الحجاجرة قرية في الداخل الفلسطيني لا يتجاوز عدد سكانها ألفي نسمة، تبرعت لوحدها بأكثر من 300 ألف دولار خلال حملات التبرع الفلسطينية التي تجاوزت ملايين الدولارات، والتي خُصصت لدعم المهجّرين السوريين وفلسطينيي سورية في الشمال السوري. هذا مثالٌ جليٌّ على حجم إقبال من لبّوا نداء الواجب، تجاه ضحايا النكبة الأسدية، التي لا أحد أكثر من ضحايا نكبة فلسطين، يعرفون ويُحسون معنى أن تُقتلع من بيتك وأرضك، وتغدو مهجراً في خيام لا تستر كريماً ولا تقي بشرياً قيظ الصيف وبرد الشتاء.
هذه الحملة الواسعة التي تعددت فيها أشكال التبرع النقدي والعيني، وشارك فيها ميسوري الحال والفقراء كلٍ باستطاعته، وجالت القرى والبلدات والمدن الفلسطينية، وأصبحت ميداناً للتسابق المحموم على فعل الخير، حتى فاقت المبالغ التي تم جمعها، كل توقعات القائمين على تلك الحملات. أظهرت بعفويتها وزخمها وتوقيتها، تلك الأواصر الأخوية والصلات الوجدانية بين الفلسطينيين والسوريين، وأعادت إحياء المشتركات الكبرى التي تجمع أبناء النكبتين والقضيتين. لم يكن البعد الإنساني والأخلاقي لتلك الحملات التي شارك فيها المجتمع الفلسطيني، الذي تم فصله قسرياً عن عمقه السوري والعربي منذ العام 1948، هو البعد الوحيد والحصري لتفاعل الداخل الفلسطيني المُحتل مع الداخل السوري النازف بلا هوادة.
ثمة موقف شعبي علني وصارخ من وراء تلك الحملات، يؤكد على تمسك الفلسطينيين الواقعين تحت السيطرة الصهيونية الكاملة منذ أكثر من سبعة عقود، بانتمائهم وهويتهم الوطنية والعربية. أما إعلان التضامن الواسع وتوجيه الدعم إلى ضحايا التهجير الأسدي، فهو بحد ذاته رسالة ساطعة، على الموقف الشعبي الفلسطيني المنحاز لحق الشعب السوري في الحرية والكرامة، والرافض لما حلَّ بهذا الشعب الكريم من عدوانٍ وظلمٍ لا يحتمل على يد الأسد وشبيحته وشركائه في الإجرام.
قبل هذه الوقفة العارمة، تتالت إشارات عديدة من أهلنا في القدس والداخل الفلسطيني وغزة والضفة الغربية، كان لها مغزى واضح في الانحياز إلى ثورة الشعب السوري، لكن مواقف وسلوك القيادات الفلسطينية المُحابية للنظام السوري وإيران، والتي وصلت حد التواطؤ في التغطية على جرائمهم، كادت أن تطمس بقدر ما تحمل من إساءات فاضحة، حقيقة مواقف ومشاعر الفلسطينيين، وقد أدى ذلك إلى التباس المعنى التحرري للقضية الفلسطينية عينها، قبل ما أحدثته من خذلان وغضب على القيادات الفلسطينية في عيون السوريين الأحرار. بيدَ أن زخم الحملات الأخيرة التي حفزتها مشاهد الأطفال والنساء وكبار السن، وهم يواجهون البرد القارس بأجسادهم الغضة والضعيفة، والخيام تنهار على رؤوسهم بفعل العواصف الثلجية، كانت الصورة المُشرقة التي صفعت وجوه المراهنين على تغييب صوت الشعوب في مقابل دعم أنظمة القتل والاستبداد.
كلنا سمعنا ذاك الفلسطيني من مخيم شعفاط وهو يصرخ أمام أحد صناديق التبرع: “لبيك يا درعا لبيك يا حلب ” وحين تأتي الصرخة من الجنوب السوري الذي كانته فلسطين، تسقط كل صور الالتباس والاختزال والفصل بين أبناء الجرح والمصير الواحد. هنا حين يجيب السوريين على هذا الضمير الفلسطيني المتشبث بهوية الحق والعدل والكرامة بالقول ” شكراً فلسطين ” لأنك جنوبنا الفلسطيني الذي لم يتخل عن أصله، وبقيَ وفياً لنداء الواجب كما كان وفاء الشعب السوري كبيراً وأصيلاً.
كلمة السر في حملات الخير والدفء والمحبة، التي يُحاكي بها الأحرار لغة الأحرار، تكمن في هذا العشق الأبدي بين الفلسطينيين والسوريين، وهو أكبر من كل القيادات والفصائل التي باعت نفسها لشياطين الأنظمة، وأقوى من كل الحدود والسياسات والمخططات الخبيثة. عشقٌ تخضب بالدماء السورية التي سالت في الجليل الأعلى ومرج ابن عامر وطبرية وبيسان، وبالدماء الفلسطينية التي سالت في دمشق ودرعا وحمص وحلب وحماة واللاذقية خلال محطات الثورة السورية. وأن تنفجر ينابيع هذا العشق وتفيض دفعةً واحدة، فهذا من دروس الشعوب الحيّة التي لا يفقه معناها الجاحدون والناكرون.
شكراً يا أهلنا في فلسطين وشكراً يا أهلنا في سورية، بكم تنبت فكرة الخلاص القادم من شقوق الصخر، ومن تضحياتكم وكفاحكم المشترك من أجل الحرية، يولد النصر مهما كانت وعورة الطريق. ولا مكان تحت شموسكم لكل غازٍ وظالمٍ ومستبدٍ وخائن.
المصدر: موقع مصير