الغاية الأولى لرئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح هي الإطاحة برئيس الحكومة المؤقتة عبد الحميد الدبيبة بوصفه أقوى مرشح في مواجهة حليفه اللواء المتقاعد خليفة حفتر. وفي هذا الإطار حض صالح النائب العام صديق الصور، على التحقيق في نفقات الحكومة في الفترة السابقة سعيا لإخراج رئيسها من المنافسة الانتخابية. إلى ذلك طعن صالح، الذي كان هو نفسه مرشحا للرئاسة في الانتخابات المؤجلة، في قانونية التعيينات التي قام بها الدبيبة في مناصب عليا في الدولة، ما اعتُبر مخالفة للقوانين واللوائح. وهذا مؤشر على حجم السجال الذي سيعود بين الفرقاء السياسيين، ربما بنبرة أعلى من ذي قبل، تمهيدا للانتخابات المقبلة.
على الطرف الآخر وجه رئيس المفوضية الوطنية العليا للانتخابات عماد السائح أصابع الاتهام إلى السياسيين محملا إياهم مسؤولية إفشال الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة ليوم الرابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر الماضي. واقترح السائح في إحاطة لمجلس النواب، إدخال تعديلات فنية على القوانين الانتخابية والعمل بشكل مواز على تحديث سجل الناخبين. وحدد رئيس المفوضية في الوقت نفسه أربعة عوامل أكد على ضرورة توافرها لتتمكن المفوضية من إنجاز العملية الانتخابية، وهي التوافق السياسي والأمن والتمويل والتشريع، بحسب حديثه خلال جلسة مجلس النواب.
غير أن تحقيق التوافق ليس بالأمر اليسير في الوضع الليبي الراهن، بحكم العداوات المستحكمة بين الفرقاء، والتي تنسف فرص التقارب والحوار من أجل وضع أرضية مشتركة للانتخابات. وغير خاف على أحد أن الأطراف الخارجية تصب الزيت على النار بدعمها العسكري والدبلوماسي للقوى المتناحرة. وتفاديا لتكرار السيناريو الذي سبق 24 كانون الأول/ديسمبر الماضي، طالب السايح بسن قانون خاص ينظم آلية الطعون الانتخابية. وقدر الفترة اللازمة لإعداد انتخابات جديدة بما بين ستة إلى ثمانية أشهر «بعد إزالة القوة القاهرة».
على أن هناك عائقا كبيرا آخر يُعطل إجراء الانتخابات ويتمثل بعدم وجود مرجعية دستورية. والنخب السياسية الليبية مختلفة في هذا الشأن منذ فترة غير قصيرة، ففيما يرى البعض أن المسودة التي أعدتها «لجنة الستين» في العام 2017 لا تصلح أرضية لمناقشة دستور جديد لليبيا، يحض آخرون على إدخال بعض التعديلات عليها، لتصبح مقبولة في المجمل من غالبية الليبيين، عدا ممثلي الأقليات، الذين قاطعوا مراحل صياغتها. وكانت اللجنة مؤلفة من عشرين عضوا عن كل إقليم من الأقاليم الثلاثة الشرق والغرب والجنوب، بالإضافة لستة مقاعد لكل من الأمازيغ والتبو والطوارق، يتقاسمونها بالتساوي.
ولم يُحسم هذا النزاع إلى اليوم، مع أن تداعياته على المسار السياسي بعيدة الأثر، وهو يشكل أحد الكوابح الكبرى للتقدم في طريق الحل السلمي للأزمة. فقد أتاح غياب الدستور وضع قانون للانتخابات الرئاسية على المقاس، وهو الذي شكك كثيرون في مصداقيته، بعدما اتضح أن رئيس مجلس النواب عقيلة صالح وضعه بمفرده، من دون استشارة أعضاء المجلس ولا القوى الاعتبارية في المشهد السياسي الليبي. وما من شك في أن سن قانون خاص بالانتخابات البرلمانية، إلى جانب إدخال التعديلات اللازمة على قانون الانتخابات الرئاسية، باتا مقدمة ضرورية لأية عملية انتخابية مقبلة.
الأخطر من هذه المطاعن القانونية هو التحدي الأمني، وخاصة في حال لو أعلنت المفوضية العليا عن القائمة النهائية لمرشحي الرئاسة، إذ كشف السائح أن كثيرا من الأطراف السياسية والتشكيلات المسلحة، التي لم يُسمها، هددت المفوضية، بل «واقتحم بعضها مقر المفوضية محاولا الاعتصام فيه» على ما قال. والغريب أن وزارة الداخلية وجدت نفسها أيضا مُعرضة لنفس الابتزاز والتهديد، ما حال في نهاية المطاف دون نشر القائمة. ولعل هذا ما حمل السائح على التأكيد أن التشكيلات المسلحة التي هددت مفوضية الانتخابات «مسيسة ولا ولاء ثابتا لها» من دون إعطاء تفاصيل عن ولائها السياسي.
من هنا يتضح مجددا أن الماسكين بالسلك الكهربائي ليسوا أعضاء الحكومة ولا أعضاء مجلس النواب، وإنما هم أمراء الميليشيات في الغرب والشرق والجنوب. ولعل هذا الواقع المُعقد هو الذي حمل ستيفاني وليامز على زيارة القاهرة ثم موسكو، لما لهما من نفوذ على القوى المتحكمة في المنطقة الشرقية.
دور المجتمع الدولي
وناقشت وليامز في موسكو مع المسؤولين الروس، وفي مقدمهم نائب وزير الخارجية سيرغي فيرشينين، أداء البعثة الأممية، الذي عبر الروس عن ملاحظات حوله، وخاصة في شأن اقتراح تمديد التفويض الممنوح للبعثة. وفي إشارة غير مباشرة إلى التداخلات الأمريكية والأوروبية في الملف الليبي، ومنها خريطة برلين، أكدت وليامز أن مُحاوريها في موسكو شددوا على «الدور المهم للمجتمع الدولي» بما في ذلك مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. كما شددوا على ضرورة أن تكون العملية السياسية «شاملة وبقيادة ليبية». وفي هذا الإطار تطرق فيرشينين إلى مسألة تمديد التفويض الممنوح للأمم المتحدة، ولم يُعرف ما إذا كان الروس موافقين على التمديد للأمريكية وليامز، بعدما سبق أن اعترضت أمريكا على تسمية وزير الخارجية الجزائري الحالي رمطان العمامرة رئيسا لبعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا، خلفا للموفد الخاص السابق غسان سلامة. أما أمين عام الأمم المتحدة غوتيريش فكان يأمل في حلول وليامز محل سلامة على رأس البعثة الأممية إلى ليبيا. ويمكن تلخيص الموقف الروسي في جملة رددها الروس على مسامع وليامز في موسكو، مفادها رفض روسيا «فرض حلول خارجية جاهزة على الليبيين» مع التأكيد على «الحاجة إلى الاحترام الصارم للعملية السياسية الشاملة التي يقودها ويمتلكها الليبيون، والتي تُسهلها الأمم المتحدة، وفقًا لتفويض مجلس الأمن التابع لها. فهل بات مسار برلين، بهذا المعنى، ضربا من فرض حلول خارجية على الليبيين، في عيون الروس؟
الثابت أن نفوذ روسيا في ليبيا سنة 2011 ليس كنفوذها في 2021 و2022 بعدما وضعت قدما راسخة في المعادلات الجيوستراتيجية في المنطقة، ليس فقط من خلال عناصر الشركة الأمنية الروسية الخاصة «فاغنر» الداعمة للواء المتقاعد خليفة حفتر، وإنما أيضا في منطقة الساحل. وأظهرت تقارير فرنسية أن مئات من تلك العناصر انتشرت في كل من النيجر ومالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، دعما للقوات المحلية ضعيفة التجهيز والتدريب. ومع أن حكومة مالي أصدرت تكذيبا رسميا لوجود قوات أجنبية على أراضيها، اعترفت في البيان نفسه بوجود مدربين أجانب من الروس، مؤكدة أنها لا تتعاطى سوى مع مؤسسات الدولة في الاتحاد الروسي.
وأتت الانتقادات للتوغل الروسي في الساحل والصحراء، من عدة بلدان أبرزها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وكندا، مركزة على رفض الدعم المادي الذي قالت إن الحكومة الروسية تقدمه لمجموعة «فاغنر». وتشارك قوات من البلدان الخمسة عشر المُوقعة على البيان، في القوة العسكرية «تاكوبا» التي ترافق القوات المالية في حربها على الجماعات المسلحة المحلية. واستندت مخاوف الغربيين على حجم المنشآت العسكرية التي أقامها الروس أخيرا في مطار بامكو، والتي تدل على قرب استقبال مزيد من عناصر «فاغنر». كما لوحظت رحلات متكررة لطائرات النقل الروسية إلى المطار نفسه، من دون أن تعطي البلدان المنتقدة تفاصيل عن حجم تلك الامدادات ونوعيتها.
800 ألف مشروع مهاجر
وساهمت المناكفات والتجاذبات بين الأطراف السياسية في إبعاد الأنظار عن المآسي اللاإنسانية التي يتعرض لها يوميا مئات الآلاف من البشر، الآتون من أفريقيا وآسيا. فقد تكاثفت في الآونة الأخيرة، تدفقات المهاجرين غير النظاميين من البلدان المُتاخمة لجنوب ليبيا مُتجهين صوب الساحل المتوسطي، الذي غدا معبرا رئيسيا نحو جنوب أوروبا.
ويُقدر عدد المهاجرين في المدن الساحلية الليبية، الذين يتحينون الفرص للهجرة، بقرابة 800 ألف مشروع مهاجر حاليا. وتؤكد تقارير متواترة تدهور أوضاع الحريات وحقوق الإنسان في ليبيا يوما بعد يوم، وبخاصة أوضاع هؤلاء المهاجرين. وأفاد آخر تقرير أن السلطات الليبية نفذت «مداهمات واعتقالات تعسفية أسفرت عن عدة وفيات، واعتقال الآلاف والعديد من المشردين» في حوادث استهدفت مهاجرين وطالبي لجوء.
وطالب الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش بالتحقيق في آخر اعتداء استهدف مئات الأشخاص الاثنين الماضي، بينما كانوا يُخيمون خارج مركز للايواء في ضاحية قرقارش بالعاصمة طرابلس. وكانت الأمم المتحدة تستخدم المركز لتقديم المساعدة الإنسانية، للاجئين وطالبي اللجوء، قبل إغلاقه بشكل دائم «لأسباب تتعلق بالأمن والسلامة» وفقا لما ذكرته شبكة «سي أن أن» الأمريكية.
وكان المهاجرون يخيمون خارج المركز، احتجاجًا على وضعهم، ويطلبون المساعدة بعد مداهمة السلطات الليبية لمنازلهم. وقالت الأمم المتحدة في تشرين الأول/اكتوبر الماضي إن 3 آلاف شخص كانوا يحتمون خارج هذا المركز.
أما المواطنون الليبيون فيُعانون من الانتهاكات والملاحقات بشكل آخر، إذ أنها تنبني في الغالب على شبهات، وترمي إلى إسكات الأصوات المعارضة والمنتقدة. وتُظهر تقارير عدة، أن قانون مكافحة الإرهاب شكل غطاء لانتهاكات كثيرة.
ويحتوي القانون الحالي لمكافحة الإرهاب الصادر في آذار/مارس 2014 على أحكام غامضة تُستخدم لاعتقال أي فرد بسبب ممارسته حقوقه في حرية التعبير والتجمع وتكوين الجمعيات، أو لقيامه بأية جناية عادية أو حتى جنحة. ويُعزى ذلك إلى التأويل الواسع لمفهوم الإرهاب، إذ أن هذا المفهوم يسمحُ باتهام الأشخاص الذين يتظاهرون أمام المرافق الحكومية أو يقومون بإضراب، بالإرهاب. واستمرت السلطات في العمل بالتشريعات القديمة، التي تتسم في غالبيتها بالتضييق على حرية التعبير، أسوة بقانون المطبوعات رقم 76 لسنة 1972 الذي وضع عراقيل أمام ممارسة حرية الصحافة والنشر. وبصورة عامة يسمح الإطار التشريعي في ليبيا بعقوبات سالبة للحرية في قضايا حرية التعبير، فهو يتضمن عقابا قاسيا يصل إلى الإعدام. كما تمنح القوانين للسلطة التنفيذية وأذرعها الأمنية سلطة واسعة للتنكيل بالأشخاص وإقصائهم، إذا ما تبنوا أفكارا تخالف السائد أو تتعارض مع مرجعية دينية معينة. من هنا تبدو أهمية إجراء انتخابات حرة وشفافة لاختيار قادة جدد، مؤمنين بضرورة إرساء قوانين جديدة تحمي المواطن من استبداد المستبدي.
المصدر: القدس العربي