محمد سليم حماد شاب اردني نشأ في بيئة إسلامية ملتزمة، من مواليد ١٩٦٠م، كان في مرحلة الدراسة الثانوية عندما بدأت أحداث الصراع بين النظام السوري، والطليعة المقاتلة و الإخوان المسلمين في سبعينات القرن الماضي. كان يتردد على المساجد و الدروس الدينية، يتابع بلهفة وشغف العمليات التي يقوم بها الاسلاميين ضد النظام السوري، ومن خلال شبكة علاقاته، وعبر التجمعات واللقاءات للشباب الإسلامي الأردني، حيث كان يتواجد حزب الإخوان المسلمين بشكل قانوني ومشروع في الأردن. انتمى محمد للإخوان المسلمين في الأردن، ومن خلالهم كان يتابع نشاطات الإخوان المسلمين السوريين، والتقى ببعض قياداتهم مثل علي البيانوني. كان متحمسا لهم و لعملياتهم العسكرية في سورية. وعندما سأله رأيه مسؤوله التنظيمي عن استعداده لمساعدة التنظيم في سورية، وأن يكون مرسالا مُؤتمنا بين القيادة في الأردن والتنظيم في سورية، أجاب بالقبول والترحيب، ساعده في ذلك أنه سجّل في كلية الهندسة المدنية في دمشق، وهذا كان يبرر ذهابه وايابه الدائم بين عمان ودمشق. كان يحصل على الرسائل وينقلها إلى قيادات العمل في الداخل السوري، وكان أهم القادة سالم الحامد. استمر نشاطه على هذه الحال حتى أواسط ١٩٨٠م. حيث اعتقل سالم الحامد من قبل النظام، مما ادى لأن يمتنع محمد حماد عن المجيء الى دمشق. الى أن اطمأنّ من خلال النشر عبر مجلة النذير التي كان يصدرها الإخوان السوريون، أنّ سالم الحامد قد واجه النظام عندما حاول اعتقاله وأنه قُتل أثناءها، وهذا يعني عدم كشف محمد حماد ودوره كمرسال بين قيادة الإخوان في الأردن والتنظيم في دمشق، حيث ينقل الرسائل والمال، تعرّف على أغلب قيادة الإخوان السوريين في الأردن وفي الداخل. عاد لما كان عليه بنقل الرسائل والمال الى القيادة الجديدة في دمشق، لكن الواقع كان مختلفا وسالم الحامد لم يُقتل من الأمن السوري، بل اعتقل، وعبر التحقيق المقترن بالتعذيب تم كشف كل الشبكات المرتبطة به، لقد كان صلة وصل تنظيم الإخوان المسلمين عبر المراسلين في كل سورية. كان لاعترافات سالم الحامد الدور الأكبر في اعتقال اغلب تنظيم الإخوان المسلمين في سورية، ومنهم محمد حماد الذي نصب له كمين واعتقل في الجامعة حيث كان يدرس. يوضح محمد حماد أن الأخوان المسلمين كانوا مشاركين في أحداث الصراع مع النظام من خلال توجيهات القيادة في الأردن، وأنهم كانوا مختلفين مع تنظيم الطليعة المقاتلة التي كانت تتبع مروان حديد قبل مقتله. وكان هناك منافسة وصراع بينهم.
اعتقل محمد حماد في عام ١٩٨٠م، وأخذ الى الأمن العسكري في دمشق وبدأ التحقيق معه. لم يعترف على شيء في البداية، لكنه بعد تعذيب شديد ، الضرب والشبح والكرسي الألماني والدولاب والكهرباء، مع مواجهات مع سالم الحامد، اعترف بما كان سالم قد اعترف به، وكتم معلوماته عن القيادة الجديدة التي جاءت بعد سالم الحامد، واستمر اعتقاله عدّة أشهر. ثم تم نقله مع آخرين الى سجن تدمر عام ١٩٨٠م. وهناك بدأت حياة أقرب للجحيم، كان وصولهم لسجن تدمر بعد مضي أشهر على مجزرة تدمر الشهيرة، التي قامت بها قوات من سرايا الدفاع التابعة لرفعت الأسد وذلك انتقاما لمحاولة اغتيال فاشلة لحافظ الأسد، التي قام بها أحد عناصر الإخوان المسلمين، وأدت المجزرة لقتل مئات السجناء في تدمر. كان الاستقبال لمحمد حماد ومن رافقه من المساجين الآخرين في سجن تدمر قاسيا جدا، الضرب والتعذيب والإذلال، من لحظة الدخول للسجن وكل الوقت وعلى مدار الأيام والأعوام. ظهر من واقع المعاملة في السجن، أن الهدف من السجن استباحة السجناء وقتلهم وإذلالهم، ومعاقبتهم والإنتقام منهم، فلا رادع عن فعل أي شيء يقوم به السجانين ضد السجناء دائما. كانت خطة السجانين قائمة على وضع السجناء في حالة تعذيب مستمر، في الليل والنهار، في استلام الطعام، في الحمام الأسبوعي، وكذلك الحلاقة، في التنفس اليومي، في المراقبة من فتحات أسقف المهاجع، في كل حركة وسكنة. استمر محمد حماد مسجونا في تدمر حوالي الأحد عشر عاما، عاين وعايش فيها هو وبقية السجناء ما لا يحتمل ولا يتصوره عقل. لقد عايشوا زيادة عن التعذيب والإذلال؛ الجوع والمرض والموت المحتمل في كل الوقت تحت التعذيب. وكان في السجن محكمة عسكرية ميدانية صورية، المحاكمات مهزلة لا تستغرق دقائق، والأحكام كلها بين خمس سنوات و مؤبد وإعدام. الإعدامات مستمرة دوما، يأخذون المحكومين الى إحدى الساحات حيث تنصب المشانق و يعدموا، أحصى محمد حماد المئات من المعدومين على مدى إحدى عشر سنة من السجن في تدمر. محمد حماد نفسه تأخرت محاكمته إلى خمس سنوات بعد سجنه، وعند عرضه على القاضي العسكري سأله بعض الأسئلة السخيفة مع الاساءة اللفظية، وحكمه بالإعدام. وبقي كل فترة سجنه المتبقية ينتظر تنفيذ الحكم، لكنه لم ينفذ بحقه. تحدث محمد حماد عن التعذيب عبر التجويع والتعطيش، طبعا هذا غير التعذيب البدني والنفسي الدائم. لقد قتل الكثير تحت التعذيب العشوائي، وظهر أن إدارة السجن والسجّانين لهم صلاحية مطلقة بذلك. كما أصاب السجناء الكثير من الأمراض المعدية مثل السل والكوليرا واليرقان والجرب وغيرهم، والتي أدت إلى موت الكثير منهم. وغالبا ما تتأخر إدارة السجن في علاج هذه الأمراض، بحيث تفتك بالسجناء قبل أن تتم المعالجة، ومع ذلك لم تنتهي هذه الأمراض بل خفّت قوتها. فعند الاصابة بالسل فتحت الإدارة مهاجع خاصة بالمصابين، وتطوع أطباء من السجناء للعلاج وكان أحدهم بمثابة ملاك رحمة، مات بمرض السل بعد ذلك. عانى الكثير من السجناء من ظروف التعذيب والقهر والإذلال بحيث وصل البعض الى درجة الانهيار النفسي، وكان البعض يُقتل تحت التعذيب، والبعض يفقد أعصابه ويهستر او يجن، ويواجهون بعض السجانين، و يتسلطون عليهم، ويكون مصير أغلبهم القتل تحت التعذيب أيضا. ومع مضي السنوات كانت أفواج المسجونين الجدد تزداد دوما، والمهاجع تمتلئ، ويقل استيعابها للسجناء، وهذا ينعكس على المعيشة المشتركة، مساحة المكان المخصص لكل سجين صغيرة جدا ، وصعوبة الدخول للمرحاض والطعام والخروج للتنفس والحلاقة والحمام. رغم ذلك كان السجناء يستندون إلى إيمانهم وصبرهم لتحمل ما يعيشوا. وتسليمهم إلى أقدارهم وأن كل ما يصيبهم في سبيل الله، وأن من يموت سيكون شهيدا.استثمروا وقتهم بحفظ القرآن شفاهة عن بعضهم، وكذلك متون الأحاديث، والسيرة النبويّة. البعض منهم تعلم اللغات الأجنبية ممن أتقنها، وهذا ما حصل مع محمد حماد الذي ختم القرآن حفظا، وبدأ تعلم اللغة الإنجليزية. كان مرور الوقت عليهم عبر سنين ، جعلهم يراجعون ما عاشوه، البعض يتطرف ويأخذ توجهات متناقضة، ظهر التوجه السلفي والمذهبي والجهادي وظهر بينهم الصراع على هذا الأساس، والصراع بين جماعة الطليعة المقاتلة والإخوان المسلمين، وحتى داخل كل جماعة منهم، بين جماعة دمشق وحماة وحلب،. وأدى ذلك لحصول التكفير المتبادل، إلى درجة قطع التواصل بينهم وعدم قبول الصلاة معهم. كان ذلك جحيما عانى منه محمد حماد، بذات معاناته من السجن وما يلاقيه من تعذيب وإذلال، وقد وصل في تحليله إلى درجة تحميل الإختلاف والصراع في الصف الإسلامي حتى اعتبره السبب وراء هزيمة الحراك الاسلامي عن أن ينتصر على النظام السوري في الصراع معه في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي.
يذكر محمد حماد في كتابه عن وجود النساء المسجونات في سجن تدمر، لكنهم لم يستطيعوا التواصل معهم، كذلك المساجين المحسوبين على البعث اليميني العراقي، وعلى سجناء شيوعيين، لم يتواصلوا معهم لكنهم علموا أن المعاملة معهم كانت أقل تعذيب ويحصلون على حقوق أكثر. كما تحدث محمد حماد عن الزيارات التي كانت تأتي لبعض السجناء والتي يحصل بها السجناء على بعض الحاجات الشخصية والمال، وكيف نشأت شبكة فساد ونهب من إدارة السجن وبعض المساجين الساقطين اخلاقيا وسلوكيا، ليعاد نهب هذه الأموال على قلتها، لقد تكالبوا على السجناء والقليل الذي يأتيهم، فقد فتحوا دكانا متواضعا، و باعوهم أغراضهم باسعار غالية جدا، لقد كان سرقة علنية. لقد وقع السجناء ضحية قمع شديد مستديم لسنوات أدى لإنهيار البعض نفسيا إلى درجة أن يكون مخبرا على رفاقه السجناء معه، مع العلم أن المخبر لا يحصل على أي مكتسب، والبعض منهم قد يقع ضحية تسلط السجانين عليه ويموت تحت التعذيب، ولا تفيده خيانته للسجناء ممن يعيش معهم، مع العلم أن الوشاية لا تفيد شيئا للنظام، لأن السجناء أعجز من أن يؤذوا نملة، حتى يؤثروا على النظام المجرم داخل السجن وخارجه، فلا إمكانية للسجناء لفعل أي شيء، كما أنهم منقطعين عن العالم كله، لكن الوشاية تؤدي لأن يأخذها السجانون ذريعة لمزيد من تعذيب السجناء وقتلهم وإذلالهم.
استمرت الأيام والسنين بالمرور على السجناء في تدمر مع تغيرات متنوعة في إيقاع حياتهم، تجويع او اغداق بالطعام، تعطيش الى درجة الموت، انتشار الأمراض وتفشّيها، تنوع التعذيب ، الإعدامات المستمرة، والموت تحت التعذيب او بالمرض.
في بداية التسعينات وبعد مضي أحد عشر سنة على سجن محمد حماد، وبعدما أدرك أنه لن يُعدم كما أُعدم غيره، وأن بعض السجناء بدؤوا ينقلوا إلى سجن صيدنايا السياسي، مع تحسن بسيط بالمعاملة من السجانين. جمعتهم الإدارة في عام ١٩٩١م، وطلبت منهم تأكيد ولائهم للرئيس حافظ الأسد ، موقعا طلباتهم الاسترحام والولاء بدمائهم. كان ذلك مهزلة لكنهم فعلوها، تحت الضغط والإجبار، وليس أمامهم إلا أن يفعلوا ذلك. وبعد مضي وقت عن ذلك، أخبرت إدارة السجن محمد وغيره، أنه سيتم الإفراج عنهم. كان ذلك عودة للحياة من الموت بالنسبة لمحمد حماد، ودّع مع بقي من السجناء بالسجن، وأُعيد إلى فرع التحقيق العسكري بدمشق. وهناك التقى به وبغيره من المفرج عنه، ضبّاطا أمنيين، تحدثوا عن مكرمات الرئيس حافظ الأسد، وأنهم خرجوا بعفو ومكرمة منه، وأنهم سيكونون مواطنين صالحين. وتحدث عن الصراع مع العدو الصهيوني. ثم أُخرج من الفرع الأمني إلى الحدود الأردنية، وسُلّم للمخابرات الأردنية، التي حققت معه وأوصلتها إلى أهله، الذين فرحوا به. كانوا قد فقدوا الأمل بعودته حيا من سورية، بعد سجنه في تدمر لمدة تزيد عن أحد عشر عاما.
يختم محمد حماد كتابه باعترافات كانت قد أُذيعت في التلفزيون الاردني، لعنصرين من سرايا الدفاع تم إلقاء القبض عليهم في الأردن عندما حاولوا اغتيال رئيس وزراء الأردن وقتها مضر بدران، وكيف شاركوا بالذهاب بأمر من ضابط بسرايا الدفاع بالذهاب الى تدمر وقتل المئات من السجناء بالقنابل والرصاص، بعد محاولة اغتيال حافظ الأسد عام ١٩٨٠م. وكيف شكرهم مسؤوليهم بعد إنتهاء المهمة، واعطوهم مكافأة مادية مئتين ليرة سورية لكل عنصر منهم ؟ !!!.
كما ختم كتابه بجدول أعداد الإعدامات في تدمر باليوم والشهر والسنة، وكانوا بالمئات.
هنا ينتهي الكتاب الشهادة للأردني محمد سليم حماد، وفي تحليل الكتاب نقول:
- مهم جدا أن يكون بين أيدينا شهادات موثقة عن أفعال النظام السوري الاستبدادي المجرم، على مدى تاريخه الطويل لعقود في حكم سورية، أيام حافظ الأسد وبعده ابنه بشار. وخاصة ما حصل في سجن تدمر الذي هو وصمة عار في تاريخ هذا النظام.
- ومهم ايضا قراءة مسار التيار الإسلامي الإخواني وتنظيم الطليعة المقاتلة، في سورية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، سواء الإنطلاق من خلفية دينية في حركتهم لمواجهة النظام، والتي أرادت الرد على طائفية النظام العلوية بدعوة للدولة الدينية . ولم تكن دعوتهم قائمة على الأرضية الوطنية الديمقراطية، التي كانت قد رفعتها النقابات والقوى السياسية الوطنية الديمقراطية السورية، وظهر كأن الإسلاميين يريدون استبدال استبداد النظام الطائفي السوري المتستر بالبعث والقومية العربية، بنظام استبدادي ديني، يدّعي أنه يريد تطبيق الشريعة الإسلامية.
- وكانت نقطة ضعف الإسلاميين من الطليعة والإخوان هي استعمالهم القوة المسلحة في إسقاط النظام، وهذا خطأ سياسيا، فمن المستحيل إسقاط نظام مدجج بالسلاح وفيه جيش بمئات الآلاف وأمن وشرطة. بقوة مئات المقاتلين واسلحتهم الفردية المتواضعة. وأنهم بفعلهم ذاك قدموا للنظام المبرر لكي يتوحش في مواجهة الاسلاميين والقوى الوطنية الديمقراطية والشعب السوري كله، وقتها، وحصلت المجازر في حماة وحلب وغيرها من المدن والبلدات. وتم القضاء على العمل السياسي السوري بشكل كامل تقريبا، وأعيدت سورية مملكة للعبيد لعقود قادمة. إلى أن جاء الربيع السوري وحصلت الثورة في عام ٢٠١١م. وواجه نظام الأسد الإبن الشعب بالعنف والسلاح، وصنع اسوأ مأساة في العصر الحديث مع الشعب السوري، قَتل ما يزيد عن المليون ، وسجن واعتقل مثلهم، هذا غير الجرحى والمعاقين، وهجّر أكثر من نصف الشعب السوري، ودمْر البلد، وأحضر المحتل الروسي والإيراني والأمريكي و المرتزقة الطائفيين، وأصبحت سورية مقسمة ؛ والإنفصاليين ال ب ي د وحزب ال ب ك ك يسيطر على شرق وشمال سورية برعاية أمريكية.
- كذلك لم يظهر في الكتاب أن هناك مراجعة ذاتية للتيار الإسلامي لتصرفاته وتوجهاته الفكرية والسياسية، رغم أن محمد حماد الأردني لا يمثل الإسلاميين السوريين، الذين طوروا توجههم السياسي وارتضوا بالخيار الوطني المدني الديمقراطي لسورية المستقبل، عبر وثائقهم منذ عام ٢٠٠٤م وما بعد أيام تحالفهم مع القوى الوطنية الديمقراطية في ربيع دمشق، وبعدها في الثورة السورية الحالية، وكانوا جزء من مناشط الثورة السياسية والعسكرية.
أخيرا : نحن بحاجة لتوثيق ما حصل في تاريخ سورية البعيد والقريب، لكي لا ننسى، وللعبرة، ولنتعلم من تجربتنا ونبقى متمسكين بحقوق شعبنا بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية.
لقد اعتبرت أن إخوان سورية تطورو وهم شركاء في الثورة
لمن الحقيقة مع الأسف كشفت وهو أنهم مازالوا باحثين عن السلطة والإستبداد والدليل على ذلك هو سيطرتهم على كل مفاصل الثورة وإن كانت السيطرة بطريقة غير مباشرة عن طريق أطراف اخرى او عن طريق اشخاص مدعومين من قبلهم ولم يقوموا بأي مراجعة لهذه الإنتكاسات رغم مرور كل هذه السنوات ورغم وصول الثورة إلى ماهي عليه من انسداد لكل الافاق امامها وهي بحاجة إلى إزاحة جميع من تصدروا حتى هذه اللحظة لكي تعود من جديد بقيادة جديدة قد تستطيع ان توصلها إلى أهدافها