شهدت سورية عَبْر تاريخها الحديث مراحل مختلفة من حكم البلاد، وكانت كل مرحلة منها تشهد دستوراً خاصاً بها، ولعلنا سنمر بدساتيرَ رئيسيةٍ تخصّ ماضيَ سورية وحاضرها، يظهر من خلالها واقع وطبيعة الحكم، ودور سلطة التشريع فيها، كذلك سنحاول الاطلاع على رأي بعض الشخصيات العامة حول دستور جديد لسورية بعد مرحلة الاستبداد الأسدي.
ففي يوليو/ تموز من عام 1920، وضع الملك فيصل الأول ابن الشريف حسين دستوراً يحدد طبيعة نظام الحكم في سورية، وقد جاء في المادة الأولى: أن حكومة المملكة السورية هي “حكومة ملكية مدنية نيابية، عاصمتها دمشق الشام، ودين ملكها الإسلام”.
لكن هذا الدستور لم يَعِشْ سوى خمسة عشر يوماً، حيث دخل الفرنسيون دمشق، وألغوا دستورها وأزاحوا ملكها عن الحكم، لتبدأ مرحلة الانتداب الفرنسي، بموجب اتفاقية “سايكس – بيكو”، وليوضع بعد سنوات دستور عام 1928.
ولكن وقبل المرور بالدساتير، ينبغي وضع تصوُّر لمفهوم “دستور”، كي تفهم أهمية هذه الوثيقة في تحديد بناء الدولة، ونموذج الحكم فيها، وتحديد صلاحيات سلطاتها الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وحدود استقلال هذه السلطات عن بعضها.
فمصطلح دستور يعني “أنه مجموعة المبادئ الأساسية المنظمة لسلطات الدولة، والمبينة لحقوق كل من الحكّام والمحكومين فيها بدون التدخل في المعتقدات الدينية أو الفكرية، لبناء الوطن على العالمية وهي الواضعة الرئيسية التي تنظّم العلاقات بين مختلف سلطاتها العامة، أو هو موجز الإطارات التي تعمل الدولة بمقتضاها في مختلف الأمور المرتبطة بالشؤون الداخلية والخارجية”.
وهو أيضاً الوثيقة التي تنظّم أهداف الشعب وحياته، ويمكن اعتباره عَقْداً اجتماعياً تمنحه الشعوب لنفسها، عملاً على تنظيم شؤونها العامة، وهو الوثيقة التي تشكّل القانون الأعلى للبلاد، والمرجعية لكافة القوانين.
سلطات الانتداب الفرنسي عملت على تشكيل لجنة لوضع مُسودة دستور لسورية، حيث حدّد هذا الدستور سورية “بأنها جمهورية نيابية”، ونصّ على حماية الملكية الخاصة، وحماية الصناعة الوطنية، وحماية الحقوق والحريات، فجاء فيه أن “الأمة مصدر كل سلطة، والسلطة التشريعية مَنُوطة بمجلس النواب”.
هذا الدستور تم إقراره في 22 مايو/ أيار 1930. وقد جاء فيه “أن سورية دولة ذات نظام للحكم جمهوري نيابي، وأن حقوق الطوائف الدينية المختلفة مكفولة فيه، ويتولى مجلس النواب المنتخب من الشعب بالاقتراع السرّي السلطة التشريعية، وينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري”.
هذا الدستور منح البرلمان المنتخب سلطة التشريع، وبالتالي فوّت الفرصة على أي حاكم أن يمنح لنفسه بصفته سلطة تنفيذية حقَّ سنِّ التشريعات والقوانين.
أما دستور الخامس من أيلول عام 1950، فقد احتوى على 166 مادة، جاء في المادة الأولى منه “سورية جمهورية عربية ديمقراطية نيابية، ذات سيادة تامة، وهي وحدة سياسية لا تتجزأ، ولا يجوز التخلي عن جزء من أراضيها، والشعب السوري جزء من الأمة العربية”. وجاء في المادة الثانية منه: “السيادة للشعب، لا يجوز لفرد أو جماعة ادعاؤها، تقوم السيادة على مبدأ حكم الشعب بالشعب وللشعب”.
هذا الدستور الذي بقي ساري المفعول، لم يمنح لحزب أو جماعة حق حكم البلاد، وهو نصّ صراحة على أن سورية جمهورية ديمقراطية نيابية، أي أن البرلمان المنتخب من الشعب بطريقة الاقتراع السرّي الشفّاف هو مصدر السلطات، حيث يشكّل مرجعية للحكومة، وبإمكانه عزل الرئيس والحكومة، متى تمّ تجاوُز صلاحياتهم المنصوص عنها في هذا الدستور.
دستور الأسد الأب
أما دستور عام 1973، فقد تمت صياغته بعد الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال حافظ الأسد عام 1970، والذي فصّل دستوراً يمنحه سلطات واسعة كبيرة.
جاء في المادة الأولى من دستور 1973: “الجمهورية العربية السورية دولة ديمقراطية شعبية واشتراكية ذات سيادة، لا يجوز التنازل عن أي جزء من أراضيها، وهي عضو في اتحاد الجمهوريات العربية”.
لكن الأخطر في هذا الدستور كان نصّ المادة الثامنة منه، حيث أوكلت قيادة البلاد إلى حزب بمفرده هو حزب البعث العربي الاشتراكي، وقد جاء في نص هذه المادة: “حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة، ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب، ووضعها في خدمة أهداف الأمة”.
أما المادة الثالثة عشرة فقد حدّدت طبيعة الاقتصاد في البلاد، حيث أطلقت عليه مصطلح (اشتراكي مُخطَّط)، أي مُنحت السلطة التنفيذية صلاحيات واسعة، بحيث تحوّلت الدولة إلى رب عمل، تدير من خلاله منشآت ما سُمي (القطاع العام).
كذلك كانت خطورة هذا الدستور تتلخص بسيطرة حزب البعث على النظام التعليمي والثقافي في البلاد، حيث نصّت المادة 21 على أنه “يهدف نظام التعليم والثقافة إلى إنشاء جيل عربي قومي اشتراكي علمي التفكير مرتبط بتاريخه وأرضه من أجل أهداف أمته في الوحدة والحرية والاشتراكية”.
لقد ألغى دستور عام 1973 حق الترشح الحر لمنصب رئاسة الجمهورية، إذ حصرت المادة 84 هذا الحق باقتراحٍ مما يسمى (القيادة القطرية لحزب البعث)، يقدم لمجلس الشعب الذي يُصدر قانوناً ينظّم استفتاء صورياً على منصب الرئاسة.
إن دستور عام 1973 هو دستور كرّس السلطة بيد حزب البعث، إذ حصر به حق قيادة البلاد، ومهّد السبيل لطغيان نظام ديكتاتوري فيها، علماً أن العمل بهذا الدستور الذي يمنع مشاركة قوى البلاد السياسية والاقتصادية عن المساهمة الفعّالة في بناء الدولة وتطوير المجتمع السوري. على هذه الأرضية من القهر ومصادرة الحريات والحقوق، تفجّرت ثورة الشعب السوري في شهر آذار عام 2011، هذه الثورة كثّفت مطالبها وأهدافها عبر المطالبة بالحريات وفي مقدمتها الحريات السياسية، ولهذا حاول النظام الاستبدادي الالتفاف على الثورة عَبْر إصلاحات دستورية شكلية، تعيد إنتاجه من جديد بعد إلغاء المادة الثامنة من دستور عام 1973.
أما السوريون الذين حاقت بهم مظالم النظام المستبِد، فقد وصلوا إلى مرحلة ضرورة تغيير الدستور المعمول به من قِبل النظام الأسدي، فهم يريدون دستوراً جديداً يُلغي أي إمكانية لعودة الاستبداد إلى حكم البلاد، ولهذا فإن القرار 2254 الذي إحدى سِلاله الأربع صياغة دستور جديد لسورية عَبْر مفاوضات بين مكونات اللجنة الدستورية التي شكلتها الأمم المتحدة، والمشكّلة من ثلاثة أثلاث متساوية، ثلث الأعضاء لقوى الثورة والمعارضة وثلث للنظام الاستبدادي وثلث لممثلين عن المجتمع المدني السوري.
وصياغة الدستور يجب أن تسترشد بآراء النخب ومطالب الشعب، وفي هذا الباب سألنا الدكتور محمود حمزة المقيم في روسيا، والمنتمي إلى حزب الشعب الديمقراطي (القيادة المؤقتة) عن تصوُّره لدستور سورية الجديدة فقال: “أفضّل أن يكون اسم الدولة هو الجمهورية السورية ويكون مصدر التشريع في الدستور هو القوانين الوضعية، وأحد مصادر التشريع الإسلام”.
ويضيف الحمزة: “إن نظام الحكم الجمهوري البرلماني هو الأفضل للتخلص من مشكلة التسلط على الرئاسة، وأن يكون الحكم لا مركزياً إدارياً، وليس فيدرالياً، مع تداول للسلطة، وفصل بين السلطات الثلاث“.
شرعة حقوق الإنسان
أما السيد نبيل قسيس وهو من حزب “النداء الوطني”
فيرى أن اسم البلاد يكون أفضل مع (الجمهورية السورية)، وأن تكون شرعة حقوق الإنسان والمعاهدات والمواثيق الدولية من مصادر التشريع بما لا يتعارض مع قطعيات الشريعة الإسلامية، وأن يكون نظام الحكم في الدولة السورية الجديدة نظام حكم رئاسي برلماني مختلط يراعي المرحلة الانتقالية التي تستدعي وجود سلطة تنفيذية ذات قرارات نافذة، وسلطة تشريعية ذات صلاحيات رقابية موسعة.
وبرأي السيد قسيس: “إن اللامركزية الموسعة في ظل نظام رئاسي مركزي ستكون واحدة من أهم دعائم الديمقراطية، وأن فصل السلطات الثلاث أساسي، مع تداوُل للسلطة عَبْر الانتخابات”.
أما الكاتب أحمد مظهر سعدو
فيرى: “أن الاسم الأفضل بنظره لمستقبل سورية هو: الجمهورية العربية السورية، ومصدر التشريع هو القرآن الكريم وسنّة نبيه، والعقد الاجتماعي المتفق عليه بين كل الاثنيات في سورية، وأن يكون نظام الحكم جمهورياً برلمانياً ولا مركزياً إدارياً، مع فصل بين السلطات الثلاث، وعدم تغوُّل إحداها على الأخرى”.
الدكتور الكاتب باسل المعراوي
يفضّل أن يكون اسم الدولة الجمهورية السورية، وأن تكون الشريعة الإسلامية مصدراً رئيسياً للتشريع إضافة إلى القوانين الدولية، وأن يكون نظام الحكم خلال الخمس سنوات الأولى بعد الانتقال السياسي رئاسياً مركزياً، ويكون تداوُل السلطة وفصل السلطات الثلاث هو حجر الزاوية في النظام الديمقراطي المنشود”.
الكاتب والأديب السوري محمود الوهب
له وجهة نظر حيال ما يتعلق بسورية الجديدة، يقول فيها: “المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، وللجميع حق الترشح لأي منصب حكومي، بما فيها منصب رئاسة الجمهورية، دون النظر إلى القومية أو الدين أو المذهب أو الجنس.
وإن اسم الدولة لا يُهم، فاسم الجمهورية العربية السورية لم يحقق وحدة العرب، وعدم وجود كلمة (العربية) لا يمنع من التنسيق بين البلدان العربية”.
ويرى “الوهب” أن مصدر التشريع هو دساتير الدول المتقدمة والأكثر ديمقراطية، وكل دستور يؤكد مساواة المواطنين التامة، وأن يكون نظام الحكم جمهورياً برلمانياً لا مركزياً مع تقييد صلاحيات رئيس الجمهورية”.
وسألنا السيدة نسرين مجدل
وهي ناشطة في مسائل الفكر والسياسة- عن رأيها بشكل الحكم والسلطة التشريعية في سورية الجديدة فأجابت: “مصدر التشريع برأيي يجب أن يُستمد من الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وأن يكون نظام الحكم جمهورياً برلمانياً، ولا مركزياً إدارياً، مع فصل السلطات الثلاث، وتحييد الدين عن مؤسسات حكم الدولة”.
أما الكاتب السوري عصام خوري
فيقول في شأن السلطة التشريعية التي يجب أن تكون في سورية القادمة: “لا يمكن بناء دستور سوري ناضج بدون مشاركة شعبية وبرلمانية حقيقية، وللأسف لا توجد حياة سياسية تؤسِّس لهذا المشروع”. ويضيف خوري: “إن مبادئ دولة سورية يجب أن تكون علمانية تفصل الدين عن الدولة ذات نظام جمهوري برلماني يؤمّن فصل السلطات الثلاث، مع التفكير بنظام فيدرالي مشابه للنظام السويسري”.
وَفْق ما تقدَّم من استطلاع أَوليّ لآراء شخصيات فكرية وثقافية وسياسية تختلف في رؤية الدستور ومصادر تشريعه، يكون السوريون متفقين عموماً على نظام حكم سياسي يحترم حقوق الإنسان، وتكون السلطة فيه تداولية عَبْر انتخابات ديمقراطية شفّافة، وهذا ما يجب أن يعمل عليه ممثلو قُوَى الثورة والمجتمع المدني أثناء صياغة مُسودة الدستور الجديد برعاية الأمم المتحدة عَبْر مفاوضات “جنيف”، تنفيذاً للقرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن في الثامن عشر من كانون أول/ ديسمبر عام 2015.
المصدر: موقع نداء بوست