ربما يتفق قطاع واسع من جمهور ثورة السوريين على أن ثورتهم قد مُنيت بإحباطات كثيرة تتجلّى في المستويين السياسي والميداني العسكري، فضلاً عن التداعيات الاجتماعية والحياتية السلبية على المواطنين السوريين، والمتمثلة بالممارسات التي تسلكها سلطات الأمر الواقع جميعها على الأرض السورية. ولكنهم ربما يتفقون أيضاً، على أن معالم الدمار المادي والبؤس البشري التي راكمها نظام الأسد وحلفاؤه على امتداد عقد مضى، قد حوّلها أنصار الثورة إلى فاتحة عهد جديد يتّسم بالازدهار الفكري والثقافي، إذ حملت الثورة للسوريين فتحاً ثقافياً جديداً مكّنهم من الخروج من حالة الموات المجتمعي إلى حالة من الحراك الفكري الذي أتاح لهم التفكير ضمن مساحات أكبر من الحرية، وبالتالي استطاعوا خلال سنوات مراكمة جهد توعوي و كم معرفي يصلح لأن يكون مُنطلقاً لتأسيس مفاهيم وبناء مشاريع وطنية تُؤسس لمستقبلهم الذي ينشدونه، ولكن ربما كان من الصحيح أيضاً أن جميع أشكال الحراك الثقافي لدى السوريين ما تزال تحوّم عبر فضائها التثاقفي الذي لم يغادر المنتديات و مواقع النشر والمنصات الإعلامية ومراكز البحوث، ولم يتمكّن مجمل المُنتَج الثقافي أن يتحوّل – ولو بنسبة بسيطة – إلى أثر ملموس على مستوى القضايا المجتمعية في الواقع، ويمكن التأكيد على أن حضور أي ندوة أو حلقة نقاش سواء كانت على وسائل التواصل أو عبر اللقاءات المباشرة، تكاد تلحظ مسألتين متناقضتين، تتمثل الأولى بغزارة الطرح المعرفي والتنوع في الرأي، وعمق الحوارات وثرائها الثقافي، وتتمثّل المسألة الثانية في أن هذا المناخ المزدهر لا يتجه – في الغالب الأعم – إلى فضاءات المستقبل، بل يعود تدريجياً إلى الوراء، أي إلى الماضي، بمعنى أن أي فكرة أو مفهوم يُطرح للنقاش والحوار، حتى ولو كان ذا صلة بقضية راهنة أو معاصرة، لا بدّ من العودة به إلى جذره التاريخي، ولو كانت هذه العودة لسبب يقتضيه التأصيل المنهجي لربما كان شأناً مُبرَّراً، ولكن غالباً ما يُلاحظ أنه حتى في حال غياب الجذر التاريخي للمسألة المطروحة في النقاش، فإن ثمة إصراراً لدى قسم من المتحاورين على إيجاد ذلك الجذر، وكأن ثمة كوابح لا تتيح لأي حوار أن يمضي إلى المستقبل دون الانعطاف إلى الماضي، ليس لتجاوزه، بل للضياع في سراديبه والخدر في أبهائه المكتظة بالحروب والنزاعات وروائح المعتقدات والمذاهب وأنهار الدم وجماجم القتلى، وبعد الاستغراق في هذا الاستنقاع التاريخي، تصبح العودة إلى الراهن محفوفة بكل أشكال الحساسيات التي يبعثها الماضي من جديد، مما يدعو إلى التساؤل: ما الذي يجعل انبثاقات الوعي السوري الجديد تتبرعم كثيراً لكنها قلّما تزهر؟ لا تدّعي هذه المقالة حيازتها على أجوبة أو إحاطة كاملة على التساؤل السابق، ولكنها تكتفي بالإشارة إلى بعض الملاحظات المُستَمدَّة من التجارب العيانية المحسوسة مما يجري من حراك ثقافي في الأوساط السورية:
1 – لعل الحضور المعرفي والزاد الثقافي الوافر ليس بالضرورة أن يكون الشرط الكافي لولادة الفكرة الجديدة، وكذلك ليس كافياً في الغالب لتمكين صاحبه من مواجهة مواقف صعبة، وكذلك ليس عاصماً للمرء من اتخاذ مواقف سليمة أو صائبة حيال قضايا محدّدة، إذ ليس من العسير أن نجد شخصيات عديدة وفي مختلف الميادين، يمكن التسليم لها بحيازة قدرات معرفية وثقافية وإبداعية متميّزة، ولكن مواقفها الحياتية والأخلاقية والسياسية تنحاز إلى النقيض الأخلاقي لطبيعة الثقافة في بعدها الإنساني، ولا أدل على ذلك من وجود عديد من المثقفين وأرباب الإبداع من السوريين ينحازون حتى هذه اللحظات إلى جانب نظام الأسد الذي يمارس حرب إبادة على السوريين خلال عشرة أعوام مضت وما يزال، وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى الفروق التي تبديها بعض الفلسفات المعاصرة بين الأفكار المجردة والمعارف الحياتية من جهة، وبين ( آليات التفكير) التي تكشف الكيفية التي يتعاطى من خلالها المرء مع الأفكار والمفاهيم من جهة أخرى، ذلك أن آليات التفكير غالباً ما يسهم في تنشئتها وبلورتها الجانب التربوي بكل معطياته الإيديولوجية والإجتماعية والأخلاقية، وبالتالي تبقى مرتبطة بما هو خارج الإطار المعرفي، بل ربما كانت أقرب إلى ما هو يقيني ( إيديولوجي). ولعله من اليسير الوقوف على أي مشهد حواري أو بحثي بين دائرة ثقافية أو فكرية ما، ويكون محور الحديث هو المسألة الطائفية مثلاً، لنجد أن جميع المتحاورين يتفقون على أن ارتفاع النبرة الطائفية في الخطاب السياسي أو السلوك الاجتماعي إنما هي حالة ارتكاس شديد إلى حواضن ما دون وطنية، كما يتفقون على ضرورة تجاوزها أو التغلب عليها، ولكن عملية التجاوز هذه سرعان ما تخطف جهود معظم المتحاورين إلى تعقّب هذه الظاهرة ( الطائفية ) عبر التاريخ، ليس بهدف تحديد ماهيتها والإحاطة ببواعثها وأسبابها فحسب، بل غالباً ما تتحوّل هذه الخطوة إلى اشتباكات عقدية وفكرية متجددة تطغى على مشكلة الطائفية في تجلياتها الراهنة، ووفقاً لهذا المنحى من التفكير،فإن معالجة المسألة الطافية في سورية تستدعي – حكماً – نقاشاً حادا وطويلاً يستنزف التفكير والوقت حول كيفية تشيّع بني هاشم، وتسنّن بني أمية، واستعراض جميع الحروب بين أنصار علي وأنصار معاوية، ثم لا يلبث أن يمتد الخلاف حدّةً بين أنصار ابن تيمية وابن رشد ….إلخ، وهكذا يصبح التوافق بين المتحاورين على موقف معاصر من المسألة الطائفية مرهوناً بتوافق حول جميع امتدادات هذه المسألة عبر التاريخ. وفي سياق مماثل، يشهد الوسط الثقافي السوري حديثاً عاليَ النبرة حول لغة الدولة في سورية المستقبل، هل ستكون اللغة العربية وحدها، باعتبارها لغة الأكثرية السكانية أم سيكون بجانبها لغات رسمية أخرى لمكوّنات غير عربية، كاللغة الكردية مثلاً؟ إلّا أن سياقات الحوار حول هذه المسألة سرعان ما تتجه إلى مواجهات نقاشية شديدة الوطيس حول الأصول التاريخية لكل من العرب والكورد، وكذلك السياقات التاريخية التي جعلت كلّاً من الطرفين يتموضع في بقعة جغرافية محدّدة، وبالتالي أحقية كلٍّ من الطرفين في فرض شرطه الحضاري والثقافي والسياسي على الآخر، دون النظر إلى التحوّلات التاريخية وما تنتجه من متغيرات ذات صلة بحياة المواطنين ومصالحهم المعيشية ومصائرهم المشتركة ذات الروابط الإنسانية.
لعلّ تحرّر الوعي السوري من كوابح الإرهاب الفكري والثقافي الذي مارسته السلطة الأسدية طيلة عقود، لم يتزامن مع تحرّر الإرادة من كوابح أخرى لا تقل خطراً عن الأولى، ذلك أن الوعي الجديد – كمُنجز ثوري مجتمعي – لا يمكن له أن يبدع دون آليات تفكير جديدة أيضاً، ومفارقة لآليات التفكير المستمدّة من الإيديولوجيات التقليدية بصيغتها العقيمة، وكذلك لا يمكن لهذا الوعي مقاربة قضايا مستقبلية طالما أنه ظلّ أسيراً لنزعة ( ماضوية) لا تملك الأدوات الكافية لمواجهة المستجدات الراهنة والمستقبلية.
مما لا شكّ فيه على الإطلاق، أن المراجعات النقدية والمعرفية للتاريخ – لدى الأمم والشعوب – لا تعني التنصّل منه، أو تغيير أحداثه ووقائعه، وكذلك لا تعني المكوث الأبدي بين تخومه، بل لتحرير إرادتها من سلطاته المعرفية والعقدية والنفسية بحسب الدكتور عبد الله العروي، كي لا يكون عائقاً أمام انطلاقتها نحو المعاصرة والحداثة، ذلك أن مواجهة الإشكاليات الراهنة هي من مهمّة الأحياء وليس الأموات، وبالتالي ، فإن إخفاقات الوعي الجديد في ترجمته لأي منجز ما، إنما هي فشل حاملي هذا الوعي وليس التاريخ السحيق.
المصدر: تلفزيون سوريا