لا يخلو الحديث عن العشيرة في الحالة الأردنية من شعور بالاستغراب والدهشة، بالنظر إلى كمّ المفارقات الكبير الذي يثيره، فالدولة التي يشكل الشباب المتعلم تحت سن الثلاثين أكثر من 70% من سكانها، وبات معظم سكّانها يعيشون في المدن والبيئات الحضرية، وتصطفّ في السياسة منذ تأسيسها ضمن الكتلة الغربية التي تقود العالم على صعيد قيم الحداثة والليبرالية ومفاهيم الفرد والمواطنة، تملك بنىً مفرطةً في العشائرية، تكرّسها أعراف موروثة وتشريعات وقوانين حديثة مكتوبة.
ولعل أكثر مفارقات الحالة الأردنية سطوعا ذلك التباين بين المظهر أو الوجه الحديث والحداثي الذي تظهر الدولة الأردنية، وتحديدا العرش والعائلة الملكية، عليه في المحافل الدولية، وعلى شاشات التلفزة الإعلامية الغربية، في حين يجري تسويق الملكية والعرش الملكي داخل البلاد أنه “حامي العشيرة”، بل أكثر التسميات والصور رواجا للملك الراحل الحسين، والملك الحالي عبدالله الثاني، هي تلك الصور التي تجسّدهما بصورة شيخي العشيرة وحامييها. وفي قائمة المفارقات الأردنية، ليس من قبيل المبالغة أبدا القول إن أم المفارقات المتعلقة بالعشيرة في السياق الأردني هو أنه، وفي حين أدّت التحولات الاقتصادية الاجتماعية في البلاد إلى موت العشيرة وتفكّكها على صعيد القاعدة الاجتماعية، فان العشيرة يجري إحياؤها، وبجهد حثيث ومنظم، على صعيد السياسة والدولة والبنى الفوقية للدولة الأردنية.
منذ سنوات، يجري الحديث في الأردن عن العشيرة، ليعلو حينا ثم يخفُت حينا آخر. وأخيرا، تكثف الحديث عنها لتصبح، في الأيام الأخيرة، المفردة الذهبية الأولى بامتياز. وحيث العشيرة وكلمة العشيرة هي الكلمة الأكثر حضوراً على ألسنة الأردنيين نخبا وعامة وصنّاع قرار. كانت الكلمة وما تزال من الكلمات التي تثير لغطا وخلافا بين الأردنيين، ولا تحظى مطلقا، إنْ على مستوى التعريف والدلالة والفهم والموقف، بأي توافق أو إجماع بين الأردنيين.
تمهيد تاريخي: ولادة المملكة
“لأن الحرب تولد كل شيء” كما يقول أرسطو، فقد كانت الحرب العالمية الأولى وتحالفاتها ونتائجها المخاض الذي أدّى إلى ولادة الكيانات السياسية في المشرق العربي بشكلها الحالي، فمنذ القرن الخامس عشر كان المشرق العربي، وبضمنه الجغرافيا الأردنية الحالية، جزءا طرفيا ضمن النطاق الإمبراطوري العثماني الذي اتخذ من اسطنبول مركزا له. وكان الأردن وفلسطين وسورية ولبنان والعراق وأجزاء واسعة من جزيرة العرب ضمن هذا الحيز الطرفي التابع للمركز العثماني في اسطنبول.
انتهت الحرب العالمية الأولى بتحقيق التحالف البريطاني الفرنسي النصر على التحالف الألماني العثماني في المشرق العربي، وحيث تحالف الهاشميون بزعامة شريف مكة، الشريف حسين، مع البريطانيين، ضمن تفاهماتٍ سمّيت حينها بتفاهمات الحسين -مكماهون تحدّد واجبات طرفي التحالف البريطاني – الهاشمي إبّان الحرب العالمية الأولى. وقد نصّت هذه التفاهمات على أن يلتزم الشريف حسين بقيادة تمرّد ضد الوجود العثماني في المشرق العربي في مقابل التزام التحالف البريطاني الفرنسي بإنشاء مملكة عربية موحّدة في المشرق العربي، تكون العائلة الهاشمية بزعامة الشريف حسين مالكة فيها، فكان أن التزم الشريف بتعهداته، وقاد ثورة كان مركزها الجغرافيا الأردنية، وتحديدا الأجزاء الجنوبية والوسطى منها، وحيث تحالفت عشائر كثيرة مع الحراك الذي يقوده الشريف حسين.
وبدلا من إنشاء مملكة عربية موحدة تضم المشرق العربي كله، كما سبق والتزم البريطانيون، أنشأ البريطانيون خريطة تقسيمية وتفتيتية لللمشرق العربي، وحيث تفاهم البريطانيون مع الفرنسيين على إنشاء كيانات سياسية متعددة تكون جميعها تحت الوصايتين البريطانية والفرنسية. وعليه، كان من نتائج هذه التفاهمات أن بدأ الكيان السياسي الأردني في التشكل. ففي العام 1921 تم تأسيس إمارة شرق الاردن بزعامة الأمير عبدالله نجل الشريف حسين وتحت سلطة الانتداب البريطاني، ليتم إعلان المملكة الأردنية الهاشمية في 1946 .
وفي المخاض الذي عاشته الأراضي الأردنية عشية الحرب العالمية الأولى، كانت العشائر الأردنية في قلب الحراك الذي عاشته مناطق شرق الأردن، كما كانت في قلب السياسة والسياسات التي انتهجها البريطانيون وحليفهم الشريف حسين ومن بعده نجله الأمير عبدالله، فالعشائر التي أعلنت ولاءها للشريف حسين في الحراك ضد الوجود العثماني في المنطقة، باتت هي العصب وهي النواة التي ستشكل الدولة الأردنية الجديدة، وحيث الجيش هو نواة تأسيس الكيان السياسي الجديد على الجغرافيا الأردنية.
في تفكيك مفهوم العشيرة تاريخيا
تظهر العشيرة وينشأ التنظيم القبلي العشائري حينما تكون رابطة الدم هي الرابط الذي يؤمن الاتصال والترابط بين أفراد مجموعةٍ بشرية ما تتشارك علاقة الدم، ويتشابه الدم الذي يسري في عروق أفرادها. فتشارك مجموع من الناس لذات الدم من خلال انحدارهم من الجد المشترك نفسه يكون هو أساس الترابط، كما يكون هو المحفز لمجموع التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية واللغوية والسياسية وحتى الدينية التي ينخرط بها أفراد الجماعة. وقد يكون الجد الذي يتشارك في الانتساب إليه أفراد الجماعة حقيقيّا أو متخيّلا (Real or Fictive)، فعندما يكون عدد من البشر يبلغ تعداده الآلاف أو عشرات الآلاف، وفي حالة مجتمعات شرق أفريقيا، فان تعداد بعض القبائل يتجاوز رقم المليون، فإن الجد الذي يعتقد مليون شخصٍ أنهم ينتسبون إليه، في مجتمعاتٍ لا توثق كتابة تاريخها، وتتناقل بالمشافهة كل تاريخها، فإن هوية الجد الذي ينحدر منه مليون شخص، لا يمكن الجزم بصحته بالمطلق. وعلميا، يكون أقرب إلى الميثولوجيا والأيدولوجيا منه إلى الحقيقة الموضوعية العلمية.
وفي حين يعتقد أفراد العشيرة أن بنية عشيرتهم مغلقة، لأنه لا يمكن إلا لمن يتشارك علاقات الدم مع أفراد العشيرة أن ينتمي إليها، ولأن علاقات الدم هي من معطيات الطبيعة، وليس من صنع الثقافة والمجتمع، فإن حقائق علوم الأنثروبولوجيا تقول إن بنية العشيرة مفتوحة في الواقع الموضوعي، ولكن الناس يعيشون على أيديولوجيا أن العشيرة هي حقيقة بيولوجية، وبالتالي هي بنية مغلقة، فالبحوث الأنثربولوجية الميدانية، ومنها التي أجراها الكاتب في شمال الأردن، بينت أن العشيرة بناء تاريخي مفتوح، بمعنى أن بنية العشيرة كانت تتغير بتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأن سياقات سياسية كثيرة كانت تضيف عددا من الأفراد ممن لا يتشاركون علاقات الدم إلى العشيرة، وليندمجوا مع الوقت مع أفراد العشيرة ويحملون اسمها، وينتجون هوية ونسبا وتاريخا مشتركا ليثبت انتسابهم للعشيرة، وليصبحوا مع الوقت جزءا من العشيرة. وعليه، يثبت الواقع الموضوعي كل يوم أن العشيرة هي بناءٌ تنتجه ممارسات المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإيكولوجية، وليست البيولوجيا، ولكن المجتمع يتمثل العشيرة، ويريد أن يراها ويدركها على أنها من نتاج الدم والبيولوجيا، وأنها بالتالي تمثل روابط صلبة ودائمة وأزلية.
في علوم أنثروبولوجيا السياسة، ثمة سلم أو تصنيف تطوّري وضعه المختصون، يصف تطور المجتمعات سياسيا، ومن حيث نوع البنى الاجتماعية والسياسية فيها، بادئين من المراحل الأولى في التاريخ الإنساني: المجتمعات الأولى التي استمرّت مئات آلاف السنين، والتي كانت تعيش على جمع الثمار وصيد الطرائد، عاش الإنسان فيها من دون دولة، وكان الإنسان فيها عضوا في جماعةٍ اسمها الزمرة، ثم تطوّر الإنسان وتجاوز مجتمعات الزمرة فظهرت القبيلة أو العشيرة تنظيما اجتماعيا واقتصاديا وتقنيا وسياسيا، ثم تطوّرت المجتمعات لتدخل عصر الدولة التي بدأت بالدولة المشيخة، ثم الدولة المدينة، ثم الدولة القومية. بين مجتمعات العشيرة ومجتمعات الدولة، قطعت البشرية رحلة طويلة وشاقّة من التغيرات والتحولات استغرقت أكثر من عشرة آلاف عام من التطور والتعقيد اقتصاديا وتقنيا واجتماعيا ومعرفيا.
في مجتمعات الزمرة والعشيرة، كان التشارك في رابطة الدم هو الذي يحدّد كل الحقوق للشخص وكل الواجبات. الحق في الانتماء للجماعة، والحق في الحماية والحق في التشارك في الطعام، كانت تقتضي كلها أن يكون الشخص يتشارك علاقات الدم نفسها مع الجماعة. أما في مجتمعات الدولة، فقد تجاوزت المجتمعات الإنسانية رابطة الدم لتعتبر أن التشارك في الأرض نفسها أو الإقليم نفسه هو الذي يعطي للفرد كل حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
في مسيرة المجتمعات الإنسانية، تطورت المجتمع الإنساني من مجتمعٍ يبني كل شبكة الحقوق والواجبات على التشارك في علاقات الدم، إلى مجتمعاتٍ بات الانتماء للأرض والتشارك فيها أساس صناعة الحقوق والواجبات، فكانت المدينة في البداية، وعلى صغر مساحتها النموذح الأول للنسق الجديد في صناعة السياسة، وفي تنظيم الحقوق والواجبات، فمن يسكن المدينة نفسها يتساوى مع الآخرين في شبكة الحقوق والواجبات، بغض النظر عن علاقات الدم. وفي العصر الحديث، باتت الدولة بأرضها الواسعة أساس الانتماء وأساس تحديد شبكة الحقوق والواجبات، فبمجرّد أن تتشارك مع ملايين الناس الأرض نفسها التي يقيمون عليها تتشارك معهم شبكة الحقوق والواجبات التي طوّرتها الجماعة لتصنع السياسة فيها.
العشيرة أنتجتها الإيكولوجيا وتعيد إنتاجها السياسة
في التاريخ البعيد كما القريب، كما في الحاضر المعاش، كانت العشيرة بمثابة تنظيم اقتصادي واجتماعي وسياسي ولغوي ومكاني تنتجه ظروف ايكولوجية محدّدة، فضعف الموارد الطبيعية وتناثرها على مساحات شاسعة، مع ضعف القاعدة التكنولوجية، يجعل من رابطة الدم، أو العصبية بلغة ابن خلدون، أساسا لنشوء وحدات اجتماعية كبيرة، تواجه ظروف العيش الصعبة، وندرة الموارد، من خلال الاجتماع والتجمع والتحشيد، وتكون رابطة الدم هي أساس العصبية التي تبني في الجموع والحشود الاحساس بالهوية المشتركة.
نشأت العشيرة في الأصل لتقدّم الوظائف التي صارت الدولة تقدمها لاحقا، حين تحوّلت المجتمعات إلى مجتمعات دولة، ففي الأردن الذي بقي سكانه طوال الفترة العثمانية يعيشون كسكان مناطق طرفية بعيدة عن المركز (اسطنبول)، كانت العشيرة لا الدولة هي التي تقدّم الأمن والحماية لأعضائها، إذ لا وجود لشرطة أو مراكز أمن للدولة تقوم بهذه الوظيفة، فكان على العشيرة أن تقوم بها. وكان على العشيرة أن تؤمّن الطعام والعيش لأعضائها في غياب الدولة، فكانت ملكية العشيرة الأرض الزراعية بصورة جماعية في المجتمعات الفلاحية المستقرّة، وكانت الملكية المشتركة للقطعان وللكلأ والمياه في المجتمعات الرعوية. وكان على العشيرة أن تؤمّن وظيفة فض المنازعات بين الأفراد وتحقيق الضبط الاجتماعي للجماعة في غياب المحاكم التابعة للدولة، ففي الأردن ما قبل الإمارة، كانت العشيرة في البادية تمتلك جسما ماديا، واقتصادا رعويا ماديا، وحيزا مكانيا محددا مرئيا. أما العشيرة في المناطق الفلاحية التي عرفت الاستقرار، في السلط وعمّان وإربد، فقد كانت العشيرة تمتلك أيضا حيزا مكانيا خاصا بها، يتشاركه كل أفراد العشيرة، وكانت القرية تنقسم إلى أحواش خاصة بكل عشيرة. وفي “الحوش” (Courtyar) المنزلي الذي يتجمّع ويسكن فيه كل أفراد العشيرة، كانت الجماعة تتشارك أنشطة التحضير للإنتاج وأنشطة التوزيع والاستهلاك. ففي أربد كانت أحواش التل والرشيدات وغيرها من العشائر تشكّل نواة التنظيم المكاني، وكانت الاحواش تعطي حضورا ماديا للعشيرة.
تحلّل بنية العشيرة وتفكّكها
وبعد الحرب العالمية الأولى وتشكل الخريطة الجديدة في الإقليم، خضعت مناطق شرق الأردن لجملةٍ من العمليات والديناميات الاقتصادية والاجتماعية والحضرية التي أحدثت تحوّلات عميقة في البناء الاجتماعي كانت الدولة محورها. وتسارعت هذه العمليات الحضرية الاقتصادية والاجتماعية في خمسينيات القرن الماضي، نتيجة الهجرات الفلسطينية التي جلبت مئات آلاف السكان من المناطق الفلسطينية الأكثر تحضّرا، كالقدس ونابلس وحيفا ويافا، إلى مناطق شرق الأردن. كما تسارعت عمليات التحضر في الأردن في سبعينات القرن الماضي مع تطور الاقتصاديات النفطية في المنطقة. وبعد أن كان معظم سكان الأردن يعيشون في البادية وفي المناطق الريفية الفلاحية، بات أكثر من 80% من سكان البلاد يعيشون في المراكز المدينية.
كانت نتيجة كل هذه التحولات التي عاشها المجتمع الأردني منذ عقود تأسيس الإمارة، وكان في مقدمتها ظهور مركز قوي هو عمّان، وتطوّر جهاز وذراع دولة قوي، هو الدولة الأردنية، أن فقدت العشيرة معظم وظائفها، وكادت أن تفقد كل وظائفها، فالدولة باتت هي من يوفر الأمن لا العشيرة، والوظيفة والمعيشة باتت توفرهما الدولة لا العشيرة، والتعليم والطبابة، باتت المدرسة الحكومية والمستوصف الطبي يوفرانهما وليس العشيرة، فكان من نتيجة هذه التحوّلات أن فقدت العشيرة وظائفها، وكان من نتيجة هذه التحوّلات أيضا أن تفتت الجسم المادي للعشيرة، فأفراد العشيرة لم يعد لهم حيز فراغي أو مكاني خاص بهم يعيشون به، ويتفاعلون بشكل يومي فيه، ففي البادية ونتيجة عمليات توطين البدو، تم تفتيت الجسم المادي للعشيرة، وفي المناطق الحضرية الريفية، توزع أفراد العشيرة وتشتتوا، ولم تعد القرية أو المدينة تنتظم على أساس على علاقات الدم.
إعادة إحياء العشيرة السياسة والآليات والديناميات
كانت بداية ثمانينات القرن الماضي علامة فارقة على صعيد توجّهات الدولة الأردنية، وعلى صعيد السياسات التي تتبناها العائلة المالكة في البلاد تجاه العشيرة ودورها في المجتمع وفي سياسات إدارة البلاد. في ثمانينيات القرن الماضي، كانت التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية في ذروتها على صعيد تغيير البنى التقليدية الفلاحية – البدوية للمجتمع الأردني باتجاه مجتمعٍ ذي هوية حضرية ومدينية واقتصاد حديث يبتعد عن التشكيلة الاقتصادية الفلاحية الرعوية التقليدية التي سادت في شرق الأردن قرونا طويلة.
في بداية ثمانينيات القرن الماضي، كانت الحادثة التي ما زالت تحتفظ بها ذاكرة أردنيين كثيرين، وتحديدا النخب المثقفة منهم. في تلك الحقبة، وفي خضم التطورات الحضرية والمدينية التي عاشتها البلاد، شهدت الصحافة نقاشا حيا وواسعا عن العشيرة ودورها المعيق في تحديث الحياة العامة في البلاد، وكانت وزيرة الإعلام في حينها ليلى شرف، ذات الجذور اللبنانية وأرملة رئيس الوزراء الأردني الراحل عبد الحميد شرف الذي تلقى تعليما في شبابه في الجامعة الأميركية في بيروت، وتبنى في سني شبابه الفكر القومي العربي.
وفي ذروة النقاش الذي خاضته النخب والذي كان يهاجم البنية العشائرية في المجتمع، كما هاجم القوانين والأعراف العشائرية في البلاد، خرج الملك الحسين حينها، ليحسم النقاش، وليقول جملته الشهيرة أنه لاحظ هجوما على العشيرة من المثقفين في البلاد، وليعلن أن العائلة الهاشمية عشيرة، وأن من يهاجم العشائر الأردنية، فقد “هاجم العائلة المالكة نفسها، وإنه ليس منا”. وفي تلك الحقبة، شعرت وزيرة الإعلام الأردنية، ليلى شرف، أن توجّهاتها التحديثية باتت غير مرحّب بها على صعيد الدولة الأردنية، وعلى صعيد أعلى مستويات القرار، فتنحّت جانبا، وتركت العمل الوزاري.
وفي مواجهة كل هذه التحولات العميقة على صعيد بنية المجتمع ومكوّناته، كان هناك في الدولة من أراد أن يمارس السياسة بالكيفية نفسها التي مارسها بها العثماني أو البريطاني، وهي السياسة التي يصفها ألبرت حوراني ب”سياسات الأعيان” (The Notables)، وتحديدا من أعيان العشائر والبدو. وفي حين كان المجتمع الأردني يميت العشيرة نتيجة تسارع عمليات التحضر، وارتفاع مستويات التعليم، واتساع عمليات التعرّض لوسائل الإعلام وغيرها من العوامل، كان هناك في الدولة من يرى أن العشيرة “مفيدة”، وأنه لا ينبغي لجسم مفيد أن يفنى، فالعشيرة وإن تفتت كجسم مادي، إلا أنه ينبغي إحياؤها فكريا وذهنيا وأيديولوجيا، فتحولت العشيرة من بناء ذات وجود مادي حقيقي مرئي للعين إلى مجموعة من الصور والتمثلات والولاءات الأيديولوجية، واستطرادا العصبيات، وفق التعبير الخلدوني.
ففي الأردن، كان هناك من يمارس سياسة إحياء العشيرة، وإبقائها، واستثمارها. وتوافق على ذلك بعضٌ من مراكز القوى المتنفذة، وبعض أهل المال والاقتصاد وبعض “الأعيان” داخل العشيرة، أو الطامحين ليكونوا من هؤلاء الأعيان. ففي مقابل المجتمع الذي يتطوّر ويبدو متعطّشا للحداثة، كان هناك في الدولة من أصرّ على أن العشيرة لا ينبغي أن تختفي، وحيث جرى تحويل العشيرة والعشائرية إلى أدواتٍ في الحكم والسياسة. ففي السياسة Politics كما في السياسات Policiesيتم إنتاج العشيرة، كما يتم إعادة إنتاجها على الدوام، وبدأب كبير في الأردن، فهناك من يعمل على إعادة إنتاج تلك الثنائية التي تقول إن الاقتصاد والمال والأعمال هي نشاط فلسطيني بامتياز، وحيث يشكل الفلسطينيون والأردنيون من أصول فلسطينية أكثر من نصف سكان المملكة، في حين أن السياسة والدولة والأمن والجيش هي من عمل الشرق أردنيين، أي من أبناء العشائر وصنعهم واهتمامهم.
وفي الأردن هناك في الديوان الملكي مكتب للعشائر، وهناك مستشار للملك لشؤون العشائر. وتلعب التشريعات التي تسنّها الدولة دورا مهما في إعادة إنتاج العشيرة، وحيث يعمل القانون على إيجاد “حالة بدوية” وعلى إنتاج “بدو” من خلال النص القانوني، على الرغم من أن الواقع الموضوعي الاقتصادي الاجتماعي قد أمات البداوة ولم تعد هناك بنية اقتصادية اجتماعية إيكولوجية رعوية أو بدوية في الأردن، ففي التشريعات الأردنية يعرّف القانون بعض السكان بدوا، ويحدّد حصة من المقاعد البرلمانية ينظر إليها على نطاق واسع أنها غير عادلة من المقاعد تخصّص للبدو، وبما يبقي العشائر والبدو موالين للعرش، وبما يبقيهم ضمن دائرة كسب الولاء والشرعية التي تعتمد عليها الملكية في الأردن.
وفي الأردن، كان هناك من يحاول إعادة إنتاج العشيرة من خلال السياسة والتشريعات والقانون الانتخابي وفرز الأردنيين بين بدو وغير بدو، ومن خلال المحاصصات والمنح الجامعية التي تُمنح للعشيرة وأبنائها، والممارسات الخطابية للدولة والإعلام الرسمي التي تمجّد العشيرة. وفي الأردن، كان هناك من يصرّ على إبقاء القضاء العشائري، متوهما أنه يمكن الجمع بين القضاء الحديث الذي يقوم على مبدأ المواطنة والمساواة بين كل المواطنين الإفراد، والقضاء العشائري الذي يقوم على “الفرد الجمعي”، والذي يعيدنا إلى عصور ما قبل الدولة.
ولعل أكثر السياسات طويلة الأمد التي سلكتها الدولة الأردنية على صعيد إحياء العشيرة، تمثّل في تلك السياسات التي تبنّتها الدولة الأردنية، والتي قامت على محاربة العمل السياسي العام، والعمل الحزبي والنقابي، وبصور عنيفة، وحيث كان يتم الزج في السجون من يمارسون النشاط الحزبي، باستثناء ممارسته ضمن حركة الإخوان المسلمين التي بقيت مكاتبها الحزبية تعمل علنا، على الرغم من صدور قوانين عُرفية تحظر العمل الحزبي منذ سنوات خمسينيات القرن الماضي. وفي مقابل محاربة البنى المدنية في المجتمع من أحزاب ونقابات، وبصورة عنيفة وقمعية، كانت الدولة تسمح، بل وتشجّع، بناء المضافات والمجالس العشائرية في المدن الأردنية، وحيث كان بناء المضافة أو المجلس العشائري وجمع التبرعات له لا يتطلب أي موافقاتٍ خطيةٍ من أي من أجهزة الدولة المدنية أو الأمنية. والنتيجة، أنه ومنذ سنوات الثمانينيات من القرن الماضي، انتشرت المضافات أو المجالس العشائرية بصورة كثيفة في المدن والقرى الأردنية وبصورة لافتة، في حين يندر أن يشاهد المرء مقرّا أو مبنى لحزب سياسي أو تنظيم نقابي.
ومن أجل تسويغ السياسات التي تعيد إحياء العشيرة، يتم إنتاج ممارسات خطابية تقول إنه يمكن الجمع بين العشيرة والدولة، وإن العشيرة هي، بشكل أو بآخر، بمثابة حزب سياسي، وإن العشيرة والدولة كائنان يلتقيان ويتكاملان، وحيث تعجز هذه الممارسات أو تلك المقولات عن التفريق بين العشيرة والحزب السياسي، ففي حين تقوم الدولة الحديثة على مفاهيم المواطنة التي تحقّق المساواة في الجوانب الحقوقية بين الأفراد، كما تقوم على مفاهيم التعاقد بين مجموع الأفراد فيما بينهم، وبينهم وبين الدولة، كما تقوم على مفهوم المجتمع المدني، كالأحزاب والنقابات والاتحادات. وكلها فضاءات اجتماعية ومعرفية وسياسية مفتوحة، بمعنى أن لكل المواطنين الحق المتساوي في الانتساب إليها، فإن العشيرة وما ينبثق عنها من مؤسّسات، مثل المضافة أو صندوق العشيرة، هي بناءات مغلقة، إذ لا يستطيع الولوج إليها إلا من كانوا يتشاركون علاقات الدم نفسها، فالمضافة بناء خاص فقط بأبناء العشيرة، وهو مغلقٌ على صعيد العضوية والفاعلية أمام بقية أعضاء العشائر الأخرى، ولا يحقّ إلا لمن امتلك شرط التشارك في الدم نفسه أن يدخل إلى فعاليته. في حين يمثل الحزب السياسي والنقابة فضاءات وبنىً مفتوحة أمام كل من يتشاركون الانتماء للأرض أو الإقليم. وفي حين تمثل العشيرة تجمعا من الأشخاص المتباينين اقتصاديا وتعليميا وفكريا، وكل ما يجمعهم هو رابطة الدم وتلك “العصبية” المنبثقة عنها، فإن الحزب السياسي يمثل مجموعا من الأفراد المواطنين الذي يختلفون في علاقات الدم وفي الدين، ولكنهم يتشاطرون ويتشاركون المشروع الفكري والإيديولوجي والسياسي نفسه لإدارة الدولة والمجتمع، فالعشيرة هي تشارك لعصبية الدم، في حين أن الحزب السياسي هو تشارك للأفكار والرؤى والأيدولوجيا.
المصدر: العربي الجديد