القراءة ما بعد الحداثية لتعدد الثقافات
مفهوم ما بعد الحداثة يشير مباشرة إلى الحضارة الأميركية المتشكلة من ثقافات متعددة، كما ترادف مصطلح ما بعد الحداثة مع مصطلح العولمة لعدة مسوّغات، أهمها التزامن بينهما. بينما الثقافة الفرنسية لم تكن في حاجة إلى مصطلح ما بعد الحداثة نظراً للمفهوم الذي كانت تعطيه هي للحداثة. فالحداثة، بالمعنى الفرنسي، أي البودليري النيتشوي، كانت ” ما بعد حداثية ” على الدوام، على هذا النحو فالحداثيون الفرنسيون كلهم ما بعد حداثيين، بمعنى أنهم لم يفهموا الحداثة كتوقف عند لحظة لها مقوماتها الثابتة، ومعناه أنهم فهموها كحركة انفصال ما تفتأ تتجدد، ومعناه أيضاً أنهم أقحموا البَعدية داخل حركة التحديث ذاتها، فنظروا إلى ما بعد الحداثة على أنها حداثة الحداثة.
إنّ الاختلاف القائم ما بين الحداثة وما بعد الحداثة، الغربيتين، الذي يجعل ما بعد الحداثة تستبدل مفهوم ” الإجماع ” الحداثي بمفهوم ” خرق الإجماع ” ما بعد الحداثي، يدفع الثقافة الغربية لإتاحة الفرصة لما يسمى ” الثقافات الفرعية ” التي تنتجها أقوام غير أوروبية، وأقليات تعيش في المجتمعات الغربية، أو حتى أفراد يكتبون بلغات الغرب الأساسية، لكي يثبتوا حضورهم في هذه الثقافات.
نحو عقد ثقافي في مرحلة ما بعد الحداثة
تتسبب العولمة، في المجال الثقافي، بحركة مزدوجة ومتناقضة من المجانسة والتشظي، والسؤال هنا هو: كيف نؤكد على مبادئ المشتركات الإنسانية من دون أن ننزلق إلى تأسيس نظام جديد يقوم على هيمنة ثقافة واحدة؟ وهل من الممكن تصور عقد ثقافي بينما شرط الثقافة هو التجاوز المستمر؟ وهل تستطيع الميزة الثقافية أن تؤسس لأخلاقيات الاعتراف بالآخر ولنهج حقيقي لمعرفة متبادلة بين البشر؟
إنّ عقداً ثقافياً ذا طابع إنساني يجب أن يتجنب التعصب من جهة، والانقطاع عن الجذور، من جهة أخرى. ولعلَّ بروز ما يطلق عليه ” المجتمع المدني العالمي ” مصاحباً لنمو وعي كوني يركز على عولمة المشكلات الإنسانية، ويتخطى الحدود التقليدية للدول، ويعبر الجسور بين الثقافات المتنوعة، ما يشير إلى أنّ مفهوماً جديداً كونياً للتقدم تجري الآن صياغته، وتشارك في هذه الصياغة أطراف شتى، محلية وإقليمية وعالمية، بواسطة حوار الثقافات الذي تصاعدت وتيرته في العقد الأخير، حيث تتخذ هذه الصياغة اتجاهات شتى، بل وأصبحت له تطبيقات فعالة.
وهكذا يمكن القول أنّ الإنسانية كلها مشغولة، عبر دروب شتى، في إعادة التفكير في مفهوم التقدم، وإن كانت كل ثقافة إنسانية معاصرة تحاول النبش في جذورها التاريخية للعثور على المعاني الأصلية للفكرة، سعياً وراء الحوار المشترك لصياغة مفهوم كوني لها، بما يتفق مع الطموح المعاصر لعالمية القيم بدون أن يكون في ذلك قضاء علي الخصوصيات الثقافية.
ومن أجل ذلك، فلنجرؤ على توكيد وجود أخلاقيات إنسانية شاملة، هي تلك التي ألهمت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام 1948. فعلى العكس من مزاعم أعداء الحرية والأصوليين من كل حدب وصوب، ليست هذه الأخلاقية نموذجاً غربياً، بل إنها ميزة إنسانية. وهي ميزة كل الشعوب، وكل الأمم، وكل الديانات، لأنه ليس ثمة دين تأسس على إفناء الناس وإلغاء تميّزهم ورفض رؤيتهم للكون والمجتمع. وليس ثمة أي تناقض بين هذه الأخلاق وتنوّع الثقافات، لأنّ احترام هذا التنوّع هو من صلب هذه الإنسانية التي ننادي بها ونتمناها.
إنّ هذا المشترك الإنساني هو موقف فكري وحضاري عميق، يتطلع نحو التصالح والتعايش والاستيعاب والاستفادة من كل المكتسبات الإنسانية التي تقوم على مبادئ متماثلة في جوهرها، ومتحدة في نسقها، وإن اختلفت في طريقة الوصول إليها أو التعبير عنها، كقيم العدل والحرية والتقدم والمساواة والتسامح وحق الحياة الكريمة.
وبذلك سيشهد القرن الواحد والعشرون درجة أكبر من التسامح بين الثقافات، وهو تسامح يقوم على أساس المعرفة والفهم لتلك الثقافات ومبررات وجودها، ومعاني رموزها، والسلوكيات المرتبطة بها، والقيم التي تكمن وراءها. وهو الأمر الذي سيجعل التسامح قيمة من قيم المستقبل، رغم اختلاف النظرة والفكرة والسلوك والمعتقد. وهذا من المؤشرات الهامة على أنّ قيم المستقبل ستكون قيماً إيجابية فاعلة أكثر منها مواقف سلبية انفعالية، حيث سيجري الاهتمام بالمستقبل والنظر إلى الأمام، واحترام قوى التقدم والنجاح والإنجاز أكثر من النظر إلى الوراء وتمجيد الماضي والارتباط به أو الاستكانة والرضا بالأمر الواقع، ومحاولة إيجاد مبررات لقبوله. وإن كان هذا لا يعني التنكّر للتراث الثقافي، وإنما يعني مراجعته وإحياءه من خلال إبراز الجوانب الإيجابية فيه التي تضيف إلى الحضارة الإنسانية.
إنّ حوار الثقافات هو مشروع حياة البشرية ومستقبلها، والمنهج الذي يدفع الشعوب إلى أن تتعاطى مع بعضها بالأسلوب الإنساني الرفيع، القائم على أساس التعارف لا الخصام. والحال أنّ مختلف المنظومات الثقافية العالمية تتحسس الحاجة الموضوعية إلى صياغة وتقنين مقتضيات الكونية، حتى ولو اختلفت، جزئياً، في ضبط معايير ومحددات هذه الكونية. بيد أنّ الاعتراض لا يصل إلى قاعدتها القِيَمِيّة من: تفعيل لحقوق الإنسان، وضمان للحريات العامة، وتكريس لأخلاقيات التسامح، والدفاع عن مبادئ السلم والتضامن الإنساني. وحينذاك يكون حوار الثقافات قد انتقل من كونه طموحاً إلى كونه فرصة تاريخية ومشروعاً إنسانياً وثقافياً يستحق أن يعمل الجميع لأجله.
نقد ما بعد الحداثة
أثارت ما بعد الحداثة، في أطروحاتها وأفكارها، عاصفة من النقد والرفض أتى من مدارس فكرية مختلفة، بعضها مخلص للحداثة وتراثها. فورثة ” مدرسة فرانكفورت ” أصروا على إعادة قراءة الحداثة بوصفها مشروعاً لم يكتمل بعد، كما عبر عن ذلك يورغن هابرماس، الذي انتقد أطروحات ما بعد الحداثة وشكك في حاجتنا إليها، وأكد على أننا لا يمكننا أن ننقض الحداثة ونهدمها، بل أن ننقدها من أجل تجاوزها. وهذا لا يعتبر خروجاً على الحداثة أو نفيا لها، وإنما استمرار لمشروعها الذي لم يكتمل، ولهذا نراه يمدح مفاهيمها الأساسية المتمثلة في العقل والإنسان والتنوير.
أما عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين، الذي خصص للموضوع كتاباً كبيراً مهماً تحت عنوان ” نقد الحداثة “، فإنه لم ينقد الحداثة إلا بعد أن استعرض إنجازاتها الإيجابية في الفصول الأولى من الكتاب وكيفية تشكلها على مدار القرون الأربعة المنصرمة. ولم يثنِ على فلسفة ما بعد الحداثة، إذا كانت تعني الانقلاب على الحداثة وتدمير إنجازاتها الرائعة، وقال بما معناه: نعم للنقد الإيجابي للحداثة، ولكن لا وألف لا للنقد السلبي الهدام الذي يطيح بكل شيء.
ويرى د. هشام شرابي، الأستاذ في جامعة ” جورج تاون ” الأمريكية، أنّ اتجاهي الحداثة وما بعدها خرجا من بوتقة المجتمع الغربي، وقد استنفدت كل معطيات الحداثة، وهم الآن يتحدثون عن ما بعد الحداثة، لكن بالنسبة لنا فنحن العرب، هل في مقدورنا أن نقف وقفة نتساءل فيها عما إذا كان بإمكاننا صياغة حداثتنا الخاصة أو ما بعد حداثتنا الخاصة، وهذا لا يدعو بشكل من الأشكال إلى القطيعة المعرفية مع الغرب.
العرب وما بعد الحداثة وتعدد الثقافات
مهما كان أمر الحركات الفكرية المختلفة، بما فيها حركة ما بعد الحداثة التي قد لا تعنينا كثيراً في العالم العربي، على اعتبار أننا لم ننخرط في عمق الحداثة أصلاً. نحن أحوج ما نكون إلى ترسيخ القيم العقلانية في بلادنا، من أجل محاربة الجهل والتعصب والاستبداد في الرأي وكل القيم القروسطية التي لا تزال تسيطر علينا أو على قطاعات واسعة من مجتمعاتنا، نحن بحاجة إلى الحداثة والتحديث في كل المجالات.
إنّ المشكلة الملحة المطروحة علينا هي نقد الموروث المتراكم المتحجر والعصبيات القديمة المتأصلة في النفوس، لا نقد الحداثة، على عكس ما هو سائد في الغرب. ونحن بحاجة إلى تنمية العقلانية لا تفكيكها، وإلى ترسيخ الحداثة لا نقدها وتشريحها.
إنّ الحاجة ملحة من أجل إعادة النظر في المقوّمات التي انبنى عليها الخطاب العربي قرناً من الزمن، ليس لإعادة التواصل التبعي مع الفكر الغربي، وإنما للنظر فيه بما يمكن أن يساعدنا في تجديد مقولاتنا التي أصابها التقادم. وتبدو الفرصة مؤاتية بشكل كبير مع الفكر ما بعد الحداثي، فكر الاختلاف والتغاير. وتوظيف المقولات ما بعد الحداثية في نقدنا للمشروع الحداثي سيمكّننا، في رأي الدكتور محمد عابد الجابري، من بناء علاقة صحية ومتوازنة مع المشروع الحداثي نفسه.
إنّ فهمنا لما بعد الحداثة ولتحولاتها الاجتماعية سيساعدنا على فهم العصر، واستيعاب الحداثة نفسها التي نلهث وراءها دون اللحاق بها منذ عقود طويلة. والسؤال اليوم ليس في حاجتنا إليها بقدر ما هو عن مدى رغبتنا في تجاوز دور التابع السلبي، والعمل على المشاركة الجدية والفاعلة في هذا العصر فكراً وبناءً.
وانطلاقاً من المعطيات، الموصوفة أعلاه، ثمة أهمية كبرى لصياغة استراتيجية عربية للحوار والشراكة مع الثقافات الأخرى، مما يستدعي القيام بدور نقدي مزدوج: من جهة، الاستيعاب النقدي لفكر الآخر، بمعنى المتابعة الدقيقة للحوار الفكري العميق الذي يدور في مراكز التفكير العالمية، وفي العواصم الثقافية الكبرى. ومن جهة ثانية، النقد الذاتي للأنا العربية، بما يعنيه ذلك من ضرورة أن نمارس النقد الذاتي لممارساتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في عقود مرحلة استقلالاتنا الوطنية على الأقل.
فإذا كان التنوّع العرقي والطائفي والمذهبي هو جزء لا يتجزأ من طبيعة الدولة القومية الحديثة، التي لا تقوم على أسس دينية أو مذهبية وإنما على أساس من المصالح المشتركة المقوننة، فإنّ العالم العربي لم يكن ناجحاً في التعامل مع قضايا التنوّع هذه، وفي كثير من الأحيان أدى الفشل إلى حالات من الحرب الأهلية. مما يؤدي إلى عدة استنتاجات: أولها، أنه لا يجوز إنكار القضية كلها، فالتنوّع والتعدد هو من الحالات الطبيعية، وما لم يتم إدراكها والتعامل معها، أو يتم النظر إليها كنوع من المؤامرات الأجنبية، فإنّ القضية على الأغلب سوف تتحول إلى أزمات سياسية كبرى. وثانيها، أنّ الاعتراف بالتنوّع يعني المعرفة الواسعة بالجماعات المختلفة المكونة للأمة واعتبارها جزءًا من التراث القومي. وثالثها، أنّ وجود المساواة القانونية وحقوق المواطنة شرط ضروري لخلق مناخ للتفاهم بين الجماعات المختلفة، بل وحتى لخلق مناخ للتوافق حول طبيعة النظام السياسي في الأقطار العربية. ورابعها، أنّ الدولة التي تعيش حالة من النمو الاقتصادي والاجتماعي المستدام تكون أكثر استعداداً وقدرة على التعامل مع مشكلات التنوّع، لأنها تخلق هدفاً مشتركاً في تحقيق الرخاء. وخامسها، أنّ الدولة التي تعيش في حالة سلام مع جيرانها، ومع النظام الدولي، تكون في العادة أكثر قدرة على التعامل مع انقساماتها الداخلية، ليس فقط لأنها توفر على نفسها قيام الخصوم الخارجيين استغلال انقساماتها في الصراع، وإنما لأنّ الصراع الخارجي كثيراً ما يكون سبباً في منع التوافق السياسي أو تدميره إذا كان موجوداً. وسادسها، أنّ التنوّع والاختلاف والتعدد والتوافق كلها تعد حالة من حالات الثقافة السياسية غير المعروفة في الدول العربية عموماً، بسبب قصور الفكر القومي في مرحلة والفكر الاشتراكي في مرحلة أخرى، والصراع مع الغرب وإسرائيل في كل المراحل، وكل ذلك يجعل خلق هذه الثقافة ونشرها بوسائل الإعلام والتعليم والتنشئة مسألة ضرورية، للتعامل مع تنوّع العالم من ناحية، والتعامل مع تنوّع الداخل من ناحية أخرى.
إنّ التفكير من داخل المحلي وحده إعادة إنتاج للثقافة دون إبداع وترديد للتراث دون نقد، ومحاولة بلوغ الكوني دون تأمل المحلي تهرّب من مهمة المساهمة في التغيير واكتفاء بترديد الأفكار دون التزام بنشرها في اللغة التي تفهمها الأغلبية ودون ربطها بما تراه الأغلبية قضاياها ومشاكلها. والحداثة النقدية هي التي تقبل هذا الانتماء المزدوج وهذا الجهد المضاعف، المتمثل في تأمل المحلي وسيلة لبلوغ الكوني، وتأمل الكوني وسيلة لإدراك المحلي.
(*) – ملاحظة: تقتضي الأمانة العلمية الإشارة إلى أنّ هذه المقاربة لم يكن من الممكن أن تكون على ما هي عليه إلا بفضل الأعمال القيمة التي سبقتها، إذ أود الإشارة إلى كتابات الأساتذة الأفاضل: جان فرانسوا ليوتار، يورغن هابرماس، آلان تورين، أحمد أبو زيد، برهان غليون، السيد يسين، هاشم صالح، رضوان جودت زيادة، علي حرب، جابر عصفور، هشام شرابي، محمد عابد الجابري.
(**) – محاضرة قُدمت في إطار المؤتمر الثالث والعشرين لـ ” منتدى الفكر المعاصر ” حول ” دور المؤسسات العلمية والمجتمع المدني في الحوار المتعدد الثقافات والتبادل المعرفي الأورو – مغاربي “، بدعوة من ” مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات ” بتونس، في الفترة ما بين 6 – 8 ديسمبر/كانون الأول 2007.