يرى الباحثون أن وسائل التواصل الحديثة تفيد أيضاً في الخروج من الأطر والتقاليد الاجتماعية التي تحدد كيفية التواصل بين أفرادها.
لم يعد علم اجتماع الاتصالات التكنولوجية، وهو علم جديد، يطرح سؤالاً عما إذا كانت وسائل الاتصال الحديثة، ولنختصرها بالهاتف المحمول، تبدل في شكل العلاقات الأسرية وبين أفراد العائلة الواحدة وبين الأصدقاء، فهذا السؤال قد تمت الإجابة عنه خلال السنوات العشر الماضية، أي أنه طالما بات غالبية البشر يستخدمون وسائل الاتصال التكنولوجية وباتت جزءاً من حياتهم لا يمكنهم تمرير نهار واحد من دونها، فإنها ستؤثر في شكل العلاقات التي تربط بينهم أفراداً وجماعات بطبيعة الحال.
لكن السؤال الذي بات مطروحاً اليوم، ما هو الاختلاف بين شكل العلاقات الجديدة المعاصرة وما كانت عليه قبل وصول أشكال التواصل الإلكتروني؟ وهل علينا اعتبار هذا التغيير في شكل العلاقات تطوراً إيجابياً في الاجتماع البشري، أم هو تطور سلبي قضى على الحميمية والتقارب واللقاءات والتجمع والتشابك وإلقاء التحية باللمس، وخلخل الروابط الأسرية وباعد بين المقربين، بل وباعد بين الأولاد في المنزل وأهلهم؟.
الاتصال السلبي والاتصال الإيجابي
الصراع بين علماء الاجتماع الذين ركزوا بحوثهم على عالم التواصل الإجتماعي الجديد، ما زال مستمراً بين من يرى أن وسائل التواصل عبر شبكة الإنترنت أو عبر تطبيقات الاتصالات في الهواتف الخلوية سترسو في النهاية على شكل مفيد للمجتمع البشري، إذ إنها تقرب البعيد وكأنه ما زال بين أسرته وأصدقائه وتسهل الأعمال والتعارف، بل وتفتح المجال أمام علاقات جديدة غالبيتها يتحول في النهاية إلى علاقات صداقة أو إلى إرتباط جدي.
ويرى الباحثون أن وسائل التواصل الحديثة تفيد أيضاً في الخروج من الأطر والتقاليد الاجتماعية التي تحدد كيفية التواصل بين أفرادها سواء بحسب المرتبة العائلية (الجد، الأب، الابن) أو الجندرية بين رجل وإمرأة (زوجة، أخت، ابنة)، فبينما تكون هذه العلاقات ذات شكل متفق عليه اجتماعياً في التواصل المباشر، فإن التواصل الحديث أي عن بُعد، يخفف من وطأة هذه القواعد الاجتماعية التي ما زال احترامها إجبارياً في مجتمعات مغلقة أو تحاول بكل قوة الحفاظ على عاداتها القديمة في مواجهة المد التقني الذي يوصل كل زواية في العالم بالأخرى في نفس التوقيت وبسرعة كبيرة وكلفة منخفضة، مقارنة مع وسائل الاتصال القديمة كالتلفون الثابت أو الفاكس أو التليغرام أو البريد العادي.
ويوضح الباحثون المتفائلون أن الراديو والتلفزيون واجها نفس المعركة التي يمر بها الهاتف الخلوي اليوم. وكانا موضع اتهام بأنهما يلهيان العائلة بجميع أفرادها عن حياتهم الأسرية السليمة وتقاربهم، وأنها تنقل إليهم أفكاراً غريبة غالباً ما تكون مخالفة لثقافة المجتمعات الضيقة والمنغلقة أو المحافظة.
ومع مرور الزمن تحول الراديو والتلفزيون تحديداً إلى المركز الذي تتجمع حوله الأسرة للاستماع أو المشاهدة، وصار موقعهما في غرفة المعيشة أو الصالون، حيث يتسع المكان للجميع.
وبرأي هؤلاء العلماء أن هذا ما سيحدث مع الهاتف المحمول الذي بات اليوم آلة تواصل كاملة متكاملة تغني عن الكاميرا والتلفزيون والبريد واللقاء المباشر، وتغني عن الكمبيوتر نفسه وعن مئات الزيارات إلى الدوائر الرسمية لدفع الضرائب أو لتحويل الأموال، وغير ذلك من الأعمال الإدارية والمجاملات الاجتماعية التي بات بالإمكان إنهاؤها فوراً من أي مكان… ويشيرون إلى أمثلة عن مجتمعات بأكملها تقيم روابطها على شبكات الاتصال الحديثة مثل الأمهات الفيليبينيات أو الحبشيات أو السيريلانكيات والنيباليات والبنغاليات اللواتي يسافرن من أجل العمل وتأمين المال والتعليم والقوت لأولادهن الذين يتركنهم في بلداهن.
فتقوم الحميمية العائلية هنا على تأمين الرعاية من قبل الأم وتواصلها الدائم مع أولادها عبر الفيديو أو الاتصال، فيما يقدم لها أولادها شوقهم وانتظارهم لها. ففي هذه الحال تسهم وسائل الاتصال في تقوية الحميمة العائلية لا تدميرها.
المتشائمون
علماء الاجتماع المتشائمون يملكون أيضاً حججهم القوية على مدى السوء الذي ألحقته وسائل الاتصال الجديدة بنمط العلاقات الإنسانية التقليدي، أي ذاك القائم على المشاركة المباشرة والتواصل وجهاً لوجه المرتبط بالعواطف المتبادلة.
ويعتبر العلماء والباحثون أن وسائل الاتصال الحديثة، ولنختصرها بالهاتف الخليوي، يقتل الحميمية الأصلية التي ينشدها البشر في اجتماعهم، قتلاً واضحاً. فالبشر منذ تحولهم إلى جماعات تعيش مع بعضها بعضاً، كانوا يبتغون تبادل المساعدة والحماية والإنتاج وتبادل البضائع والتواصل وتبادل الأفكار وبث العواطف الإنسانية، وهذا في صلب تكوينهم الاجتماعي والسياسي والثقافي، والتواصل المباشر برأي هؤلاء هو ما يميز الإنسان عن سائر الكائنات، فالإنسان كائن ناطق ومفكر واجتماعي أيضاً. وبرأي المتشائمين، أن التأثير الضار لهذه الوسائل لن يكون على الأجيال التي عاشت في مرحلة ما قبل الهاتف المحمول وما بعده، فهؤلاء يعرفون نمط العلاقات القديمة وتربوا وترعرعوا على أسسه، فجاء الهاتف المحمول ليضاعف من تواصلهم الاجتماعي مع الآخرين من الأقارب أو الأصدقاء أو زملاء العمل أو الأصدقاء الذين يتعارفون أساساً عبر تطبيقات هذا الهاتف المحمول، ولكن التأثير الضار والكبير جداً سيكون على الأجيال الجديدة التي ولدت في عالم الاتصال الجديد، فهؤلاء يعرفون العلاقات القديمة أو زيارة الأهل أو الأقارب والجدات والعمات والخالات والأصدقاء القدامى كما لو أنها قصص قديمة ترويها الجدات كانت تحدث في أزمان غابرة ليست بعيدة عن زمن ركوب الأحصنة مثلاً.
المثال الساطع على هذا الوضع هو أن الأهل باتوا يعطون أولادهم الأجهزة الإلكترونية ليبعدوهم عنهم لبعض الوقت لينصرفوا بدورهم إلى مشاغلهم الكثيرة أو إلى تساليهم عبر هواتفهم المحمولة أيضاً. وباتت العائلة المجتمعة في غرفة واحدة جسدياً يعيش أفرادها كل في عالمه الذي فتحه له الإنترنت والاتصالات على أشكالها، عالم واسع يكاد يطغى في واقعيته على الواقع نفسه، أولاً في المدة التي يمضيها الولد في داخله، ومن ثم عالم الألعاب أو الأصدقاء أو المجموعات أو العلاقات الناشئة داخل هذا العالم، الذي قد لا يعرف الأهل أنفسهم ماذا يفعل أولادهم داخله.
والأهل الذي فطنوا لمثل هذا التلاشي في أواصر العلاقة مع أبنائهم بسبب وسائل الاتصال الجديدة، لم يتمكنوا من إعادة أولادهم إلى الحياة الواقعية الأسرية التقليدية، فعند انتباههم كان قد فات الأوان، وبدا وكأن استعادة الأبناء من عوالم الاتصالات الجديدة يحتاج جهداً كبيراً، وربما يؤدي إلى توتر أكبر في علاقة الأهل بأبنائهم في ما لو تم إجبارهم على التخلي عن آلاتهم، بل ونشأت عيادات لأطباء نفسيين حول العالم بات اختصاصهم المحدد معالجة المدمنين على وسائل التواصل، الذين أدى بهم إدمانهم إلى الإصابة بالاكتئاب، الحالة النفسية الأكثر انتشاراً بين المراهقين حول العالم من بين مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، ويليه حالة القلق ومن ثم قلة الثقة بالنفس بسبب إجراء المقارنة الدائمة مع الآخرين من أصدقاء وسائل التواصل الاجتماعي في نمط العيش، أو في القدرة على جذب متابعين أكثر أو في تعبيرهم عن حياة سعيدة ورغيدة.
وفي النهاية يأتي مرض الفصام الحاد، الذي يصيب غالبية المراهقين الذين يحاولون إظهار حياتهم وشخصياتهم عبر وسائل التواصل غير ما هي عليه في الحقيقة، فيقعون هم أنفسهم في المصيدة التي صنعوها ويصعب الخروج منها، ما يدفع كثر منهم إلى الانتحار.
وظاهرة انتحار المراهقين المكتئبين باتت مشهودة في دول كثيرة على رأسها الولايات المتحدة الأميركية ومن ثم المملكة المتحدة ومن بعدها اليابان والصين وتايوان وكوريا الجنوبية.
تعريف العلاقة الاجتماعية الحميمة
أعطيت العلاقات الشخصية الوثيقة مكانة مركزية في الحسابات الاجتماعية في أوائل القرن العشرين لتأسيس بناء اجتماعي للذات والعوالم الاجتماعية المحيطة والربط بينهما.
وبحسب أبحاث الفينومينولوجيا التي قام بها شوتز (1932) وبالاعتماد على نتائج التحليل النفسي، فإن الحميميين المقربين عاطفياً وجسدياً يشكلون أنفسهم في مرحلة الطفولة ويتخذون من البالغين مثلاً في عوالمهم الاجتماعية.
وفي وصفه للجدلية بين الفاعلية الفردية والبنية الاجتماعية أعاد جيدينز (1984) التأكيد على أهمية المقربين، لا سيما العلاقات بين الوالدين والطفل لتعزيز التوجيه الذاتي للثقة، وتناول أهمية هذه الثقة الطفولية وتأثيرها العميق في استمرارية النظام في العالم للحفاظ على النظام الاجتماعي بشكل جماعي من قبل أفراد ترعرعوا على علاقات حميمية متينة وسليمة مع أهلهم وأقاربهم ومحيطهم. وأعاد عمله اللاحق (1991) التأكيد على أهمية هذا الشعور بالأمن النفسي الذي يحمي الفرد من القلق المستمر والشعور بالفوضى.
على النقيض من ذلك، فإن بعض الكتابات النظرية الحديثة تقلل من دور المقربين في بناء أنفسنا والعوالم الاجتماعية. تبرز نقطة رئيسة لمثل هذا الانطلاق من فلسفة ميشيل فوكو، فعلى الرغم من اعترافه بأهمية العلاقات الأسرية لتشكيل الذات الاجتماعية إلا أنه بعد تحليله علاقة الأفراد بالسلطة ومصادر المعرفة والمعلومات، استنتج أن الذات الفردية تتشكل بعمق من خلال الخطاب الذي تتلقاه من المجتمع العام أكثر مما تتاثر بالعلاقات الشخصية.
برأي أستاذة علم الاجتماع في جامعة أندبرة الأميركية لين جيميسون في بحثها “العلاقات الشخصية والحميمية والذات في عصر رقم كوني” أن العلاقات الحميمة أساسية في كل المجتمعات البشرية لتطور السيرة الذاتية للطفل وشعوره بالأمان الاجتماعي، ومن خلال نوع هذه الحميمية يمكن فهم التغيير الاجتماعي في عصر “العولمة”.
ويمكن فهم تأثير هذه العولمة على العلاقات الاجتماعية بين الأفراد في ما بينهم وبين الجماعات، ومنها يمكن فهم مدى الضرر أو الفائدة الذي تحققهما وسائل التواصل والاتصال على نمط العلاقات الاجتماعية، فحيث يرتفع منسوب الحميمية يكون التواصل عبر الوسائل التقنية الحديثة مقبولاً ومفيداً، وحين يؤدي إلى فقدان هذه الحميمية فإنه لا بد سيؤدي إلى مشكلات في التواصل والتفاهم وتبادل العواطف والأفكار بين الأجيال المختلفة.
المصدر: اندبندنت عربية