تعود الجذورُ الأولى للحداثة إلى القرن الخامس عشر، عند اكتشاف أميركا وقيام الألماني غوتنبرغ باختراع الآلةِ الطابعة التي قلبتِ الذاكرةَ الإنسانية، ونمتِ الاتجاهاتُ الأيديولوجيةُ والأدبية والعلمية نتيجةَ التبدلِ الذي طرأ على نظم الحياة في أوروبا، وقام المجتمعُ بالخروج عن السلطة الروحية للكنيسة، وتأسستِ الحداثةُ على فكرتين: فكرةِ الثورةِ على التقليد، ومركزيةِ العقل.
بداية ما بعد الحداثة كان في سبعينيات القرن التاسع عشر، ويُعيدُ كثيرٌ من الباحثين نشأةَ المفهوم إلى الفيلسوف الألماني نيتشه الذي نادى بموت الإله (الإنسان المقدس)، وليعلن أنه لا حقيقةَ مطلقة طالما أن هناك اكتشافاتٍ جديدةً خارج سيطرة الإنسان، فتلك الفلسفةُ وقفت ضد كل ما هو عظيم وخاصة مسألة مركزية الإنسان والعقلانية.
نادتِ الحداثةُ بالعقلانية وحرية الإنسان والعلمانية فخضع الإنسان للعقل على حساب مشاعره وقيمِه الإنسانية، وصارتِ العقلانيةُ قهرًا واستلابًا، وفي نهاية الأمر أفرزتِ الحداثةُ حربين عالميتين، فهي لم تطورِ العقليةَ ولم تسهمْ في الحرية التي أرادتها للإنسان ككل، فالحداثيون في الحقيقة أرادوا الحرية للإنسان الأوروبي الأبيض، وسلك الحداثيون مع الأمم الأخرى مسلكَ الغطرسة والتسلط، وفي هذا السياق صفق عظيمُ مفكري الحداثةِ في أوروبا (هيغل-Hegel) لما سمَّاه بانتصار الروح الأوروبية وعودتها إلى مجدها عند احتلال فرنسا للجزائر، وكان توماس جيفرسون Thomas Jefferson -الكاتبُ الرئيسي لإعلان الاستقلال الأمريكي- يهتمُّ إلى حد الهوس بتعليم الناشئةِ في الولايات المتحدة، ويؤكد ضرورةَ تنويرِ عقولهم ونشر العلم لدى الجماهير، من خلال تلقينهم المعلوماتِ والحقائقَ التاريخيةَ , لكن كانت هذه الجماهير تعني بالنسبة له فقط الرجلَ الأبيضَ الأوروبي! وبالتالي يمكن القول إنَّ الحداثة فقدتُ قدرتها على تحرير الإنسان بعد أن أدت دورَها التاريخيَّ في نهضته.
أما ما بعد الحداثةِ فأقامت سياستَها على التشكيك والرفض القاطع للمقولات المركزية التي تعارف عليها الفكرُ الغربي، وظهرت أفكارٌ جديدةٌ لم تكن مطروحة من قبل، مثل تفتيتِ التاريخِ والجنوسة (الجندرة) والنظرياتِ النسوية والنقد الذاتي وما بعد التاريخ وما بعد الاستعمار، والتسوية الشاملة بين جميع الكائنات الإنسية (النساء، الرجال، الفجرة، الشواذ جنسيًّا)، فهو عالمُ المابعديات عالمُ ما بعد التاريخ وما بعد الإنسانية وما بعد الاستشراق. لكن في الواقع، لا ترفض ما بعدَ الحداثة عطاءات الحداثة، بل تُعيدُ إنتاجَها بصورة تتساقط معها مختلفُ التناقضات، وقد رفضتِ النظرياتِ الشاملةَ كالتي جاءت بها الماركسية، وركزتْ على التاريخ المجهري في حياة الناس. جاء مفهومُ ما بعد الحداثةِ بقيمٍ إيجابيةٍ وأخرى سلبية فهي حركةٌ تحرريةٌ من عالم الهيمنة، حاربتْْ ثقافةَ النخبةِ بالثقافة الشعبية، وانتقدتِ الخطاباتِ الاستشراقيةَ ذات الطابع الاستعماري، وآمنت بالاختلاف وتعددِ الهويات، كما أنها أزالتِ التناقضَ بين الجانب العقلي والروحي في الإنسان، وبشّرت بعالم من الانفتاح الواسع، وأسست لمناخ منفتح على الإبداع والتجديد في مجالات الحياة، إلا أنها اعتمدت نظرياتٍ فوضويةً دون أن تقدمَ للإنسان البديلَ العملي، وأصبح من الصعب تطبيقُ تصوراتِ ما بعد الحداثة لغرابتها وشذوذها. ما جاءت به ما بعد الحداثة من شعارات لمحاربة العنصرية وتخليص الإنسان من الاستغلال كانت واهيةً، بل -على العكس- كانت ما بعد الحداثة امتدادًا لبعض أسسِ الحداثة السلبية، فقد حوّلتِ الإنسانَ إلى كائنٍ عبثيٍّ يعيش حياةَ الغربة والتناقض، وفتّتتِ المجتمعات، فالعالم في بدايات القرن العشرين كان منقسمًا بين ماركسي وليبرالي، ولكنا نراه اليوم منقسما بين تيارات داخل المجتمع والعائلة الواحدة، وسادت ثقافة اللا أخلاق واللا مبالاة.
إنَّ الحداثةَ الغربية هَزَّت عالمَنا العربيَّ والإسلاميَّ ودخلت بُيُوتَنا ومدارسنا وشغلت أفكارَنا، وتمثلت في شعاراتنا ونمطِ الإدارة والحكم عندنا، لكن حداثتَنا بقيت نقلًا نظريًا للأفكار، ولم تجر حداثة للعقول، وبقيتِ الفكرةُ التي تسود في أذهاننا حول ذلك الآخرِ الغربي، وبُنيت كلُّ افتراضاتنا في علاقاتنا مع الغرب على قاعدة أن الأوروبيَّ هو العدوُّ والمستعمر والانتهازي والمتسلط، فبقينا نعيش على فتات الحداثةِ وقشورِها، ولم ندركْ حتى الآن أن الحداثةَ ليست أشكالًا وشعاراتٍ، بل هي صيرورةٌ تاريخية واجتماعية وفكرية. في منتصف القرن التاسع عشر، استيقظنا على فارق الإمكانات والآليات والأدوات بين الغرب الأوروبي والمجتمعات العربية والمسلمة، فظهرت تياراتٌ ونخبٌ متعلمةٌ بحثت في أصول النهضةِ والحداثة وعواملها، وعاشت في الغرب حينًا واستفادت من المدارس الغربية، ونقلت أفكارًا تنويرية أفاضت على المجتمعات العربية في إطار “أهلنة” تلك المعارفِ، منهم الشيخ رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني، وقد نقلوا كثيرًا من الأفكار الحداثية إلى الإطار الإسلامي، إلا أنّ ثقافةَ مجتمعنا شغلها التحديث عن الحداثة, وكان هذا ظاهرًا في استخدام التحديث كأداة سياسية كما فعل محمد علي وسلالتُه ومنهجُهم قائم إلى الآن , بينما لم يكتملْ مشروعُ السلطان عبد الحميد على الرغم من نضجه لأن مشروعَ الحداثة لم يكن ثقافةً عامةً في كل المؤسسات الحياتية والدينية منها والتي كانت وما زالت متشظيةً تعيش عالمَ الأوهامِ والانعزال والتصوف والخوف من الآخر!
ما يجب أن نناديَ به اليوم هو عالمُ “ما يلي ما بعد الحداثة ” وهو العودةُ إلى الحالة الجامدة التي وصفها باومان Bauman عندما قال إن الغرب تخلى عنها لتتحولَ مجتمعاته ما بعد الحداثة إلى حالة سائلة!
مواصفاتُ الحالة الجامدة المتماسكة تحتاجُ لإعادة فهمِ الديانات السماوية بشكل يختلف عن المرحلة التي وصفها القاضي عبد الجبار بن أحمد ( 415هـ/ م1024 ) بقوله: “إن النصرانية عندما دخلت روما لم تتنصر روما ، ولكن المسيحية هي التي ترومت” والتي نعيشُ ارتداداتِها إلى اليوم في عالمنا العربي والإسلامي والتي تمثلت في تجميد الحياةِ والفكر ومصادرتِهما لحساب المؤسسةِ الدينية ، مما أدى في المقابل إلى الخروج عنها بعد ذلك -بُعيد سقوط الخلافة- في ردة فعلٍ بالغةِ الانحراف نحو المادية الإغريقية بنزعتها العقلية والإنسانية وتمجيد الفردية وغلبة الطبيعة وقهرها .
إن الدعوةَ لإعادة المفهومِ الكوني الإلهي للواقع والمستقبل يمثلُ انزياحًا في النموذج نحو مستقبلِ العودة للحالة الصلبة للإنسانية جمعاء بتوءمةِ العلمِ والمادة مع تعزيز فرص نجاحنا في المهمة المحور لحياتنا القصيرة على هذا الكوكب ” مهمة الاستخلاف” وإعمار الارض كما أمر خالقُنا.