رغم كل التنازلات التي قدمها زعيم تنظيم هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني، والبراغماتية التي اتبعها على مدار السنوات الماضية لتسويق نفسه وتنظيمه كقوة يمكن التفاهم معها، ورغم تنفيذ كل ما نتج عن تفاهمات ومقررات جولات مسار أستانا وسوتشي ميدانيا على الأرض، إلا أن ما جاء في البيان الختامي للجولة السابعة عشر من مسار أستانا لجهة التأكيد على “ضرورة مواصلة التعاون المستمر من أجل القضاء على داعش وجبهة النصرة وجميع الأفراد والمشاريع والكيانات الأخرى المرتبطة بالتنظيمين”، ما يعني أن موضوع “تحرير الشام” ما زال قيد التفاوض والمساومة بين جميع الأطراف، ولا توجد هناك رغبة روسية بإعادة تأهيل الهيئة ورفع صفة الإرهاب عنها.
هذا الأمر يجعل الجولاني في موقف صعب، فهو من ناحية خسر قسما مهما من كوادره السلفية الذين كانوا الأعمدة التي قامت عليها الهيئة، والأدوات التي استخدمها في القضاء على خصومه، دون أن يحقق المكاسب التي يحلم بها سياسيا.
الواقع أن هذا ليس سوى سبب واحد من أسباب تصاعد الانشقاقات المعلنة وغير المعلنة في هيئة تحرير الشام ومؤسساتها الرديفة. فإلى جانب البراغماتية السياسية للجولاني، فإن أسباب أخرى جعلت من الانشقاقات ظاهرة حاضرة بقوة داخلها. فانشقاق قادة وشرعيين ما هو إلا انعكاس للصراع الداخلي بين الحلقة الضيقة المخلصة للجولاني وبين تيارات متشددة ترفض البراغماتية التي ينتهجها الجولاني للتزلف والتقرب من الغرب، وهذه الانشقاقات مرتبطة بمجموعة من التحولات الفكرية والسياسية قامت بها الهيئة، بدءاً من فك الارتباط بتنظيم القاعدة ومن ثم التعاون مع تركيا، وسير الجماعة مشروعها السياسي الحالي، وبالتالي فإن أهم أسباب الانشقاقات:
أولاً- أسباب إيديولوجية بحتة: أعقبت التحول من جبهة النصرة إلى جبهة فتح الشام في شهر تموز من عام 2016، وإعلان فك الارتباط عن تنظيم القاعدة وتشكيل جبهة تحرير الشام بالاندماج مع قوى أخرى متباينة، عدة انشقاقات في الصف الأول للتنظيم، كان أهمها الشرعي الأردني سامي العريدي وسمير حجازي (أبو همام الشامي)، الذين شكلوا فصيل حراس الدين التابع لتنظيم القاعدة.
ثانياً- محاولة الجولاني ابتلاع الفصائل التي تشكلت منها الهيئة بداية عام 2017، واستفراده بجميع القرارات الأمنية والعسكرية أدى لانفصال حركة نور الدين الزنكي، وجيش الأحرار، وجبهة أنصار الدين، وحركة أحرار الشام، التي هاجمتها جبهة فتح الشام، فانشق احتجاجاً على ذلك الشرعيان السعوديان عبد الله المحيسني، ومصلح العلياني في شهر كانون الأول \ ديسمبر 2017.
ثالثاً- موجة انشقاقات ارتبطت بالسماح بإدخال أرتال الجيش التركي إلى المناطق المحررة وترفيقها وحمايتها، بعد أن قاتل الجولاني حركة أحرار الشام بحجة نيتها إدخال الجيش التركي، وكان أبرز المنشقين في هذه المرحلة صاحب مقولة “طلقة في الرأس” أبو يقظان المصري، أبو شعيب المصري.
رابعاً- بسبب التهميش والصراع على النفوذ، انشقت قيادات بارزة ومتشددة كانت رأس الحربة في قتال فصائل الجيش الحر، بدعوى الفساد الإداري والمالي داخل الهيئة، واتهام الجولاني بإهمال الجبهات والانسحاب من المناطق وتسليمها للنظام، كان أبرزهم قائد قطاع حلب المدينة عبد المعين محمد كحال (أبو العبد أشداء)، وجميل زينية (أبو مالك التلي)، اللذين شكلا غرفة عمليات “فاثبتوا”.
خامساً- رغم أنه معروف للجميع أن العلاقة بين هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ هي علاقة تبعية، وفي كل وزارة يوجد مع الوزير مسؤول متابعة من أمراء الهيئة هو صاحب القرار الفعلي، إلا أن البعض كان على ما يبدو غافلاً أو أعمى بصيرة، من أمثال رئيس مجلس الشورى الدكتور بسام صهيوني، ورئيس المحكمة العسكرية عصام الخطيب، اللذين سبقا القاضي محمود عجاج الذي أعلن انشقاقه مؤخراً في صحوة ضمير مفاجئة، معلناً “أن وزارة العدل أصبحت دمية بيد هيئة تحرير الشام، وأن الجولاني انسحب من مناطق أكثر مما حرر”، متهماً إياه بالخيانة “!
لكن عجاج ذهب بتصعيده بعيداً حين قال إن “الجولاني باع المناطق المحررة من معرة النعمان شرقي إدلب إلى عندان شمال حلب، دون أن يرف له جفن، ولم تجد القوى الخارجية من يسايرها من الفصائل في عملية التسليم سوى هذا المجرم الذي باع من المناطق أكثر مما حرر”.
انشقاقات أدت إلى مشكلات داخلية عويصة بالنسبة للجولاني، جعلته يتبع نهج التغيير التدريجي البطيء في جسم التنظيم بحجة “ضرورات المرحلة”، لكن الحقيقة أن دافعها كان الخشية من أن تتشكل مجموعات أكثر تشدداً داخل الهيئة، أو ربما مجموعات أكثر براغماتية تقدم نفسها كبديل للمجتمع الدولي.
كل هذا جعل الجولاني في الفترة الأخيرة يركز، بالإضافة إلى الجانب الأمني، على الجانب الاقتصادي ومحاولة كسب ود رجال المال والأعمال، والتوجه لصنع تحالفات معهم وربط مصالحهم بالهيئة، ما أتاح له وضع أهم عوامل القوة بيده وهما الأمن والاقتصاد، وبالتالي الحفاظ على نواة صلبة متماسكة حوله من أمنيين وشرعيين وإعلاميين واقتصاديين مخلصين ومنتفعين وفاسدين، أبرزهم: مظهر الويس، أبو ماريا القحطاني، الأمني أبو أحمد حدود، أبو عبد الرحمن الزربة المسؤول الاقتصادي للهيئة، زيد عطار، محمد عطون، محمد الأحمد (أبو طه)، والتخلص من جميع القيادات المتشددة أو المزعجة الأخرى.
الجولاني الذي امتطى الجهاديين الأجانب واعتبرهم يوما ما مكونا عسكريا أساسيا في الساحة السورية، يحاول اليوم التخلص منهم كما حصل في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، عند الهجوم على فصيل (جنود الشام) الذي كان يقوده حليف الأمس مسلم الشيشاني، واعتقال وتصفية معظم قادة فصيل حراس الدين، حيث يتهم بالتعاون مع التحالف الدولي الذي استهدف كثيرا منهم، مثل (خالد العاروري الملقب بـ “أبو القسام الأردني”، أبو حمزة اليمني، أبو البراء التونسي، أبو يوسف المغربي، أبو ذر المصري)، وذلك في محاولة إقناع الدول المتدخلة في الشأن السوري بأنه رجل مرحلة قوي يخدم مصالحهم وينفذ أجنداتهم ومقررات توافقاتهم، وقادر على التحكم ببندقية المقاتلين في المنطقة.
يحاول الجولاني الاستفادة من قيام بعض القوى العالمية بالترويج له عبر إعلامها، وإجراء مقابلات وتقارير صحفية تظهره على أنه نموذج جيد لتحول الجهاديين من العنف وتهديد المصالح الغربية إلى القبول بفكرة التعايش مع المجتمع الدولي. إضافة إلى ذلك التصريح اللافت الذي أطلقه المبعوث الخاص السابق لسوريا جيمس جفري، في شهر نيسان من العام المنصرم، بأن الفرع السوري لتنظيم القاعدة “ذخر للاستراتيجية الأميركية في سوريا”، وأن هيئة تحرير الشام “الخيار الأقل سوءاً”.
بعض المؤشرات تنبأ بأن الهيئة، بعد عملية درع الربيع وتفاهمات الخامس من آذار 2020 بين الرئيسين الروسي والتركي حول وقف إطلاق النار في منطقة خفض التصعيد الرابعة، أصبحت أحد أهم أذرع تركيا في هذه المنطقة، وغدت فعليا تحت النفوذ التركي، إلا أن وجهة نظر كثير من المحللين، وأنا منهم، ترى أن هذا التنسيق التركي مع طرف محلي مصنف على لوائح الإرهاب لم يكن ليحصل لولا توافق إقليمي – دولي، يتمثل بأميركا وتركيا، تعهدت من خلاله هيئة تحرير الشام باستئصال كل التنظيمات الراديكالية، والقيادات المتشددة داخل الهيئة.
الجولاني اليوم في امتحان إعادة التعويم والإنتاج من أجل الانخراط في المنظومة الدولية، محاولاً الاستفادة من تجربة حركة طالبان في أفغانستان وتكرارها، وخاصة أن الأرضية موجودة في سوريا لجهة التفاهم الأميركي – التركي بإبقاء منطقة إدلب تحت سيطرة المعارضة، بشرط إنهاء التنظيمات الراديكالية، وعمليا الجولاني يقوم بهذا الدور.
فهل ستنجح الهيئة باستئصال تلك القيادات وتقضي على الجماعات المتشددة، مثل حراس الدين والقوى التي تمثل مشاريع مضادة، وهل بمقدورها تحويل إدلب إلى منطقة آمنة من ناحية خلوها من التنظيمات الإرهابية والراديكالية، وهل ستتمكن من إقناع الولايات المتحدة وتركيا بإزالتها عن القوائم السوداء، على غرار ما فعلته أميركا مع الحزب الإسلامي التركستاني، وبناء الثقة معهما لتكون جزءا من الحل المستقبلي في سوريا؟.
المصدر: تلفزيون سوريا