تضرب كوكب الأرض حال طوارئ بيئية. الإدمان المستمر على الوقود الأحفوري الذي يسيطر على البشرية وشهيتها الشرهة تجاه الموارد الطبيعية، تسببا في تغيير مناخي جامح، وأفضيا إلى تدهور نظم بيئية حيوية، كذلك أذنا بموت بطيء لمحيطات العالم. إن الحياة المنتشرة على الأرض مع كل ما يشمله الكوكب من أنظمة إيكولوجية، ويُسمّى أيضاً بـ”المحيط الحيوي”biosphere للأرض، آخذة في الانهيار. ثمة حالة استنزاف يكابدها الكوكب بسببنا، وقد عرّضت بقاءنا للخطر.
نظراً إلى تلك المخاطر، يثور جزع من أن المنظومة المتعددة الأطراف قد تقاعست عن الاستجابة بقوة أكبر، لحال الطوارئ البيئية، مكتفية بإنجاز إصلاحات هامشية في هذا المجال. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي تبنّيا تدابير لإبطاء وتيرة الاحترار العالمي، عبر تحديد أهداف أكثر صرامة في خفض مستويات غازات الدفيئة مثلاً، لا يبدو التزامهما تلك التعهدات مضموناً. ويضاف إلى ذلك أن خطوات على تلك الشاكلة لا تحمل فائدة تذكر في تشجيع إزالة الكربون في الصين والهند وغيرهما من الدول التي تُعتبر مصادر رئيسة للانبعاثات. كذلك لا تعالج تلك الجهود نواحي أخرى في تلك الكارثة المحدقة، لا سيما انهيار التنوع البيولوجي.
لا يخضع العالم الطبيعي لحدود سيادية، كذلك الأمر بالنسبة إلى الأزمة البيئية المتفاقمة. لقد حان الوقت كي تُتّخذ خطوات جريئة تردم الهوة بين نظام دولي مقسم إلى 195 دولة مستقلة، تعمل كل منها وفق متطلباتها الخاصة من جهة، وبين كارثة عالمية لا يمكن حلها بطريقة مجزأة، من جهة أخرى. لقد حان الوقت أيضاً لحوكمة العالم كما لو أن الأرض تستدعي ذلك. يحتاج العالم إلى نقلة نوعية في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية للولايات المتحدة، علماً أنه تحوّل متجذر في الواقعية البيئية ويهدف إلى وضع التعاون بشأن التهديدات البيئية المشتركة في مركز الصدارة. من الممكن أن تُسمّى تلك النظرة العالمية الجديدة بـ”سياسة كوكبية”. حريّ بجميع الحكومات، بدءاً من واشنطن، اعتبار بقاء “المحيط الحيوي” للأرض مصلحة وطنية أساسية وهدفاً مركزياً للأمن القومي والدولي، ومن ثم للتنظيم والاستثمار.
كذلك سيستلزم الانتقال إلى سياسة كوكبية، فهماً جديداً ومشتركاً للواجبات المنوطة بالدول ذات السيادة، وقطع التزامات جادة من قبلها في التنمية المستدامة والاستثمار، فضلاً عن أنه يقتضي إنشاء هيئات دولية مبتكرة. سيتعيّن على قادة العالم أن يتبنّوا أخلاقيات جديدة في الإشراف البيئي، وتوسيع مفاهيمهم المتعلقة بالالتزامات السيادية كي تشمل مسؤولية حماية المشاعات العالمية. وستحتاج الحكومات والشركات والمجتمعات إلى تقدير رأس المال الطبيعي للأرض ومراعاته، بدلاً من اعتباره أمراً مفروغاً منه واستغلاله حتى النضوب. أخيراً، سيكون على الحكومات الوطنية إصلاح وتعزيز الأسس المؤسسية والقانونية التي يستند إليها التعاون البيئي الدولي. ومعلوم أن في مقدور الولايات المتحدة أن تتولى تلك المسؤولية بالطبع، ذلك أن أي جهد من هذا القبيل لن يؤتي ثماره ما لم تكُن واشنطن في الطليعة.
من أجل مصلحتنا
لا يخفى على أحد التأثير المدمر الذي تطرحه أنشطة الإنسان في البيئة، إذ يوثق عدد من تقارير أصدرتها أخيراً مجموعات كـ”الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ” IPCC و”الصندوق العالمي للطبيعة” WWF حجم تعدّينا على الكوكب، وينذر بمستقبل من الحرارة الحارقة وحرائق الغابات المستعرة وتحمّض المحيطات والعواصف العنيفة وارتفاع مستوى البحار، علاوة على الهجرة الجماعية. في الوقت ذاته، ترك النشاط البشري التنوع البيولوجي عرضة للخطر، إذ يستنفد الناس الأراضي والمياه، ويستحدثون أنواعاً بيولوجية دخيلة، ويحصدون الموارد الطبيعية على نحو غير مستدام. كذلك تبعث الأرقام التالية على القلق. فمنذ عام 1970، انخفض عدد الفقاريات البرية بأكثر من 60 في المئة، والحشرات بـ45 في المئة. ولكن ليست الحيوانات وحدها التي تنوء تحت وزر ذلك الضرر. تركت الصناعات الاستخراجية كالتدجين وزراعة المحاصيل المكثفتان وتربية المواشي وقطع الأشجار والتعدين، ندوباً على سطح الكوكب، وللأسف، يبدو إصلاحها متعذراً في بعض الأماكن. سنوياً، يفقد العالم مساحة من الغابات الاستوائية بحجم كوستاريكا. وحاضراً، يتهدد نحو مليون نوع من النباتات والحيوانات خطر الانقراض في المستقبل القريب.
ليس جنسنا بمنأى عن المعاناة أيضاً، إذ يواجه مئات الملايين من الأشخاص حول العالم انعداماً متصاعداً في الأمن الغذائي، وكذلك الحال بالنسبة إلى وجود موارد مائية يكون من المستطاع التعويل عليها. وبينما لا ينفك البشر والحيوانات الأليفة ينتهكون النظم الإيكولوجية المتنوعة ويُخلّون بها، ويصادفون أنواعاً حية كانت معزولة ذات يوم، تجدنا نتعرّض لفيروسات مستجدة وخطيرة. وفي العقود الأخيرة، وثّق العلماء ما يزيد على 200 نوع من الكائنات الممرضة الحيوانية المنشأ التي وجدت طريقها من الحيوانات البرية إلى البشر، من بينها فيروس “إيبولا”، والفيروس المسبب لـ”سارس” (متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد)، والفيروس المحتمل وراء الإصابة بـ”كوفيد- 19″.
توشك الأمور أن تزداد سوءاً. على الرغم من تراجع معدل الخصوبة، لن يشهد عدد السكان أي استقرار حتى عام 2060 في أقل تقدير، وسيفاقم صعود الطبقات المتوسطة الطموحة في كل أنحاء العالم الضغوط الإيكولوجية. بينما ننهب المعمورة، نجازف بتحويلها مساحات غير صالحة للسكن. إنها أزمة تستصرخ التضامن العالمي والعمل الجماعي. ومع ذلك، تستمر غالبية البلاد في التعامل مع التحديات البيئية باعتبارها أولويات سياسية خارجية من الدرجة الثانية تختلف عن الأمور التي يُفترض أنها ذات أهمية أكبر، من قبيل المنافسة الجيوسياسية والحدّ من التسلح والتجارة الدولية. تبدو النتائج متوقعة. إن ما قد تظنه حوكمة بيئية عالمية، لا يتعدى كونه خليطاً من اتفاقات هزيلة خاصة بقطاع معين تتولى الإشراف عليها هيئات ضعيفة غير قادرة على إنفاذ الامتثال. للأسف، يعتمد مصير الكوكب إلى حد كبير على مزيج من تعهدات وطنية غير منسقة مدفوعة باعتبارات سياسية واقتصادية محلية قصيرة الأجل.
في المقابل، تتطلب الأزمة البيئية العالمية فناً جديداً في الحكم والإدارة، قوامه الطرح القائل إن كل المخاوف الأخرى للدولة، بدءاً من الأمن القومي وصولاً إلى النمو الاقتصادي، تعتمد على توفر “محيط حيوي” للأرض يتسم بأن يكون سليماً ومستقراً. بيد أن هذا الإطار العام المتجدد من العمل لن يتخلى عن المفهوم الأساسي للمصلحة الوطنية، بل سيلجأ إلى توسعته، مضيفاً إليه أمن البيئة وحفظها. ربما يحجم التقليديون في السياسة الخارجية عن تبنّي هذا المفهوم الجديد، إذ يعتريهم قلق بشأن تشتيت انتباه الدبلوماسيين ومسؤولي الدفاع عن التهديدات التي تركت تأثيراً مباشراً في بقاء الدول على مر التاريخ. لكن الأزمة الإيكولوجية قد غيّرت طبيعة تلك التهديدات.
وكذلك يبدو أن الرئيس الأميركي جو بايدن يدرك تلك الحقيقة. في أمر تنفيذي تاريخي صدر بعد أسبوع واحد من تنصيبه، أعلن أن تغيّر المناخ يمثل تهديداً من الدرجة الأولى للولايات المتحدة وأعطى توجيهاته للوكالات الفيدرالية الأميركية لقيادة استجابة غير مسبوقة من جانب الحكومة برمّتها في سبيل خفض انبعاثات غازات الدفيئة والتكيف مع ظاهرة الاحترار العالمي. بعد ثلاثة أشهر، خاطبت أفريل هاينز، مديرة الاستخبارات الوطنية الأميركية، قادة العالم المجتمعين في مؤتمر افتراضي حول المناخ، مشيرة إلى إن تغيّر المناخ “يجب أن يكون في صلب الأمن القومي والسياسة الخارجية لأي بلد”.
بالطبع، يسهل استخدام عبارات خطابية طنانة. في المقابل، المطلوب من إدارة بايدن أن تغرس الآن هذا النهج الجديد عبر السلطة التنفيذية بأسرها، وتعمل مع الكونغرس من أجل تنقيح موازنة ضخمة للأمن القومي الأميركي، ما زال معظمها مهموماً بمحاربة تهديدات جيوسياسية وعسكرية تقليدية. وفي الوقت عينه، يتوجب عليها أن تتعاون مع شركاء أجانب بشأن إيجاد استجابة متعددة الأطراف تعمل على إبطاء الانهيار البيئي ثم قلبِ مساره.
أشاطرك ما أملك
إذا كانت الولايات المتحدة جادة في قيادة الاستجابة العالمية لحال الطوارئ البيئية على كوكب الأرض، عليها أن تشرع بالعمل مع دول أخرى لإعادة صياغة المفاهيم التقليدية للسيادة. يمكن لواشنطن أن تبدأ تلك العملية بالإعراب عن تأييدها الصريح لفكرة أن الدول مسؤولة عن حماية الأرض، وإلزامها الامتناع عن أي نشاط قد يحدث تغييراً في النظم البيئية أو يضرها بشكل جوهري.
حاضراً، لا يوجد مثل ذلك الإجماع، بحسب ما يتضح من الخلاف الذي اندلع بين الرئيسين البرازيلي جايير بولسونارو والفرنسي إيمانويل ماكرون في 2019، حينما اجتاحت عشرات الآلاف من الحرائق غابات الأمازون المطيرة. آنذاك، اتهم ماكرون بولسونارو بـ”الإبادة البيئية” وفق وصفه، عبر السماح لقاطعي الأشجار الجشعين ومربي الماشية والمزارعين وعمال المناجم باستغلال أكبر غابة في العالم، كما أشار ماكرون، ارتكب بولسونارو جريمة ضد الكوكب. في المقابل، انتقد الزعيم البرازيلي الغاضب نظيره الفرنسي واتهمه بمعاملة البرازيل كما لو كانت “مستعمرة أو أرض محرمة”، بحسب كلماته.
ارتكز ذلك الصدام بين الزعيمين البرازيلي والفرنسي على تصورين متنافرين بشأن السيادة. وفق بولسونارو، تملك البرازيل الحق المطلق في تطوير منطقة الأمازون بالشكل الذي تراه مناسباً. وقد أعلن المتحدث باسمه أن “سيادتنا غير قابلة للتفاوض”. ورد ماكرون مشيراً إلى إن للبشرية جمعاء مصلحة في بقاء الغابات المطيرة على قيد الحياة. إن العالم طرف معني، وليس متفرجاً، ولا يمكن أن يظل صامتاً بينما تنهب البرازيل ذلك الحوض الكربوني الذي لا غنى عنه، ومصدر الأوكسجين الذي لا يمكن أن نستعيض عنه بأي بديل آخر، والمستودع الثمين للحياة النباتية والحيوانية. ووفق ما أشار إليه ريتشارد هاس، رئيس “مجلس العلاقات الخارجية” الأميركية، يتمحور النقاش الأساسي حول وجوب اعتبار البرازيل الجهة “المالكة” للغابات المطيرة أو مجرد “وصي” عليها. لا بد من أن يتقبل مزيد من القادة والمجتمعات وجهة نظر ماكرون في مقابل رفض رأي بولسونارو. لا ينبغي أن تشكل السيادة الإقليمية “شيكاً مفتوحاً” في نهب الموارد الجماعية.
كم ثمن كوكب الأرض؟
في الواقع، يبدو ذلك التحول في التفكير معقولاً تماماً. لم تكُن مفاهيم السيادة ثابتة أو مطلقة يوماً، بل إنها موضع نزاع متواصل وتخضع باستمرار للتفاوض والتعديل. وحاضراً، بات الاعتقاد بأن السيادة تنطوي أيضاً على التزامات وامتيازات، يحوز قبولاً واسع النطاق. مثلاً، وفق ما اتفقت الدول الأعضاء كافة في الأمم المتحدة في “مؤتمر القمة العالمي” 2005، تتحمّل الحكومات مسؤولية حماية سكانها من الإبادات الجماعية والفظائع المرتبطة بها. في حال عدم قيامها بذلك، فقد تفقد حقها في تجنب التدخل الأجنبي.
واستطراداً، إن الأزمتين المزدوجتين المتلازمتين، تغيّر المناخ وانهيار التنوع البيولوجي، تقتضيان اللجوء إلى تصحيح مماثل. بموجب المبدأ الدولي الحالي المعروف باسم “قاعدة عدم الضرر”، تتحمل فعلياً كل الدول ذات السيادة التزاماً عاماً بعدم إلحاق الأذى بالبيئة في المناطق الواقعة خارج نطاق سلطتها. في المقابل، ثبت أن هذا القانون عسير على التنفيذ، إذ لا يتوافر إجماع كافٍ حول ما يُعتبر ضرراً بيئياً عابراً للحدود الوطنية، والشكل الذي يجب أن تتخذه التزامات الدولة، ومتى يجب أن يبدأ مفعولها. ونظراً إلى أن المصادر المحتملة للضرر تصبح أكثر تعقيداً، لا تنفك الأسئلة المذكورة آنفاً تزداد صعوبة. وفيما تتفاقم حال الطوارئ البيئية على كوكب الأرض، لا بد من أن تضع البلاد تعريفاً موسعاً للمشاعات العالمية، بمعنى الموارد المشتركة التي تدار كجزء من الإرث المشترك للإنسانية، كي تشمل جميع النظم الإيكولوجية والدورات الطبيعية البالغة الأهمية. كذلك حريّ بالدول أن توافق على نبذ جميع الأنشطة التي تهدد سلامة المحيط الحيوي، وتفتح أبوابها للتدقيق الخارجي، والسماح للآخرين بمراقبة مدى امتثالها والتحقق منه، والخضوع للجزاءات وغيرها من العقوبات، في حال انتهاكها ذلك الالتزام.
على نحو مماثل، تتطلب حماية تلك المشاعات الواسعة فرض رسوم على استخدام الطبيعة. لفترة طويلة جداً، استثمر البشر بسهولة في رأس المال المنتج (المباني والطرق والآلات والبرمجيات) ورأس المال البشري (التعليم والرعاية الصحية)، لكنهم كانوا يستهلكون رأس المال الطبيعي الذي يحافظ على الحياة ويوفر الأساس لكل ازدهار. لقد أخذنا العالم الطبيعي كأمر مسلّم به وافترضنا أن الابتكار التكنولوجي وحوافز السوق، ستحررنا من شح الموارد في كوكب محدود المصادر. لم تعُد تلك التوجهات مقبولة. وفق “برنامج الأمم المتحدة للبيئة” UNEP، تراجع إجمالي مخزون كوكب الأرض من رأس المال الطبيعي بـ40 في المئة لكل فرد منذ عام 1992. وسيتطلب عكس هذا الاتجاه إعادة صياغة الفهم الحالي للثروة كي تشمل قيمة الأصول الطبيعية في العالم، والعدد الذي لا يحصى من المنافع التي توفرها. في يناير (كانون الثاني) 2020، قدّر “المنتدى الاقتصادي العالمي” أن أكثر من نصف الناتج العالمي، أي 44 تريليون دولار سنوياً، يعتمد بشكل كبير أو معتدل على فوائد الطبيعة التي تتعرّض لخطر متزايد. وكشفت دراسة أخرى، نُشرت في 2014، أن القيمة الإجمالية السنوية لخدمات النظام البيئي للكوكب كتنقية المياه وتدوير المغذيات وتلقيح النبات وعزل الكربون، وما إلى ذلك، تتراوح بين 125 و145 تريليون دولار.
ومع ذلك، يبدي معظم دعاة حماية البيئة رفضهم لوضع قيمة نقدية للطبيعة، متذرعين بقيمتها الجوهرية. في المقابل، يؤدي الإحجام عن ذلك إلى تشجيع الشركات والأفراد على اعتبار خدمات النظام الإيكولوجي أمراً مفروغاً منه، واستغلالها حتى الاستنفاد. وتأتي النتيجة على هيئة انهيار السوق في شكل تكاليف بيئية لا يتحملها المشاركون بل المجتمع ككل في أي تبادل معين (ما يُسمّى بلغة الاقتصاديين بـ”عوامل خارجية سلبية”).
واستكمالاً، تتمثّل إحدى المشكلات ذات الصلة في حقيقة أن الناتج المحلي الإجمالي، علماً أنه المقياس التقليدي للثروة والتقدم، لا يراعي رأس المال الطبيعي، ما يجعله مؤشراً ضعيفاً للرفاه والقدرة الإنتاجية، في المنظور الطويل الأجل. ويتوجب على المجتمع الدولي العمل على وضع مقاييس تأخذ في الاعتبار الأصول البيئية. أصدرت 89 دولة تقريباً، من بينها كل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، حسابات رأس المال الطبيعي بهدف تتبّع تلك الأصول وتعزيز الشفافية في ما يتعلق باستخدامها. وعلى الولايات المتحدة أن تحذو حذوها.
في الإطار ذاته، على الحكومات أيضاً اعتماد أنظمة وإنشاء حوافز للشركات لتحمّل التكاليف البيئية الناجمة عن سلوك سوقها، بدلاً من إلقائها على عاتق المجتمع. وقد قدّرت الخبيرة الاقتصادية بارثا داسغوبتا أن التكلفة العالمية السنوية لجميع الإعانات المضرة بالبيئة (من بينها مجالات الزراعة ومصايد الأسماك والوقود والمياه) تتراوح بين أربعة وستة تريليونات دولار. على النقيض من ذلك، لا تخصص الحكومات سوى 68 مليار دولار سنوياً لمصلحة الاستدامة والحفاظ على البيئة عالمياً، ما يعادل تقريباً النقود التي ينفقها مواطنوها سنوياً على تناول الآيس كريم. يمكن للسلطات الوطنية أيضاً استخدام الضرائب والرسوم حرصاً على أن تُعبّر أسعار السلع والخدمات بدقة عن القيمة الاجتماعية للأصول الطبيعية التي ينطوي عليها إنتاجها. وكذلك يمكنها استخدام آليات السوق الموجّهة إلى كل قطاع على حدة، بغية التشجيع على الأخذ بأساليب الحفاظ على البيئة. مثلاً، يمكن لتدابير كمخططات تقاسم المَصيد، بمعنى أن تتمتع المجتمعات بحق مضمون في اصطياد عدد محدود من الأسماك ضمن منطقة معينة، ما يمكّن من مكافحة الصيد الجائر بشكل فاعل.
في نفس مشابه، يساعد وضع إطار متين بشأن احتساب رأس المال الطبيعي في إيجاد مسوغات عن دفع تعويضات للبلاد النامية التي هي غنية بالتنوع البيولوجي، كبوليفيا وإندونيسيا، من أجل حماية أو استعادة النظم الإيكولوجية المحلية والخدمات التي تقدمها. تذكيراً، نجد تجارب سابقة صغيرة النطاق لهذا النوع من الاستثمار، على غرار دفع السلطات الأموال لمالكي الأراضي بغية استخدامها في الحفاظ على المستجمعات المائية، أو منحها إعفاءات ضريبية للمزارعين ممن يزرعون غطاء من المحاصيل تفيد في التقاط الكربون [من الهواء]. في المقابل، تبذل حاضراً جهود دولية على قدر أكبر من الأهمية، إذ تعكف إدارة بايدن، مثلاً، على التفاوض بشأن صفقة بمليارات الدولارات مع البرازيل، ترمي إلى الحفاظ على جزء من غابات الأمازون المطيرة.
كذلك من الضروري أن يؤدي النظام المالي العالمي دوراً أكبر في عملية الإشراف البيئي. تتجه هيئات تنظيمية مالية وطنية، من بينها “هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية” SEC، نحو إلزام الشركات الكشف عن بيانات بشأن التعرّض لمخاطر المناخ كي يكون المستثمرون واعين بهشاشة الشركات إزاء الصدمات البيئية في كوكب يتزايد احتراراً. الآن، تحث مؤسسات مالية دولية عدة، من قبيل “صندوق النقد الدولي” و”البنك الدولي”، الحكومات الشريكة على إعداد قوائم جرد للأصول الرأسمالية الطبيعية لديها واعتماد سياسات وقوانين تحميها. كذلك يشهد القطاع الخاص تغييراً جذرياً. فقد قدمت “بلاك روك” و”غولدمان ساكس”، وغيرهما من الشركات الفاعلة الكبرى تعهدات بإدماج نهج الاستدامة في قراراتها الاستثمارية. غير أن التحدي العملي، بطبيعة الحال، يكمن في التمييز بين استجابات الشركات ذات المصداقية، وبين حملات الغسل الأخضر، المهمومة بمجرد تلميع الصورة العامة للشركة. يمكن لمنظمات الدفاع عن البيئة، كـ”غرينبيس” (السلام الأخضر) و”مجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية” NRDC، أن تساعد في خضوع الشركات للمساءلة عبر فضح الالتزامات والوعود الجوفاء وتصعيد شبح لجوء المستهلكين إلى المقاطعة، وغيرهما من أشكال النشاط المدني، بغية إقناعها بأن الإضرار بالطبيعة يمثل تهديداً لأرباحها النهائية.
لا يمكن لسياسة كوكبية أن تنجح من دون وجود مؤسسات متعددة الأطراف وحوكمة عالمية يمكنها تعزيز التعاون الدولي غير المسبوق الذي تتطلبه أزمات المناخ المتشابكة والتنوع البيولوجي، إذ تتمثّل الأولوية الأكثر إلحاحاً والقريبة المدى، في سد الفجوة الواسعة بين عملية التفاوض غير المتسقة التي تستضيفها الأمم المتحدة، وبين الواقع الصارخ الذي حددته “الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ” الذي يظهر تصوراً عن اندلاع احترار كارثي ما لم يتخذ العالم خطوات فورية وحاسمة بخفض مستويات انبعاثات غازات الدفيئة. ولكن، لا يمكن للعالم أن يتصور أبداً أنه سيكون مستطاعاً تلبية أهداف الانبعاثات الواردة في “اتفاق باريس للمناخ” الذي عقدته الأمم المتحدة في 2015، من دون توظيف استثمارات ضخمة في النظم البيئية البرية والبحرية القادرة على العمل كمخازن للكربون. بناءً على ذلك، على الحكومات أن تجعل توسعة نطاق مخازن الكربون جزءاً أساسياً من مساهماتها في أهداف “اتفاق باريس”.
في سياق متصل، تمثل التجارة مجالاً آخر ينبغي أن تتأقلم معه الحوكمة العالمية. قد يكون أحد المسارات التي تدفع تلك العملية إلى الأمام، متمثلاً في إصلاح قواعد التجارة العالمية، بما يعطي البلاد الملتزمة عملية إزالة الكربون امتيازاً على نظيرتها المتمسكة بممارسة الأعمال التجارية على النحو المعتاد، من دون أن تعترض طريقها “منظمة التجارة العالمية” WTO. سيتجسّد الحل الأكثر فاعلية في أن يتبنى أعضاء تلك المنظمة إعفاءً مناخياً شاملاً، يسمح بما يُسمّى بـ”تعديلات حدودية” للكربون في شكل ضرائب مفروضة على الواردات وإعفاءات على الصادرات. بالتالي، سيسمح هذا الإجراء لدول الاتحاد الأوروبي، مثلاً، فرض جزاءات مالية على واردات الإسمنت الكثيف الكربون من روسيا وتركيا، ومكافأة الشركاء التجاريين الآخرين الذين يستخدمون أساليب في إنتاج الإسمنت أكثر مراعاة للبيئة. من شأن ترتيب على تلك الشاكلة أن يشجع على تشكيل “نوادٍ مناخية”، تتألف من دول ملتزمة خفض انبعاثات الكربون، وتستحق تالياً معاملة غير تمييزية.
المضي قدماً
كذلك ستحتاج نماذج التنمية بدورها إلى نقلة نوعية. إن البلاد الفقيرة سيلزمها دعم الشركاء الدوليين كي تتوصل إلى سياسات وهياكل تحفيزية من شأنها تشجيع الجهات الفاعلة والمجتمعات الخاصة في الحفاظ على الطبيعة. غالباً ما تضر الصناعات الاستخراجية كالأخشاب والتعدين، في النظم البيئية للدول النامية التي تعتمد على تصدير السلع الأولية ولديها أنظمة بيئية هشة. وعادة ما يلحق الضرر بالسكان المحليين وليس الشركات أو المستهلكين. يمكن لـ”البنك الدولي” والجهات المانحة الأخرى تقديم المساعدة التقنية عبر إعطاء الحكومات في البلدان النامية صورة دقيقة حول التكاليف الكاملة لمثل ذلك التدهور البيئي كي تكون قادرة على البدء بمحاسبة الشركات المسؤولة وإجبارها على تحمّل عبء تلك الخسائر. أخيراً، يمكن للولايات المتحدة والدول الغنية الأخرى أن تشجع على التنمية الصديقة للبيئة عبر تخصيص حصة أكبر من المساعدات الثنائية والمتعددة الأطراف، للجهود العالمية في الحفاظ على البيئة، وبشكل أعم، ربط مساعدتها بسياسات بيئية مستدامة، تماماً على غرار ما تفعله “مؤسسة تحدي الألفية” الأميركية التي تضع الحوكمة الرشيدة شرطاً في الاستفادة من مواردها المالية.
في الوقت ذاته، يتوجب على البلاد أن تعزز الإطار القانوني الدولي في حفظ التنوع البيولوجي، لا سيما “اتفاقية التنوع البيولوجي” المتعددة الأطراف. وعلى الرغم من أنها لم تنجح في إبطاء وتيرة فقدان النظم البيئية والأنواع الحيّة، يلوح في الأفق بصيص أمل. في أواخر 2020، أنشأت كوستاريكا وفرنسا فريقاً حكومياً دولياً يُعرف باسم “تحالف الطموح العالي من أجل الطبيعة والبشر”، يسعى إلى توفير حماية دائمة لـ30 في المئة من سطح الكوكب الأرضي والبحري مع حلول 2030. ومنذ ذلك الحين، التزمت عشرات الحكومات ما يسمّى بـهدف “30 x 30” الذي من المقرر الموافقة عليه أثناء مؤتمر “اتفاقية التنوع البيولوجي” في ربيع 2022. سبق أن تبنّت إدارة بايدن بالفعل “30 x 30” كهدف متوخى محلياً، لذا لا سبب يمنعها من الانضمام إلى الحملة العالمية. كذلك عليها أن تنهي الوضع الخارجي للولايات المتحدة باعتبارها الدولة الوحيدة في العالم التي رفضت التصديق على “اتفاقية التنوع البيولوجي”، وذلك عبر تقديمها إلى مجلس الشيوخ الأميركي بغرض الحصول على مشورته وموافقته.
في مسار متصل، يجب أن تعمل إدارة بايدن أيضاً على التخطيط لنهاية ناجحة لـ”اتفاقية الأمم المتحدة للتنوع البيولوجي في أعالي البحار”، علماً أنها حالياً في المراحل النهائية من المفاوضات. ستنشئ الاتفاقية إطاراً للحفاظ على الموارد البحرية الحية والنظم الإيكولوجية التي تقع خارج نطاق السلطات القضائية الوطنية، وإدارتها بشكل مستدام، مع الإشارة إلى أنها مشاع عالمي واسع يمثل 43 في المئة من سطح الكوكب. تُعدّ أعالي البحار مصدراً رائعاً للتنوع البيولوجي، وتشكل درعاً للبشرية في مواجهة أسوأ آثار تغيّر المناخ، وذلك عبر امتصاص كميات هائلة من الحرارة وثاني أكسيد الكربون. في المقابل، إن سلامتها آخذة في التدهور بشدة، إذ تتيح التكنولوجيات الجديدة استغلالها على نحو غير مسبوق، في حين لا توفر لها مجموعة من القوانين المتشابكة الحماية اللازمة. وتبرز المفاوضات المطولة والخلافات المستمرة حول تفاصيل تلك الاتفاقية، التحديات المتضمنة في التعاون الدولي. لكن واشنطن قادرة تماماً على التوسط من أجل إبرام اتفاقات بشأن قواعد جديدة تنظم المناطق البحرية المحمية وإجراء تقييمات للأثر البيئي وتقاسم المنافع من الموارد الجينية البحرية.
أخيراً، على الولايات المتحدة أن تقدم دعمها لـ”الميثاق العالمي للبيئة”Global Pact for the Environment ، الذي ما زال موضوع مناقشات الأمم المتحدة منذ 2018، وسيساعد في تحقيق الاتساق في النظام القانوني المجزأ لحماية البيئة. خلافاً لنظام التجارة العالمي، الذي يمنح “منظمة التجارة العالمية” مكانة الصدارة بوصفها جهة تضع القواعد وتصدر الأحكام، لا يتوافر إطار قانوني دولي شامل أو منظمة تدير المسائل البيئية العالمية. بدلاً من ذلك، نجد أن مئات المعاهدات المتعددة الأطراف المتداخلة والمتضاربة، تنكب على تعزيز التعاون بشأن قضايا محددة كالأنواع الحية المهددة بالانقراض والنفايات الخطيرة، كما لو أنه من المستطاع معالجة كل واحدة من الشواغل البيئية على حدة بشكل فاعل. واستطراداً، سيعمل “الميثاق العالمي للبيئة” على تقنين التزام سيادي بغية التأكد من أن الإجراءات الحكومية والخاصة لا تضر البلاد الأخرى أو المشاعات العالمية، إنما تؤسس لحق إنساني أساسي في بيئة نظيفة وصحية. من شأن “الميثاق العالمي للبيئة” أن يرفع مستوى الوقاية ويتيح قدراً من العدالة التعويضية، عبر تأييد مبدأ قوامه أنه يتوجب على الجهات التي تتسبب بالتلوث دفع ثمن التدهور البيئي. وبغية محاسبة الحكومات، سيشمل الميثاق أحكاماً تتضمن تقارير تقدم دورياً، وتضع قواعد بشأن المسؤولية، وتطرح آليات للحل السلمي للنزاعات البيئية العابرة للحدود.
على الرغم من أنها حظيت بدعم دولي كاسح، انهارت المفاوضات المتعددة الأطراف بشأن “الميثاق العالمي للبيئة” في ربيع 2019، ويعزى ذلك جزئياً إلى معارضة إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب. بالتالي، يجب على إدارة بايدن التنصل صراحة من موقف سابقتها، والمشاركة في الجهود المبذولة داخل “منظمة الأمم المتحدة للبيئة” للتفاوض على إعلان سياسي غير ملزم بشأن البيئة العالمية كتوطئة لاتفاق عالمي نهائي. واستطراداً، يُظهر مثال “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948، الذي شكّل مصدر إلهام في صياغة عشرات المعاهدات، أنه حتى الإعلانات غير الرسمية في وسعها أن تضع أساساً مهماً لإعداد اتفاقات دولية ذات طابع أكثر رسمية.
وبالتأكيد، ينبغي ألا تساور المرء أي أوهام بشأن العقبات التشريعية المهولة التي تقف في طريق تصديق الولايات المتحدة الأميركية على “اتفاقية التنوع البيولوجي”، علماً أنها اتفاق دولي بشأن حماية التنوع البيولوجي في أعالي البحار، أو “الميثاق العالمي للبيئة”. معلوم أن الولايات المتحدة غالباً ما اختارت الانسحاب من المعاهدات، وحتى المعاهدات التي قادتها وصاغتها لم تكثن بمنأى عن ذلك، في نزعة ربما تشجعها الانقسامات الأيديولوجية الحزبية الشديدة القائمة اليوم. ومع ذلك، فإن التجربة المستقاة من “اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار” UNCLOS التي أيدتها الولايات المتحدة وتعتبرها الآن غالباً قانوناً دولياً عرفياً (على الرغم من أنها لم تصدق عليها)، تشير إلى أنه يتوجب على إدارة بايدن اغتنام تلك الفرصة من أجل الإسهام في تشكيل الإطار القانوني في التعاون البيئي الدولي.
رأب الفجوة
تشكّل حال الطوارئ البيئية العالمية أعظم تحدٍ واجهناه على الإطلاق في إطار العمل الجماعي. وستتطلب إعادة التوازن للبشرية مع المحيط الحيوي للأرض تحولاً جوهرياً في الكيفية التي صيغت بها سياسات السياسة الخارجية ومقاصدها. وفي الحقيقة، سيقتضي الأمر إعادة تصور لمكانتنا على الأرض.
انظروا إلى الأطالس التي نستخدمها في تصوير كوكبنا. تبدأ عادة بخريطتين مميزتين. الخريطة الأولى، الجيوفيزيائية، تصور العالم في حالته الطبيعية، كاشفة عن مجموعة مذهلة من مناطق بيولوجية ونظم بيئية تشمل غابات مطيرة ومناطق سافانا، وسهوب وغابات تايغا، وجبالاً وأنهراً جليدية، ووديان أنهر وصحاري، وقمماً جليدية وسهول تندرا، وجزراً وحواجز مرجانية بعيدة، وجروفاً قارية وخنادق في أعماق البحار، تتداخل وتتشابك مع بعضها بعضاً. أما في الخريطة الثانية، الجيوسياسية، فيتبدّى سطح الأرض منحوتاً في وحدات إقليمية مستقلة محددة بخطوط دقيقة، كل منها ملونة على نحو يميزها عن جيرانها.
تشكل الخريطة الأولى تمثيلاً دقيقاً للكوكب. أما الخريطة الثانية، بحدودها المصطنعة، فتبدو أشبه بعمل من وحي الخيال، ومع ذلك يميل الناس إلى إعطائها قدراً أكبر من الأهمية. فرضت أزمة المحيط الحيوي للأرض تصادماً بين الخريطتين المذكورتين، فاضحة التوتر بين عالم طبيعي متكامل من جهة، ونظام عالمي منقسم من جهة أخرى، ما يتطلب منا التوفيق بين الجانبين.
لن تبرح السيادة الوطنية مكانها، بيد أن نهجاً دولياً جديداً يمكن أن يساعد في تقريب المسافة بين العالم السياسي ونظيره الطبيعي. إذا لم تفضِ أزمة بتلك الجسامة إلى إعادة تشكيل الكيفية التي تصوغ فيها البلاد مصالحها الوطنية، أو تعريفاتها المتعلقة بالأمن الدولي، أو مقارباتها للاقتصاد العالمي، فلا شيء ربما سيحقق ذلك. لكن هذا المأزق لا يدعو إلى الاستسلام، بل يستصرخ، خلافاً لذلك، الالتزام بدورنا كمسؤولين عن الكوكب الوحيد الذي يضمنا. إنه يستصرخ وضع سياسة كوكبية.
ستيوارت إم باتريك، زميل أول في “معهد جيمس إتش بينغر للحوكمة العالمية” في “مجلس العلاقات الخارجية” Council on Foreign Relations.
مترجم من فورين آفيرز نوفمبر (تشرين الثاني)/ ديسمبر (كانون الأول) 2021
المصدر: اندبندنت عربية