بعد نقاشات من خلف الستار وأعوام من الترقب والانتظار، استعادت مصر والولايات المتحدة حوارهما الاستراتيجي لتحديد الأولويات المشتركة، في تحوّل أميركي يؤشر للتقارب مع لاعب رئيسي في الشرق الأوسط وأفريقيا. ليس ذلك حباً فى مصر بالطبع، من جانب القوة العظمى عالمياً، بل استجابة أميركية للواقع؛ وتأميناً لمصالحها وتحقيقاً لأهدافها؛ إذ تفاضل واشنطن بين التوقف عن كونها شرطي العالم، بكلفته الباهظة، وبين ترك مناطق الصراع من دون حل حاسم ما يفاقم الإرهاب ويضر بمصالح الغرب. ومن جانبها تعي القاهرة أن الطمع الوهمي في جنة أميركا خطير النتائج كالخوف الغريزي من نارها؛ فهل يستطيع الطرفان الانتقال من حالة “غياب اليقين” إلى مرحلة “فك العقد” في علاقة الشراكة الاستراتيجية بينهما؟.
الدولة المحورية
عُقد في واشنطن الأسبوع الماضي، أول حوار إستراتيجي أميركي – مصري في عهد الرئيس جو بايدن، بين وزيري خارجيتي البلدين، وهي الجولة السادسة من جولات الحوارات الاستراتيجية بينهما منذ انطلاقها عام 1998. و”الحوار الاستراتيجي” أحد آليات ترسيخ العلاقات مع الدول التي تكتسب أهمية خاصة لدى صانع القرار الأميركي؛ وقد دأبت واشنطن على إجراء حوارات استراتيجية مع دول: الصين والهند وإسرائيل وباكستان والمغرب… إلخ. وذلك في تطبيق عملي لمفهوم “الدول المحورية” الذي صكّه المفكر والمؤرخ الأميركي بول كينيدي في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه، وعرّف الدولة المحورية أنها “بقعة جغرافية ساخنة لا تحدد فقط مصير إقليمها، بل إنها تؤثر أيضاً في الاستقرار العالمي”. وحدّد كينيدى 9 دول محورية، هي بالترتيب: مصر والبرازيل والمكسيك وتركيا والهند وباكستان وإندونيسيا وجنوب أفريقيا والجزائر، وفقاً لاعتبارات: المساحة الجغرافية والموقع الجيواستراتيجى والإمكانات الاقتصادية والقدرة على التأثير في القضايا الإقليمية والعالمية.
واعتبر كينيدي أن أي حالة من عدم الاستقرار في مصر يمكن أن تهدد المنطقة، من الجزائر إلى تركيا، وعملية السلام مع إسرائيل؛ كما تهدد مصادر البترول في الخليج والتحالفات الإقليمية وازدهار اقتصادات الدول الصناعية من جهة أخرى؛ وهي أمور يمكن أن تصيب المصالح الأميركية بخسائر أفدح من التي سببتها الثورة الإيرانية. أما عملية السلام في الشرق الأوسط التي تمثل المفتاح الرئيسي للسياسة الخارجية الأميركية في المنطقة، فيمكن أن تتأثر بشدة، علاوة على أن مصر غير المستقرة قد تدفع السعودية لإعادة النظر في علاقتها مع أميركا. وأوضح كينيدي أن “عملية عاصفة الصحراء” لتحرير الكويت، وأي عملية مماثلة لها في المستقبل يصعب أن تتم من دون مصر وقوتها العسكرية، وربما تدخل في نطاق المستحيل.
مدّ وجزر
ليست جولات الحوار الاستراتيجي الطريق الوحيد بين مصر والولايات المتحدة، فهناك قنوات متعددة للتواصل والتعاون. أقام الطرفان علاقات دبلوماسية قبل نحو مئة عام، لكنها تعمّقت في عهد أنور السادات في نهاية السبعينات من القرن الماضي، بعد توقيع اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية بضمانة أميركية. وتحتل القاهرة المرتبة 52 في قائمة أهم الشركاء التجاريين لواشنطن، في حين تأتي الولايات المتحدة ثاني أكبر شريك تجاري لمصر وأهم مستثمر بها، إذ بلغت قيمة التبادل التجاري نحو 10 مليارات دولار في عام 2019، وظلت أميركا، ثلاثين سنة، أهم مورد للسلاح للجيش المصري، وهي تقدم معونة عسكرية واقتصادية للقاهرة، بقيمة 1.3 مليار دولار سنوياً، جمدت منها إدارة جو بايدن 130 مليون دولار، على خلفية ملاحظات على سجل حقوق الإنسان في مصر. وبرغم رغبة المصريين والأميركيين في الحفاظ على زخم العلاقات بينهما، فإنها تشهد نوبات مد وجزر، وتنزلق في منعطفات خطيرة، مرات عدة، ما يجعل لها سقفاً يصعب تجاوزه.
إن الإطار البنيوي للعلاقات المصرية – الأميركية يقوم على ركائز استراتيجية وسياسية واقتصادية، ولا شك في أن اختزالها في جزئية المعونات والتعاون العسكري مقاربة قديمة، لعلاقات متشابكة وتحظى بالأهمية مع قدر من الحساسية والعقد التاريخية.
اليوم، تدفع العوامل الجيوسياسية الشرق الأوسط ليكون مسرحاً لمنافسات شرسة، يتجلى هذا في الخصومات الإقليمية المستعرة، وصراعات القوى الكبرى. تفكر واشنطن في تقليل تواجدها في المنطقة والارتحال إلى المحيط الهادئ، لمواجهة الصين التي يتنامى دورها في المنطقة أيضاً، فضلاً عن تأثير “كورونا” في الاقتصادات الإقليمية الهشة، ومن ثمّ يتوقف سير الأحداث والنتائج على إعادة تنظيم الصفوف، واختبار إخلاص الحلفاء أو مَنْ في منزلتهم. من هنا تنبع أهمية الحوار الاستراتيجي بين مصر وأميركا؛ فالأولى قوة محورية في الشرق الأوسط، وهي تحتاج للتعاون مع أقوى دولة في العالم، أو على الأقل عدم الصدام معها، بينما لا تستطيع أميركا الحفاظ على مصالحها المتشعبة في تلك المنطقة الطافحة بالأزمات، من دون دعم شريك استراتيجي مؤثر مثل مصر، بوصفها أحد مفاتيح فرض الاستقرار ومواجهة الإرهاب، في محيطها الحيوي الممتد من أفغانستان شرقاً إلى المغرب غرباً، ومن هضبة الأناضول شمالاً إلى خط الاستواء في قلب أفريقيا جنوباً، حيث منابع النيل.
لغة المصالح
مصرياً، مثّل الحوار الاستراتيجي فرصة للنظام لتأكيد متانة العلاقات بين القاهرة وواشنطن، في ظل مخاوف من تراجعها تحت حكم الديموقراطيين، بما يعنيه ذلك من ضمان الدعم الأميركي في الحرب على الإرهاب، وهو ما ظهر في موافقة أميركا على تطوير أسطول طائرات الأباتشي المصرية، وغيرها من المساعدات العسكرية السنوية لمصر، كما توافقت رؤى الجانبين إزاء أهمية التهدئة في غزة وإعادة الإعمار، كذلك إجراء الانتخابات الليبية في موعدها وإخراج القوات الأجنبية والمرتزقة. وبحث الطرفان الأوضاع في السودان والعراق والأزمات الإنسانية في سوريا واليمن، وبقية قضايا الشرق الأوسط وأفريقيا، وحظيت قضية “سد النهضة” الإثيوبي بمساحة أوسع من المباحثات، حيث جددت أميركا تأكيد دعم الرئيس بايدن للأمن المائي لمصر، وأيضاً زيادة التعاون الاقتصادي والاستثمارات الأميركية ومساندة مساعي مصر لتصبح مركزاً إقليمياً للطاقة، بعد تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط، ما يعضد النظام المصري أمام تحديات الداخل والخارج، ويجعل القوى الدولية أكثر انفتاحاً عليه.
أميركياً، تسعى إدارة بايدن إلى تقليل انخراطها المباشر في قضايا الشرق الأوسط، بينما تعتمد على حلفائها الإقليميين بصورة تحفظ مصالحها في الإقليم، لذا يعدّ الحوار الاستراتيجي منصة للاستفادة من الدور المصري الذي يعاود الانخراط مجدداً في الأزمات الإقليمية، بعد مدة من التراجع، مثلما حدث في العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، كذلك دور القاهرة البارز في ليبيا والسودان، وحضورها في سوريا والعراق، ناهيك بمحاولة واشنطن الحصول على مساندة مصر للاتفاق النووي مع إيران وطلب مساعدتها بإقناع الدول الخليجية بأن الاتفاق لن يكون على حساب الأمن الخليجي، كما جرى تناول أوضاع حقوق الإنسان في مصر.
وقد أبرز البيان الختامي للحوار الاستراتيجي المصري – الأميركي حرص الطرفين على إنجاز الأهداف التي عُقد من أجلها، لا سيما التعاون الاقتصادي والسلام والاستقرار الإقليميين والتصدي للإرهاب، ولعل عودة الحوار الاستراتيجي للانعقاد بعد انقطاع تكشف عن تقييم واشنطن لأهمية الشراكة الاستراتيجية مع القاهرة، والتي تعود بفوائد جمة للولايات المتحدة، في الشرق الأوسط والعالم، أما مصر، فتحاول اتقان “لغة المصالح”، واعية بأن لا أميركا الشريرة ذهبت، ولا أميركا الطيبة أتت، ولا العكس بالعكس، فكل ذلك لا يعدو أن يكون تمييزاً بين الوجوه، ودفعاً للمسارات والتكتيكات فوق قضبان الإستراتيجية؛ وما بين الشد والجذب لا يزال المشوار طويل لتحقيق تفاهم كامل بين الطرفين!.
وذاك حديث آخر.
المصدر: النهار العربي