رغبتنا بمعرفة ما سيحدث لنا بعد قليل أو في السنوات المقبلة تدفعنا إلى الإيمان ببيانات إيجابية عن أنفسنا بل ونأخذها كتنبؤات دقيقة.
قبل نهاية كل عام، تنتشر فوق رفوف المكتبات كتب توقعات قارئي الأبراج والنجوم. وهذه الكتب ينتظرها كثير من الناس ليقتنوها عاماً بعد عام، وتصبح على لائحة الأكثر مبيعاً في العالم العربي منذ أكتوبر (تشرين الأول) العام السابق حتى مارس (آذار) العام الذي يليه، حسب أصحاب دور النشر، الذين يرون في تلك الفترة سوقاً ثابتة سنوياً، تدر عليهم كثيراً من المال والاستثمارات في كتب التنجيم والعرافة.
أصحاب وصاحبات كتب الأبراج والتنجيم والفلك وعلاقة النجوم ببعضها يعودون إلى واجهة الأحداث في وسائل الإعلام على اختلافها في هذه الفترة من السنة، فيستعيدون شهرتهم التي لم تتوقف خلال العام، لكنها تشتد وتبرز في الأشهر الأخيرة والأولى بين العامين الآفل والمقبل.
ويختار الناس بين هؤلاء أو يفضل البعض توقعات هذا أو تلك على توقعات آخرين، أو يختارون هذا العالِم بالغيب في الأمور العامة خلال السنة المقبلة، وآخر في التوقعات التفصيلية، وآخر في توقعات علاقات الأبراج ببعضها، لذا قد تجد أن أحدهم اشترى الكتب كلها الموجودة في السوق، ليختار من بينها ما يجده متوافقاً مع قدرات “منجِّمه” الذي يفضله.
“النوستراداموسيون” وتوقع الأحداث العامة
هناك إلى جانب قارئي الأبراج والتنجيم، العرَّافون وهؤلاء أكثر شهرة من أولئك، فالعراف أو المتنبئ ومستشرف المستقبل ومتوقع الأحداث هو مثل نوستراداموس صغير، تستقبله الشاشات في سهرة رأس السنة تحديداً، وهي السهرة التي ينتظرها كل من لا يمكنهم الخروج للسهر في المطاعم والفنادق والحفلات الطربية، وهؤلاء هم الأكثرية الآن في ظل جائحة كورونا والحجر الصحي المستجد مع “أوميكرون”، وكذلك بسبب الضائقة الاقتصادية العالمية التي تسببت بها الجائحة إضافة إلى جوائح أخرى.
وبعض هؤلاء العرافين، في لبنان، مثل ليلى عبد اللطيف أو ميشال حايك أو مايك فغالي لديهم متابعون على مدى العام، بل وهناك من يراقب تحقق توقعاتهم التي يطلقونها عند ليلة رأس السنة، خلال العام. وفي حال تحقق ما توقع يخرج كثيرون ليطابقوا ما جرى مع ما أعلن عنه هذا العراف، لمزيد من تأكيد أن العرافين كانوا على حق.
ويقال إن العرافين ليسوا كجماعة كتب الأبراج، أي إنهم يستفيدون موسمياً من عملهم هذا، بل يعملون طوال العام لدى كثير من أصحاب المال والسلطة الذين يستشيرونهم في كل شاردة وواردة مقابل مبالغ خيالية.
واستشارة العرافين من قبل السياسيين والأثرياء كانت وما زالت تجري عبر التاريخ ومن أشخاص قد لا يصدق المرء أنهم يؤمنون بمثل هذه الأمور على أساس أنهم متعلمون، ويعملون في مواقع لا تحتمل الخطأ أو انتظار توقعات النجوم. فلو استبعدنا التاريخ القديم الذي كان فيه العراف والمنجم من ضمن الهيكلية الإدارية لسلطات الملوك والسلاطين والأمراء، يستشيرونهم في الحروب والأزمات وفي اتخاذ قرارات يومية حتى.
وفي العصر الحديث كان للعرافين دورهم لدى أصحاب القرار، ومنهم نابليون مثلاً الذي كان يتأبط كتاب نبوءات نوستراداموس أينما ذهب، ومثله هتلر. ويشاع أن تشرشل أيضاً ومن بعده فرنسوا ميتران وكثير من الملوك والملكات كانوا وما زالوا يستشيرون العرافين في أمورهم.
وفي الانتقال إلى بيئات العامة من الناس، فأن تلتقي في أي يوم من السنة شخصاً يسألك عن اسم برجك، بات أمراً طبيعياً، وبات مثل سؤال: ماذا تعمل أو ما جنسيتك؟
يمكن أن يشعر المرء أن هناك أشخاصاً كثراً يبنون علاقاتهم مع الآخرين بحسب أبراجهم، ولو كان هذا البرج لا يتناسب عاطفياً أو مالياً أو عملياً مع البرج الآخر، فإن المؤمن بالأبراج وعوالمها وتفاصيلها يقرر على هذا الأساس أي قرار سيتخذه بخصوص هذا الشخص صاحب البرج الناري أو المائي أو الهوائي أو الترابي.
ويتحول الأمر إلى أبعد من الإيمان بالأبراج وتأثيراتها إلى تركيب الحياة على أساس هذه الأبراج، وكثير من هؤلاء المهتمين والمتابعين والمطلعين على هذه العوالم التنجيمية لديهم معلومات كافية يخبرون بها جليسهم بعلاقة هذا البرج بذاك أو أين ينجح وأين يخفق، وهم يقولون كلامهم بكل جدية واقتناع على الرغم من أن معظمهم أنهى دروسه الجامعية أو يعمل في مجالات لا تقبل البناء على التوقعات، بل على الواقع وشروطه. لكن على الرغم من ذلك تجدهم شديدي الجدية تجاه ما يقولونه أو ما يعتقدونه.
تأثير بارنوم: السبب الذي يجعلنا نؤمن بأبراجنا
لماذا نؤمن بالأبراج إذاً وهي التي لا يوجد أي دليل علمي على صدقيتها؟ كتب دنيس يربكان في موقع بسيكولوجي، حول رأي علم النفس في الإيمان بما يسميه هذا النوع من “الخرافات” أو البدع. واستعرض ما يسمى “تأثير بارنوم”. لكن قبل ذلك بينت دراسته أن أكثر من 90 في المئة من الأميركيين يعرفون علامات نجومهم. وأكثر من 50 في المئة منهم يقرؤون أبراجهم ويؤمنون أيضاً بالنصيحة الواردة فيها.
وتأثير “بارنوم” وهو اسم شخصية وجدت في القرن التاسع عشر وهو نفسه يسمى “تأثير فورير” وهو عالم نفس معاصر وأستاذ جامعي أجرى كثيراً من التجارب على طلابه، هو عبارة عن قراءة للظاهرة النفسية التي تفسر سبب إيمان الأفراد بأوصاف الشخصية المعممة كما لو كانت أوصافاً دقيقة لشخصياتهم الفريدة. وقد وجد فورير أننا نميل إلى الاعتقاد بأن المعلومات العامة المقدمة عن شخصياتنا تخصنا بغض النظر عن قابليتها للتعميم.
واسم بارنوم يأتي من المسلسل الأميركي “بي تي. بارنوم”، وهو حول شخص عاش خلال القرن التاسع عشر واشتهر بعبارة “هناك طفل صغير يولد كل دقيقة”، التي تشير إلى ميل البشر إلى أن يكونوا سطحيين أو سذجاً عبر إسناد أوصاف شاملة عامة على أنفسهم بسبب تاريخ ولادتهم.
وقد عرف بارنوم أيضاً في فيلم The Greatest Showman، إذ يقنع بطل الرواية (الفيلم)، أي “بارنوم”، الناس بأنه يفهمهم بشكل أفضل مما يفهمون أنفسهم.
هذا التأثير بالغ الأهمية في شرح الآليات الكامنة وراء قابليتنا السلوكية لقبول المعتقدات والممارسات الخارقة، مثل الأبراج وقراءة الطالع واختبارات الشخصية عبر الإنترنت، يؤكد أننا جميعاً نقع تحت هذا التأثير في مرحلة ما من حياتنا. وبعضنا يتوقف عن هذا الإيمان في مرحلة ما، وبعضنا يظل واقعاً تحت تأثيرها مدى الحياة.
وقد اكتشف عالم النفس بيرترام فورير تأثير بارنوم باعتباره تحيزاً معرفياً حين أجرى في عام 1948 تجربة حول التحقق من الشخصية. في دراسته، جرى إجراء اختبار على طلابه، وأخبرهم أنه سيتم تقييم كل استطلاع على حدة، وسيتم تزويده بملاحظات عالم النفس فورير نفسه.
وفي النهاية وضع الأستاذ الملاحظات نفسها لكل طالب مع بيانات عامة حول شخصية كل منهم من دون إخبارهم. واستخدم جملاً مثل: أنت تميل إلى انتقاد نفسك. أو أن الأمن هو أحد أهدافك الرئيسة في الحياة، أو أنت تبحث عن الثراء والاستقرار، أو تهمك الحياة العاطفية في المنزل أكثر من شيء آخر… إلخ من جمل عامة قد تنطبق على الجميع حتى لو كانت متناقضة في جوهرها.
وبعد هذا الفحص تبين أن الطلاب وجدوا في توقعات أستاذهم عن شخصياتهم بأنها مصيبة بشكل كامل تقريباً، على الرغم من أنها هي نفسها لكل طالب. واستنتج فورير أن النتائج يمكن أن تُعزى إلى ميلنا إلى أن نكون سطحيين.
في الخلاصة، اكتشف فورير أننا كبشر قليلو الحيلة في هذا العالم والوجود، ورغبتنا بمعرفة ما سيحدث لنا بعد قليل أو في السنوات المقبلة تدفعنا إلى الإيمان ببيانات إيجابية عن أنفسنا، بل ونأخذها كتنبؤات دقيقة، لأن الأوصاف الإيجابية التي ننسبها لأنفسنا تغذي غرورنا، فنحن نحب الصفات الإيجابية والإطراء، لذا نقبلها تلقائياً كحقائق. مثلاً لو قلنا للشخص نفسه جملتين متناقضتين، من قبيل، “أنت مستمع سيئ للغاية، ولا تأخذ الآخرين على محمل الجد عندما تكون لديهم فكرة”، أو جملة “أنت مفكر مستقل يحب التفكير خارج الصندوق عند حل المشكلات”. بالتأكيد فإن جميع قراء هذه المقالة سوف يختارون الجملة الثانية.
الإيجابية مدخل للقبول الاجتماعي
نحن نفضل السمات المرغوبة اجتماعياً، ومن خلال تصوير أنفسنا على أننا نمتلك هذه الخصائص الإيجابية نعمل على الاندماج بشكل أفضل في المجتمع، وأن نصبح جزءاً من الجماعة الاجتماعية. بالتالي يمكننا القول إن كتاب أوصاف الأبراج والعرافين والسحرة والمنجمين هم أسياد فهم علم النفس البشري، وتطبيق مبادئ تأثير بارنوم في تفسيراتهم. فمثلاً لو قال لك قارئ الأبراج “لديك قدر كبير من الطاقة عند التعامل مع المشاكل التي تواجهها في حياتك. ومع ذلك، فأنت لا تعلم بعد بقدرتك. أنصحك بإعطاء بعض الوقت لاكتشاف هذا الجانب من نفسك وسترى ما أعنيه”.
على الرغم من أن هذه الجمل عامة بل ومتناقضة في طياتها، فإن أي قارئ يقرأ المقال الآن سيجدها تعنيه شخصياً. هذا تأثير بارنوم لأنه جرى التعبير عنه عبر هذه الشخصية الموجودة، لكن يمكن وصف أي قارئ أبراج بأنه بارنوم نفسه ولو لم يكن يعرف شيئاً عن بارنوم وتأثيره وعن تجارب عالم النفس فورير وغيره من علماء النفس الذين تناولوا هذا الموضوع. فالمنجم قد يقول ما يقول من دون معرفة مسبقة أو محددة بالشخصية التي يتحدث عنها، لكن طريقة قول الأمر وعرضه لن تبديه فاشلاً أبداً.
وبات تأثير بارنوم يستخدم في منصات التواصل الاجتماعي، التي تخصص معلومات أو عروضاً لمستخدميها وتقدمها لهم بالطريقة التي يريدون رؤيتها. على سبيل المثال يحتوي كل من سبوت في Spotify ونتفليكس Netflix ويوتيوب youtub على قسم “موصى به لك” في صفحاتها الرئيسة، وذلك من خلال مراقبة الخوارزميات لمتابعاتك اليومية في الموسيقى والأفلام والإعلانات والمواضيع التي تفضلها على غيرها.
المصدر: اندبندنت عربية