روزا ياسين حسن، روائية متميزة جداً، قرأنا لها رواية الذين مسهم السحر، وهذه الرواية الثانية.
تصرّ روزا على سلوك الدروب الصعبة في كتابتها، هاهي تدخل عميقا في الواقع السوري، تاريخ الحدث الروائي حوالي ٢٠٠٣م المناخ العام ايام الاحتلال الامريكي للعراق، تعود مع شخصيات رواياتها الى الوراء في الزمن لعقود ماضية.
تبدأ الرواية من عمل “عنات” في السفارة الكندية في دمشق، مترجمة في قسم طلبات اللجوء الى كندا، مع عنات في عملها حيث نطل على مآسي الكثيرين الذين هربوا من بلادهم، وما عاشوه من آلام ومعانات. المطرب العراقي الآشوري، الذي غنى بلغته الكلدانية واعتقاله وتعذيبه، وقصة العذاب الذي يعيشه مكوّن عراقي اصيل، ما جعله يهرب الى سورية ويقدم اللجوء في السفارة الكندية في دمشق، كذلك قصة الشاب من جنوب السودان، اعتقاله من الجيش السوداني وتعذيبه وهروبه وطلبه اللجوء. كذلك الفتاة الكردية العراقية وما لاقته من الصراع الكردي الكردي فيما بينها، وما لاقوه من نظام صدام حسين ومنها مجزرة حلبجة الكيماوية… الخ. هذا هو عمل عنات الذي يشكل ذلها وجعا يوميا يضاف لوجعها الشخصي. عنات فتاة من عائلة علوية تعيش مع والدها في دمشق، والدها ذي الجذور القومية السورية، والدتها المتوفاة بعد صراع مع مرض السرطان، والدتها هي الزوجة الثانية بعد وفاة أختها الزوجة الأولى، كان لعنات اخت من خالتها، كبرت في حضن امها، انتحرت وشكلت ندبة عائلية. عنات تنتمي للفكر اليساري و قريبة من أحزاب يسارية معارضة للنظام مستهدفة من الامن، يعتقل أفرادها تباعا، يزجون في السجون لسنوات طويلة، حبيبها منهم اسمه جواد، من الطائفة الدرزية، كان ناشطا حزبيا، يوزع المناشير والبيانات المنددة بالنظام، اعتقل بكمين و بوشاية من قريبه المتعامل مع الأمن، اعتقل وعذب وتنقل بين سجون مختلفة كان سجن تدمر بسوئه احدها ثم نقل الى سجن صيدنايا وخرج بعد خمسة عشر عاماً من الاعتقال. استمرت عنات على حبها لجواد، رغم انها مرت بكثير من العلاقات الجسدية العابرة، كان أهمها علاقتها مع مسؤول طالبي اللجوء في السفارة الكندية، الذي حاول أن يتزوجها ويأخذها معه الى كندا عندما انتهت خدمته، لكنها رفضت وبقيت تنتظر جواد، تزوجا بعد خروجه رغم صعوبة ذلك لاختلافهم الطائفي، اكتشفا أن الحياة قد تجاوزتهم وان حرارة الحب قد ذهبت، عاش جواد معاناة شديدة وعدم استقرار نفسي واجتماعي وعدم وجود فرصة عمل، لم يستطع الخروج النفسي من السجن وتبعاته عليه، هاجر الى السويد، ترك عنات وهي حامل بالاشهر الاولى، استمر يدعوها لتلتحق به في السويد ليتابعوا حياتهم المشتركة.
الرواية تتابع حياة كل اشخاصها وبالتفاصيل، متغلغلة في عوالمهم النفسية والاجتماعية. تتابع حياة حسن والد عنات الذي كان قد تزوج خالة عنات سمية، كان يحبها كثيرا، أنجبت له ابنته صباح، لكنها توفيت في حادث سير، تزوج من جميلة اختها التي ستنجب عنات بعد ذلك، حسن لم يستوعب موت زوجته السابقة وبقي مخلص لها، جميلة ام عنات، تعاملت صباح ابنة اختها بقسوة مما أدى الى انتحارها وموتها. جميلة تعيش حياة تعيسة غير منسجمة مع زوجها وتنتهي حياتها مريضة بالسرطان وتموت باكرا. يعيش حسن على ذكرى زوجته الاولى، يتابع الافلام الاباحية، ينام كل ليلة على ذكرى زوجته سمية التي يستحضرها بجانبه كل يوم. يستمر حاله هكذا حتى يتعرف على ايزابيل الاسبانية عبر النت معتبرا أن روح سمية حلّت بها حسب اعتقاده بالتقمص. تأتي ايزابيل اليه تعيش معه حوالي الشهر، هي من عمر ابنته، يؤمن أنها زوجته سمية، حضرت بشخص جديد (قميص لذات الروح)، وهي تصمت عن ذلك، المأساة تحصل عندما تقرر ايزابيل العودة إلى إسبانيا بعد رحلة السياحة هذه لتتزوج من صديقها الإسباني، يقرر حسن عرض الزواج عليها، ترفض الزواج منه وترفض ان تعتبر انها سمية الميتة منذ عقود، وتقرر العودة الى إسبانيا، تاركة حسن يعيش فجيعة تؤدي به إلى شلل نصفي.
في الرواية أيضا قصة اصدقاء جواد حبيب عنات الذين اعتقلوا معه وحبيباتهم وزوجاتهم، البعض منهن لم يحتمل طول الفراق وتعب الزيارات ومرارة الشعور بحالة من يحبون، انفصلن عنهم كزوجات عبر طلب طلاق من القاضي وحصلن عليه، وبدأن حياتهن من جديد، والبعض غادرن احبابهم، والبعض استمررن على حبهم ومتابعة اوضاع احبابهم بكل اهتمام حتى الخروج من المعتقل، كالزيارة وغيرها. لكن الخيبة كانت بعد الخروج من السجن وعدم امكانية خلق حياة مشتركة، بين الاحباب او الازواج، لقد اكلت السجون والايام المتتابعة اعمارهم، اصبحوا مشوهين جنسيا ونفسيا، لم يستطيعوا الانسجام، البعض قرر الانفصال والبعض استمر بالعلاقة على برودتها، لكن مع بديل خارج العلاقة بينهم كعشق او مجون او تهتك جنسي، لقد شوه السجن والبعد ذواتهم وجعلهم مغتربين عن بعضهم. البعض لم يحتمل العيش في البلاد، فغادر الى الغرب وبدأ حياة جديدة مثلما حصل مع جواد حبيب عنات.
تنتهي الرواية وعنات في المستشفى تلد طفلها الذي تنتظره بلهفة وحب، كانت قد تركت العمل في السفارة الكندية، لقد تعبت من استماع عذابات الناس الذين يودون الهجرة من بلاد هم وحكوماتهم التي ظلمتهم و اضطهدتهم، تفرغت لوالدها المشلول. غير ذلك كل العلاقات والمسارات الحياتية لشخصيات الرواية على ما هي عليه .
في تحليل الرواية نقول: نحن أمام رواية شفافة جدا، تغوص في عمق الواقع المعاش ونفسيات اشخاصها وتبدلات حياتهم وأفكارهم وسلوكياتهم بدراية وقدرة، لا ممنوع ولا مسكوت عنه في الرواية، تكاد أن تكون رواية العري والعار الاجتماعي العام، الرواية تومئ عبر الحدث والاشخاص الى واقع الظلم والقهر والاستبداد من خلال نتائجه على حياة اشخاصها، تستعرض الدمار الحياتي الذي يسببه ظلم النظام وانعكاسه على حياتهم. لذلك نفهم ماذا يعني أن يكون عنوان الرواية “حارس الهواء” كأنها تقول ساجن الهواء ومانع الحرية التي هي المناخ الطبيعي لوجود حياة انسانية سوية، الرواية انتصار لحق الإنسان بالكرامة والحرية والعدالة والتشاركية السياسية والحياة الأفضل. من خلال استعراض حياة أشخاص تفتقد حياتهم كأفراد وجماعة لكل تلك الحقوق، مسكونين بعقدهم وارتباطاتهم العقدية التقليدية أو الحديثة، التي لم تستطع أن تصنع منهم ومن المجتمع البديل المطلوب، شخصيات شوهها الظلم والقهر وغياب الحقوق. في الرواية أيضا، ضياع الإنسان تحت ظروف الظلم بين غرائزه وميوله وحاجاته، تكاد القيم تكون غائبة، والمعيار الوحيد لأي سلوك هو كونه يلبي غريزة ويحقق رغبة، انهم ضحايا هذه العدمية الحياتية المقيتة. تحت مظلة احتلال للفضاء ولحياة الناس من نظام يهيمن على الناس وحياتهم.