاستقلال الأول وحتى الآن؛ محطات كثيرة تستدعي إعادة القراءة والتوقف عندها في سعي السوريين لتحقيق استقلال ناجز؛ عجزوا عن تحقيقه بالمعنى الكامل؛ ولكنهم اليوم أقرب ما يكونون إلى تلك اللحظة التاريخية التي يتطلعون إليها ويصبون إلى تحقيقها…
تتداخل معاني الجلاء والاستقلال؛ فهي لا تالاستعمارقتصر على تحرير الأرض وحدها؛ بل وحرية الإنسان وإرادته وذهنه…وامتلاكه لقراره في تقرير مصيره ومستقبل.
المصدر: صحيفة الأيام