لعله من النافل التأكيد على ألّا صلاحية لمنطق الثبات والاستقرار في علاقات الدول والكيانات البشرية ذات الأطر السيادية المستقلة بين بعضها البعض، بل لعلّ سمة التغيّر وعدم الركون إلى منطق (النمطية في العلاقات ) بات من أبرز ملامح النهج البراغماتي الذي ينبثق من صميم ( المصالح ) وليس من معين ( القيم)، ولكن هذه المسلمة، وعلى الرغم من كثرة تداولها بين السوريين إلى درجة الابتذال، إلّا أن تجلياتها المباشرة في الوعي السياسي لدى ( النخب السورية) ما تزال غائبة، إذ يمكن للمرء أن يلاحظ بيسر ووضوح ردّات الفعل غير المتوازنة لدى أغلب شرائح الحراك السياسي السوري حيال أية انعطافة أو تبدّل طارئ في العلاقات بين طرفين إقليمين أو دوليين، إنطلاقاً من حسابات تأخذ بعين الاعتبار مدى ارتدادات هذا التبدّل في علاقات الدول على القضية السورية، ولا غرابة أو ضير في ذلك، لو بقيت تلك الحسابات وردّات الفعل منبثقة من المصلحة الوطنية السورية وليس من ولاءات أو ارتهانات سابقة لجهات إقليمية أو دولية، فالسياسة الناجحة، سواء لدى الأفراد أو الكيانات السياسية أو الدول إنما تتجلّى ليس في القدرة على التمسّك بالثوابت والمصالح الوطنية فحسب، بل بالقدرة والبراعة على إدارة تلك المصالح في اللحظات العاصفة والحافلة بالمتغيرات وتبدّل المواقف الدولية أيضاً. ربما كانت أبرز علائم البؤس السياسي لدى الكثير من الواجهات السياسية السورية إنما تنبع من اعتقادهم بأن قضيتنا هي مركز الكون، وهي المعيار الناظم للعلاقات بين الأطراف الخارجية، وربما قاد هذا الاعتقاد الكثيرين إلى الارتماء أو الارتهان لدى ضفّة إقليمية أو دولية ما، وإلقاء جميع الأحمال في تلك الضفة، للظن بأن هذه الضفة هي شرفة الخلاص الوحيدة، وربما – مع استمراء هذا الوهم تدريجياً – يصبح الخطأ أكثر فداحةً، حين يتخيل البعض أن الضفة التي ركن إليها باتت بديلاً عن بلده ، وقضيتها باتت أهم من قضيته، وهكذا تتحوّل قضيته (الأم) إلى مجرّد ملفٍّ مُلحَق ومقرون بولائه وتبعيته للآخر وليست متجذّرة في وعيه وفكره وسلوكه.
علينا – كسوريين – ألّا ننسى أن عقداً من الزمن قد انسلخ من عمر ثورتنا، وأن هذا العقد الفائت كان مليئاً بالمتغيرات والفرص وتبدّل التموضعات والاصطفافات، وذلك وفقاً لما تمليه مصلحة كل طرف، ولكن الطرف الوحيد الذي واظب على سكونيته ونمطية عمله هو المعارضة السورية الرسمية بمشتقاتها المختلفة، فالإئتلاف على سبيل المثال، منذ تأسيسه عام 2012 وحتى الآن لم يُجر أي تغيير يمسّ بنيته، لا على المستوى التنظيمي والإداري، ولا على مستوى طريقة أو آليات عمله، ولا على مستوى ولاءاته أو ارتباطاته الإقليمية والدولية، بل إن استمراء حالة الاستنقاع من جانب القائمين عليه، جعلت منه كياناً معزولاً عن الحاضنة السورية، بل ربما انزاح دوره شيئاً فشيئاً من الحيّز القيادي الثوري إلى الحيّز الوظيفي.
لئن كان من الصحيح أن جانباً كبيراً من عقدة القضية السورية يعود إلى مسألة تدويلها، وتغلغل الأطراف الخارجية – عسكريا وسياسياً – في مفاصلها، إلّا أن الردّ الأمثل على مواجهة هذه الحالة، أو مقاومتها، هو العمل والسعي من أجل إعادة القضية السورية إلى أهلها السوريين، وليس المساهمة في ترحيلها إلى الخارج، ولكن واقع الحال يؤكّد أن نهج التسويق الخارجي للقضية بات هو الميدان الذي يتسابق إليه، الكثيرون، ويتبارى فيه من يدّعون امتلاك علاقات مميّزة مع الجهات الدولية، إلى درجة توحي للعالم بأن قضية السوريين قد تمّ اختزالها بحقيبة أوراق، يمكن حملها والتطواف بها على أبواب العواصم والسفارات، وربما يبرر البعض هذا المسعى بالزعم أن الدول الكبرى هي من بات يتحكم بمفاصل الصراع في سورية، وبالتالي فإن هذه الدول هي من يمتلك الحلول، ولئن بدا هذا الكلام صحيحاً في جانب منه، إلّا أن صحّته تبقى نسبية، أو منقوصة، لأنه يقصي السوريين – أصحاب القضية – ويجرّدهم من ممارسة أي فاعلية حيال قضيتهم، بل يمكن التأكيد على أن الدور الدولي مهما كان متجذّراً وذا ثقل، فإن الدور الحاسم يبقى مرهوناً بما يبادر به السوريون أنفسهم، وهذا ما يدعو البعض إلى الجهر بتساؤل شديد النبرة: إذا كان حل القضية السورية مرهوناً بتوافق عدة أطراف دولية وإقليمية، أليس من حق السوريين أن يكونوا طرفاً في الحل على الأقل؟
تنطوي الإجابة على السؤال السابق إقراراً بضرورة استعادة المبادرة الوطنية من جانب السوريين، إلّا أنه يجب الإقرار من جهة أخرى، بأن استعادة المبادرة الوطنية ليست بالأمر الميسور، وخاصة في ضوء توغّل النفوذ الخارجي وتحكّمه في مفاصل الجغرافية السورية من جهة، وكذلك في ضوء تشبّث المعارضة الرسمية بهياكلها المهترئة وإصرارها على الاستمرار في تأدية دورها الوظيفي بكل رتابة وانصياع من جهة أخرى، ولكن مواجهة الكوابح الدولية والمحليّة في استعادة زمام المبادرة توجب على السوريين جميعاً التفكير باستمرار لابتداع وسائل وآليات نضالية متجدّدة ، وعدم الركون إلى استراتيجيات فقدت مفعولها، وفي هذا السياق، لا يمكن لنا تجاهل العديد من الأفكار والرؤى والتصورات التي صدرت عن العديد من المثقفين والكتاب السوريين، والتي تندرج مضامينها مع هذا المنحى، منها على سبيل المثال لا الحصر، مجموعة من المقالات للدكتور (مضر الدبس) كان قد نشرها تباعاً في صحيفة العربي الجديد، إذ تتمحور مضامين المقالات المذكورة حول فكرة ( تأميم السياسة) أي استرداد المواطن السوري العادي لحقه في المشاركة في صياغة مصيره بعيداً عن المعارضات التي فشلت في تحقيق أي مُنجز يوازي الحدّ الأدنى من تطلعات السوريين، وعلى الرغم ممّا يمكن أن يُؤخذ على هذا الطرح من ملاحظات، ولعل أبرزها هو التركيز على المحتوى النظري والابتعاد عن الآليات والوسائل العملية، إلّا أن هذا المأخذ لا يُنقص من جوهريتها، إذ يمكن استكمال الجهود بمشاركة عدد من الفعاليات السياسية والفكرية والشخصية لإنضاج هكذا رؤى أو أفكار.
ثمّة مساحات خصبة، يتردّد السوريون عن الحرث بها، ولعل إحدى تلك المساحات هي ميدان التفاعل المشترك بين المثقفين ومنتجي الأفكار من جهة، والكيانات السياسية كالأحزاب والتيارات والتجمعات من جهة أخرى، إذ ما تزال معظم الأحزاب والقوى السورية، سواء التقليدية منها أو التي نشأت بعد انطلاقة الثورة، تُحجِم عن الاستفادة من أي منجز فكري أو ثقافي أو سياسي يأتي من خارج أطرها الحزبية، بل ما يزال معظم تلك الأحزاب مكتفياً بما تخرجه مطابخها الحزبية من بيانات (مناسباتية ) وخطابات وتحليلات لا تتجاوز ما يُنشر على وسائل الإعلام، بينما واقع الحال يوجب ضرورة الاستفادة من أي جهد أو مُنتَج سوري، بعيداً عن أي اعتبار حزبي أو إيديولوجي، يمكن استثماره في تطوير أو إنضاج سبل إبداعية ونضالية جديدة.
ما من شك بأن المتغيّرات الدولية في الآونة الأخيرة تثير الكثير من ريبة السوريين وتعزيز شكوكهم ، اعتقاداً منهم بأنها تجسّد مسعًى يخدم نظام الأسد ويسهم في تعويمه وإعادة فرضه على السوريين، إلّا أن الردّ المجدي على تلك المساعي المناوئة للمصالح الوطنية السورية لن يثمر أبداً طيلة بقائه محصوراً في إبداء السخط والشتم والندب والشكوى من حجم المؤامرة، بل لا بدّ من تحويل تلك الانفعالات وردود الأفعال إلى برامج عمل واستراتيجيات نضالية خلّاقة، ذلك أن الثورات بطبيعتها هي حدث تاريخي إبداعي يتسم بالابتكار والتجدّد، ولا ينحو إلى الثبات والتخشّب.
المصدر: صفحة حسن النيفي