السقف الذي رسمه النظام والمؤسسة العسكرية يرتكز على رفض العودة إلى الحالة التي أنتجها اتفاق عام 2015
خيبة الأمل التي عبّر عنها حسين شريعتمداري، رئيس تحرير صحيفة “كيهان” الناطقة باسم النظام والسلطة في إيران، تكشف بوضوح اتجاهات المفاوضات النووية التي استضافتها العاصمة النمساوية فيينا، لجهة مؤشرات التنازل الإيراني عن المطالب الأساسية التي وضعتها كشرط للعودة إلى طاولة التفاوض. ويتقدّم ذلك ما يتعلق بالعقوبات الاقتصادية، خصوصاً أن النظام، وقبل عام (نوفمبر 2020)، قطع الطريق على الرئيس السابق حسن روحاني وفريقه المفاوض بقيادة وزير الخارجية محمد جواد ظريف بشأن إمكانية التوصل إلى أي اتفاق مع القوى الدولية في مجموعة “4+1″، عندما أقرّ البرلمان قانون “إلغاء العقوبات الاقتصادية والحفاظ على حقوق إيران النووية”.
شريعتمداري سأل بشكل مباشر وصريح عن الأسباب التي دفعت المفاوض الإيراني ومن ورائه الجهات المقررة في المجلس الأعلى للأمن القومي المعبر عن رؤية المرشد وسياسته إلى تقديم تنازلات في موضوع حجم العقوبات التي ستُرفع عن إيران نتيجة قرار العودة إلى طاولة التفاوض. ويقرر حقيقة واضحة بأن الطرف الإيراني قد وافق على النتائج التي سبق أن توصل إليها الفريق المفاوض بقيادة عباس عراقجي وشكلت الأساس الذي استؤنفت بموجبه المفاوضات الحالية. أي القبول برفع العقوبات المرتبطة بالاتفاق النووي أو ذات الطابع النووي بناء على الطرح الذي تقدّمت به الإدارة الأميركية وتمسكت به كمبدأ للعودة إلى التفاوض بدعم من الترويكا الأوروبية.
أن يتهم شريعتمداري، الرجل الأقرب إلى المرشد الأعلى، وزير خارجية “الحكومة الثورية” الممثلة للتيار المحافظ والسلطة الإسلامي، بالتفريط بالموقف الإيراني، سائلاً إذا كان المطلوب رفض العودة إلى الاتفاق النووي أو أي اتفاق آخر ما لم تقبل واشنطن بإلغاء جميع العقوبات انسجاماً مع الموقف الذي تبنّته مؤسسة السلطة في وجه رؤية فريق روحاني، سواء الاقتصادية ذات العلاقة بالبرنامج النووي أو الاتهامات في قضايا حقوق الإنسان أو تمويل الإرهاب وعدمه وممارسته، وأن تشمل تلك التي صدرت في عهود الرؤساء الأميركيين باراك أوباما ودونالد ترمب وجو بايدن.
الموقف السلبي من المسار الذي ذهبت إليه المفاوضات، خصوصاً بعد قرار الوكالة الإيرانية للطاقة النووية السماح للوكالة الدولية للطاقة الذرية بإعادة تركيب كاميرات مراقبة في منشأة تسا في مدينة كرج (40 كلم غرب طهران)، يكاد يقسّم التيار المحافظ إلى جناحين، الأول يدعو إلى الواقعية أمام حقيقة الآثار السلبية للعقوبات في الأوضاع الاقتصادية، وما أصاب المواطنين من أضرار وتراجع في حياتهم اليومية بشكل ينذر بانفجار قد تصعب معالجته، إضافة إلى واقعية في النظرة إلى مقتضيات التفاوض بما فيها من تنازلات ومساومات لتفادي الوصول إلى حائط مسدود أو الدخول في محذور الحرب التي قد تطيح النظام والسلطة، في مقابل الجناح الثاني الذي يتوزع بين مستفيد من حالة العقوبات وتوظيفها في سياق مصالحه وتحقيق أهدافه الاقتصادية والسياسية، وبين طبقة عسكرية ترى في التشدد والتمسك بالسقوف العالية والتهديد فرصة لتثبيت موقعها في معادلة السلطة من دون شراكة مع الآخرين وعلى حسابهم.
وإذا ما استطاع النظام وفريقه المفاوض تجاوز فخ التلويح بإحالة الملف من جديد إلى مجلس الأمن الدولي، وما يعنيه من إمكانية حصول إجماع دولي على إعادة العقوبات بصفة دولية وملزمة لكل المجتمع الدولي، وإعلان التفاهم مع الوكالة الدولية بشأن منشأة تسا – كرج، خصوصاً بعد البيان الذي أصدرته الترويكا الأوروبية الشريكة في المفاوضات بالتفاهم مع المندوب الأميركي للملف الإيراني روبرت مالي، والاجتماع الذي عقده مجلس الأمن بشأن تطورات الملف النووي الإيراني. إلا أن الجهود الإيرانية لن تقف عند القبول بهذا التنازل، خصوصاً أنها استطاعت أن تفرض على الأطراف المفاوضة القبول بمناقشة الأوراق التي قدمتها حول رؤيتها للخروج بتفاهمات جديدة مكملة للاتفاق النووي وآليات التعامل المستقبلي مع موضوع سلاح العقوبات، خصوصاً ما يتعلق بالضمانات أو التعهدات الأميركية في هذا الشأن وكيفية التحقق من إلغاء هذه العقوبات بما يضمن العودة السريعة للتعاملات المالية والتجارية والاقتصادية بين إيران والأسواق العالمية.
ويمكن القول إن النتيجة التي خرجت بها المرحلة الثانية من الجولة السابعة من المفاوضات، تكمن في قبول الطرفين بوجود إيجابية سمحت بالاتفاق على الجولة الثامنة المقبلة في 27 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، ووجود إرادة لدى الطرفين على جعلها الجولة النهائية وإن كان بأدبيات مختلفة، يشترط الإيرانيون لتحقيق ذلك وجود نيات جدية لدى الأطراف الأخرى، في حين يلوّح الأوروبيون ومعهم الأميركي بالانتقال إلى التشدد إذا لم تُحسم الأمور في الجولة المقبلة.
وفي أجواء الغموض الذي يتسلح به طرفا التفاوض، والذي يبدو أنه الأمر الوحيد الذي تم الاتفاق بشأنه، لا أحد يعرف أو يعلم ما الذي يجري خلف الأبواب الموصدة على المفاوضين، باستثناء طرف واحد غير مشارك عملياً لكنه الأكثر حضوراً في هذه الجلسات، وهو اللاعب الإسرائيلي، الذي في لعبة التهديد التي يمارسها يعقّد الأمور على المفاوض الإيراني، الذي يجد نفسه عالقاً وسط الضغوط الغربية في ظل التصعيد والتهديد الإسرائيليين من جهة، وبين إمكانية اتهامه بالتنازل من قبل المتشددين، خصوصاً المؤسسة العسكرية التي تجد في المواقف الإسرائيلية ذريعة للتمسك برؤيتها وموقفها وفرضها على النظام والشعب ومؤسسات الدولة سواء في الملف النووي أو البرنامج الصاروخي أو الدور الإقليمي، خصوصاً أن المسؤول عن المشروع الإقليمي لإيران، قائد قوة القدس الجنرال إسماعيل قاآني أكد خلال لقاء مع سفراء إيران في دول الجوار، أن القوات المسلحة الإيرانية ستردّ بشكل مدمر على أي خطأ قد ترتكبه إسرائيل.
السقف الذي رسمه النظام والمؤسسة العسكرية للمفاوض الإيراني يرتكز على مسلّمة أساسية، هي رفض العودة إلى الحالة التي أنتجها اتفاق عام 2015، وهو لن يوافق على التخلي عما حققه من تقدم في الأنشطة النووية التي لم تتحقق بسهولة، بل حمّلت النظام وإيران كثيراً من الأثمان المادية والبشرية. وهو يدرك صعوبة الحصول على هذا الهدف في ظل الإصرار الأميركي والأوروبي وحتى الروسي والصيني على رفضه. وإن الاعتراف الدولي بهذا الأمر لا شك سيكون مقابل تنازلات مطلوب منه تقديمها، وهي تنازلات لم تتسرب أي معلومات من خلف الأبواب المغلقة عن طبيعتها وحجمها، وهل سيكون النظام قادراً على تقديمها أو القبول بها، وكيف سيسوغها أمام الرأي العام الداخلي وحلفائه، والتي من المفترض أن تكون مقنعة للاعب الإسرائيلي الرافض بشكل حاسم لأساس الأنشطة النووية الإيرانية.
المصدر: اندبندنت عربية