لبنان… الصفقة التي لم تعش 24 ساعة || غوتيريش في بيروت وتكثيف الحضور الدولي لمقابلة نفوذ إيران

وليد شقير

 قد تختصر العبارة التي أطلقها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بعد افتتاحه مباحثاته في الزيارة التي يقوم بها إلى لبنان، بلقاء رئيس الجمهورية ميشال عون، حين قال من القصر الرئاسي، “أحث القادة اللبنانيين على أن يستحقوا شعبهم”، أسباب معاناة الشعب اللبناني من الأزمة السياسية والاقتصادية والمعيشية التي يغرق فيها.

ومع أن كلام غوتيريش لقي اعتراضاً من أحد القادة السياسيين اللبنانيين، هو رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط الذي غرد معلقاً على هذه العبارة بالقول “لكن ليس كل السياسيين يتحملون مسؤولية متساوية”، فإن الأمين العام للأمم المتحدة استكمل التعبير عن التقييم السلبي لأداء السلطة الحاكمة في التعاطي مع المأزق الذي يتعمق يوماً بعد يوم بقوله “لا يحق للقادة اللبنانيين أن يكونوا منقسمين في ظل أزمة خطيرة كهذه”، معتبراً أن “الانقسامات بين القادة السياسيين في لبنان شلت المؤسسات، وهذا ما جعل من المستحيل التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وإطلاق برامج اقتصادية فعّالة وإحلال الظروف الملائمة ليباشر البلد تعافيه”. وكان غوتيريش استبق وصوله برسالة وجهها إلى اللبنانيين قائلاً إن “إيجاد الحلول الدائمة لا يمكن أن يأتي إلا من قلب لبنان”.

تعطيل الحكومة وشروط “الثنائي الشيعي”

ومن المعروف أن اجتماعات مجلس الوزراء اللبناني معطّلة، نتيجة اشتراط “الثنائي الشيعي” أي “حزب الله” و”حركة أمل” التي يتزعمها رئيس البرلمان نبيه بري، الفصل بين ملاحقة الوزراء والنواب في التحقيقات بانفجار مرفأ بيروت وبين صلاحيات المحقق العدلي في القضية، القاضي طارق البيطار، في تأدية عمله وملاحقة المتورطين من الأمنيين والموظفين وغيرهم، وإلا لن يحضر وزراؤهم أي اجتماع حكومي. وأدى ذلك إلى توقف اجتماعات الحكومة منذ 12 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

وامتداد الأزمة طوال هذه المدة في ظل الإلحاح الدولي والداخلي على وجوب اجتماع مجلس الوزراء وتحميل “الثنائي الشيعي” مسؤولية تعطيل السلطة التنفيذية، فتح سجالاً وتبادلاً للاتهامات بين أركان الحكم حول المسؤولية عن هذا التعطيل، تمسك خلاله رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي بمبدأ استقلالية القضاء، مقابل تشبث بري والوزراء الشيعة بتقليص صلاحيات القاضي البيطار بعدما رُفض مطلب إقالته، متهمين إياه بـ”الاستنسابية”. كما فتح استمرار التعطيل، البحث في اقتراحات تسويات ومقايضات في هذه القضية سعى إليها “حزب الله” بعيداً من الأضواء.

استلحاق الانهيار اللبناني

واقتضت اللغة الدبلوماسية إظهار المرارة من مسؤول دولي بارز معني بتقديم المساعدة المالية والإغاثية للبنان على مدى السنتين الماضيتين بالتنسيق مع الدول الكبرى التي تزود منظمته بالأموال من أجل إبقاء اللبنانيين قادرين على مواجهة الظروف المأساوية التي يمرون بها، وأن يستخدم هذا الأسلوب في لوم الطبقة السياسية والحكام. لكن عباراته فُهِمت على أنها أكثر من لوم، بل هي تأنيب على تأخير التجاذبات السياسية لخطة التعافي الاقتصادي.

ويحاول دبلوماسيو الدول الكبرى استلحاق الانهيار اللبناني. وزيارة غوتيريش جاءت في هذا الإطار خصوصاً أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وجه إليه الدعوة ملحاً على مجيئه حين التقاه في 2 نوفمبر (تشرين الثاني) في غلاسكو على هامش قمة المناخ. فالمسؤول الدولي معني بتنسيق المساعدات الإنسانية للبنان، وتنبئه تقارير منظمات الأمم المتحدة المتابِعة ليوميات التدهور السريع في الأحوال المعيشية جراء تمادي الأزمة السياسية وتعطيل عمل الحكومة، بأن استمرار الشلل الحكومي سيتسبب بمزيد من المآسي. وشكّلت تلبيته لدعوة ميقاتي مناسبة لمعاينة الوضع على الأرض والمساهمة مع الدول الكبرى في الضغط على كبار المسؤولين كي يتوصلوا إلى صيغة من أجل اجتماع الحكومة كي تتخذ القرارات المنتظرة لوقف التدهور.

الحضور الدولي مقابل تحويل البلد إلى منصة

لكن ثمة قراءة أخرى لكثافة التحركات الدولية في اتجاه لبنان، مفادها أن الهدف منها هو تأمين مقومات الصمود للبنانيين تحت سقف الإلحاح على تنفيذ هذا البلد التزاماته الدولية، حتى إحداث تغيير في تركيبة السلطة السياسية عبر الانتخابات النيابية في الربيع المقبل ثم إجراء الانتخابات الرئاسية في أكتوبر (تشرين الأول) أي بعد عشرة أشهر. وليس مجافياً للمنطق القول إن غوتيريش الذي يمضي 4 أيام في لبنان، بين بيروت حيث زار موقع انفجار المرفأ في 4 أغسطس (آب) 2020 الكارثي، وطرابلس للاطلاع على مستوى الفقر واستجابة الأمم المتحدة للمساعدة في مواجهة تداعياته، والجنوب لزيارة قوات الأمم المتحدة المرابطة هناك تنفيذاً للقرار الدولي 1701، هي محطة من المحطات الدولية الرامية إلى مقابلة الضغوط التي يتعرض لها لبنان جراء تحوّله إلى منصة للصراعات الإقليمية جراء تعاظم النفوذ الإيراني فيه، بحضور دولي يحول دون غلبة هذا النفوذ. وهذا الاستنتاج يعكسه قول غوتيريش في كلمته أثناء الاجتماع الموسّع الذي عُقد في السراي الحكومي برئاسة ميقاتي وحضور ممثلي كافة منظمات الأمم المتحدة العاملة على الأرض والمعنية بتقديم المساعدات للبنان، والسفراء الأجانب وكل وزراء الحكومة، “إنه وضع مأساوي للغاية يتحمل فيه اللبنانيون بوضوح بعض المسؤوليات، ولكن يجب ألا ننسى أن العديد من المسؤوليات تقع أيضاً خارج لبنان، بسبب الوضع الدراماتيكي للمنطقة وكل تداعياته، وهنا أتذكر الاجتياح الإسرائيلي قبل عدة سنوات، وبالطبع تأثير الأزمة السورية، ثم كل تدخلات القوى الكبيرة والمتوسطة، وفي مرات عديدة تتآمر لتجعل من الصعب على اللبنانيين أن يكونوا قادرين على الالتقاء. الحقيقة هي أن الشعب اللبناني يعاني اليوم بشكل رهيب، وهذا يخلق بطبيعة الحال مسؤولية كبيرة على القادة اللبنانيين للالتقاء”.

أهمية الانتخابات وحملة “حزب الله”

ومن هنا تركيز غوتيريش في لقاءاته على إجراء الانتخابات النيابية في موعدها حيث “يجب أن يكون الشعب اللبناني منخرطاً بشكل كامل في اختيار كيفية تقدّم البلد”. وهو ردد بارتياح الالتزامات التي سمعها من عون وميقاتي و برّي بإجراء الانتخابات في موعدها.

لكن التشديد على أهمية الانتخابات من قبل المجتمع الدولي، قبل زيارة الأمين العام للأمم المتحدة وأثناءها، يأتي في وقت تتصاعد فيه التقديرات بأن معظم القوى السياسية يتمنى ضمناً تأجيلها من دون أن يجرؤ أي منها على المبادرة إلى إعلان ذلك أو المجاهرة به، من جهة، ووسط حملة سياسية مستمرة منذ ثلاثة أشهر من قبل “حزب الله” على السفارة الأميركية في لبنان متهماً إياها بالسعي للتدخل في الحملة الانتخابية بهدف تغيير المعادلة السياسية من خلالها، وبالتالي إضعاف الحزب. وتشمل هذه الحملة إضافة إلى أميركا وسفارتها، منظمات المجتمع المدني التي يعتبر الحزب أنها تتقاضى أموالاً من السفارة وبعض الجهات السياسية التي يتهمها بالتعاون مع بعض الدول العربية لهذا الغرض أيضاً. وقبل أيام قال نائب رئيس المجلس السياسي في الحزب، الشيخ نبيل قاووق، إن المواجهة التي يخوضها هي مع السفارة وليس مع أدواتها. ويعتمد الحزب أمام جمهوره وحلفائه خطاباً تعبوياً يؤكد أنه سيفوز في هذا الاستحقاق وأنه لن يضعف وسيخرج منه مع حلفائه أكثر قوة.

كما أن إيلاء غوتيريش أهمية للانتخابات المقبلة جاء فيما يترقب الوسط السياسي والرأي العام، قرار المجلس الدستوري بشأن الطعن الذي كان تكتل “لبنان القوي” الذي يضم نواب “التيار الوطني الحر”، حزب رئيس الجمهورية الذي يرأسه صهره النائب جبران باسيل، تقدم به معترضاً على تعديلات أقرها البرلمان قبل أكثر من شهر على قانون الانتخاب، حين اعتمد أكثريةً للتصويت عليه تحتسب النواب الأحياء والموجودين (115 نائباً)، لأن هناك 10 نواب مستقيلين و3 توفوا) بدلاً من 128 العدد الأصلي للبرلمان.

كما شمل الطعن رفض إلغاء البرلمان 6 مقاعد إضافية مخصَصة للمغتربين اللبنانيين في أماكن انتشارهم، وتحديد موعد الاقتراع في 27 مارس (آذار) المقبل، وإلغاء مراكز الاقتراع في أماكن السكن (ميغا سنتر).

صفقة التغييرات القضائية مقابل الطعن بالانتخابات

الملفت أن الأيام التي سبقت وصول غوتيريش، الذي حرص على زيارة موقع انفجار مرفأ بيروت ودعا من هناك إلى ضرورة بلوغ الحقيقة في معرفة الأسباب وإطلاع أهالي الضحايا عليها، شهدت محاولات لإجراء مقايضة بين تمرير ما يطالب به “التيار الوطني الحر” في قانون الانتخاب، عبر المجلس الدستوري الذي للثنائي الشيعي نفوذ على بعض أعضائه، مثلما لعون تأثير على أعضاء مسيحيين فيه. وقضى مشروع المقايضة بإبرام صفقة بموافقة المجلس الدستوري على إبقاء المقاعد الستة للمغتربين، وتحديد موعد الانتخابات في مايو (أيار) بدلاً من مارس، مقابل اتخاذ قرار في مجلس الوزراء بإقالة عدد من القضاة هم القاضي البيطار، رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود (ماروني) الذي كان رفض المس بصلاحيات البيطار، المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات، رئيس التفتيش القضائي القاضي بركان سعد والمدعي العام المالي القاضي علي ابراهيم، على أن يتم تعيين بدلاء عنهم من قبل الحكومة يقبلون بحصر ملاحقة الوزراء والنواب الذين أصدر البيطار مذكرات توقيف بحقهم، من قبل المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء والنواب في البرلمان، وفقاً للمادة 70 من الدستور.

ومع أن السعي إلى هذا المخرج قُبيل وأثناء وجود غوتيريش في بيروت، كان ليشكل فضيحة قضائية وسياسية، لأنه يستبق صدور قرار المجلس الدستوري بالنسبة إلى الانتخابات، ويخضِع السلطة القضائية برمتها للقرار السياسي على الرغم من ادعاءات كبار المسؤولين التزامهم استقلالية القضاء، فإن المعلومات التي توافرت عن مشروع الصفقة هذا، أشارت إلى أن مسؤولاً في “حزب الله” سعى إليها بوساطة منه بين عون وبري نظراً إلى تراجع علاقتهما في الآونة الأخيرة. وتردد أن المعاون السياسي للأمين العام للحزب حسين خليل هو الذي تولى طرح هذه الأفكار، مستنداً إلى لقاءاته مع النائب باسيل، ثم أطلع ميقاتي على اتفاقه مع الفريق الرئاسي وبري عليها. لكن تفاصيلها سُرّبت إلى إحدى المحطات التلفزيونية من جهة، وأضاف إليها عون مطلبه بإقالة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، من جهة ثانية، ما ساهم في إفشالها.

ميقاتي غير معني

لم يكن ميقاتي قد أعطى موافقته على هذه الصفقة. وحصل تطور أجهضها حين اجتمع رئيس الحكومة إلى رئيس البرلمان، بعد انتهاء لقائه مع غوتيريش يوم الإثنين 20 ديسمبر (كانون الأول)، وعرضا المعطيات في هذا الشأن، لكن ميقاتي خرج من لقائه مع بري مسرعاً ومتجهماً، واكتفى بالقول رداً على سؤال عن الصفقة: “نحن غير معنيين”. كان ذلك إشارة واضحة لرفضه إياها، واشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بالتكهنات والاستنتاجات، بأن الخلاف بين عون وبري أُضيف إليه خلاف بين الأخير وميقاتي على خلفية رفض رئيس الوزراء توريط حكومته بإقالات تمس السلطة القضائية، في وقت تمسك هو باستقلالية القضاء خلال الشهرين الماضيين. كما أن عين المجتمع الدولي على “تحقيق مستقل وعادل ونزيه من دون تدخل سياسي” كما رددت بيانات وتصريحات الدول الكبرى والأمم المتحدة منذ اندلاع الأزمة بين الثنائي الشيعي والقضاء، حتى تاريخه.

إلا أن أوساطاً سياسية أوضحت لـ “اندبندت عربية” أن لا صحة لمقولة الخلاف بين بري وميقاتي، وأن الأول يرفض في كل الأحوال إقالة رياض سلامة، مثلما يمتنع الثاني عن التجاوب مع الحملة التي يشنها عليه “التيار الوطني الحر” محملاً إياه المسؤولية عن تفاقم الأزمة النقدية والمالية في البلد. فضلاً عن أن قرار إقالته لم يعد مسألة محلية بل بات خارجياً أيضاً.

واعتبرت هذه الأوساط أن السيناريو حول فشل الصفقة قضى بإعلان ميقاتي أن حكومته غير معنية بها على الشكل الذي حصل. أما بري فمع حرصه على مخرج يقلّص صلاحيات القاضي البيطار، فهو ليس متحمساً لصيغة خلفيتها سعي عون إلى الاستئثار بتعيينات قضائية وإدارية تشمل حاكمية مصرف لبنان كي يستفيد منها باسيل انتخابياً، ويرفض أن تشمل الإقالات كل القضاة الذين اقترح “التيار الوطني الحر” تنحيتهم.

وأدت هذه التطورات إلى تنصل الجميع من التسريبات حول الصفقة، فأكدت مصار الرئاسة أنها غير واردة، فيما أشارت أوساط باسيل إلى أن لا صحة للسعي إلى هكذا صفقة متوقعةً صدور موقف عنه ينفي ذلك.

المصدر: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى