الطلب الذي وجهته إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى إسرائيل لمساعدتها، واستخدام علاقاتها الجيدة مع قائد الجيش السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قائد الانقلاب العسكري أخيرا، لإقناعه بإعادة الحكومة المدنية إلى سدّة الحكم، أمر مثير للاستغراب، ويطرح علامات استفهام كبيرة بشأن قدرة الإدارة الأميركية الحالية على مواجهة أزمات المنطقة وإدارة ملفاتها الشائكة.
قد يكون تنديد الإدارة الأميركية بالانقلاب العسكري، وإعلانها وقف المساعدات المالية للسودان، نتيجة مواقف مبدئية لهذه الإدارة الديمقراطية ضد الانقلابات العسكرية إجمالاً، لكن هذا لا ينسينا أن الإدارة الأميركية الجمهورية في عهد الرئيس دونالد ترامب هي التي دفعت أربعة مليارات دولار للمجلس العسكري في السودان مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وإزالة السودان عن قائمة الدول الداعمة للإرهاب.
توجّهت الإدارة الأميركية بطلب مماثل إلى مصر أيضاَ، وهذا يبدو منطقياً، نظراً إلى علاقات الجوار بين البلدين. ولكن هل تملك إسرائيل قدرة على التأثير فعلاً في العسكر الذين يحكمون السودان اليوم؟ قبل كل شيء، إسرائيل هي من بين الدول التي لم تسارع إلى ادانة الانقلاب العسكري، مثل الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى، وهي تمارس سياسة التكتم الشديد بشأن أي تورّط لها فيه. ومع ذلك، يمكن التوقف أمام أمرين لافتين؛ الزيارة السرّية التي قام بها وفد عسكري سوداني إلى إسرائيل، برئاسة قائد قوات الدعم السريع، حميدتي، في العاشر من الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، برفقة مدير الصناعات الدفاعية، أي قبل أسبوعين من الانقلاب العسكري الذي قام به البرهان، وقيام وفد إسرائيلي، يضم ممثلين عن الموساد (المخابرات الخارجية)، بزيارة سرّية إلى السودان بعد الانقلاب. وإن كان هذا لا يشكّل دليلاً على تورّط إسرائيلي في التطورات التي استجدت أخيرا في السودان، فإنه على الأقل دليل على دور نشط تقوم به إسرائيل في هذا البلد العربي الأفريقي المهم.
ليس خافياً أن إطاحة البرهان الحكومة المدنية التي كان يرأسها عبد الله حمدوك في مصلحة إسرائيل، نظراً للاختلاف في وجهات النظر بينهما من مسألة تطبيع العلاقات مع إسرائيل، فبينما يؤيد البرهان توقيع اتفاقات التطبيع فوراً، كان حمدوك يرى أنه ليس من صلاحيات حكومة موقتة التوقيع على مثل هذه الاتفاقات، ويجب انتظار انتخاب حكومة جديدة في نهاية 2022 للموافقة على هذه الخطوة. ولكن عوامل عديدة أخرى تدفع المسؤولين الإسرائيليين إلى الحرص على علاقاتهم الجيدة مع العسكريين الذين يحكمون السودان اليوم، والتي تأتي بعد تاريخ طويل من العداء الشديد، فقد كان السودان، منذ إعلان استقلاله في 1956، من بين أكثر الدول العربية عداء لإسرائيل التي ردّت على ذلك بدعم استقلال جنوب السودان، وأقامت علاقات وثيقة عسكرية واستخباراتية مع جمهورية جنوب السودان. وخلال السنوات 2009-20015، أقام السودان علاقات وثيقة مع إيران، وتحوّل إلى ممرّ بحري لتهريب السلاح من إيران إلى حركة حماس، ما جعله هدفاَ لضربات جوية إسرائيلية. لكن ذلك كله تبدّل في السنوات الأخيرة لحكم عمر البشير، ومع الانعطافة الجيوسياسية التي قام بها السودان، بتشجيع من السعودية، وانتقاله من التحالف مع المحور الإيراني إلى محور الدول السنية المعتدلة. في 2015، انضم السودان إلى قوات التحالف لقتال الحوثيين في اليمن. وفي 2016 قطع علاقاته بإيران. ترسخ هذا التحول السوداني بعد ثورة الجنرالات على البشير في 2019، وإعلانهم التحالف مع مصر والسعودية والإمارات التي ذكرت مصادر إسرائيلية أنها لعبت دوراً مهماً في اللقاء الذي جرى بين رئيس حكومة الاحتلال السابق بنيامين نتنياهو والبرهان في فبراير/ شباط 2020 في أوغندا. وقد أدّى هذا التقارب إلى إعلان السودان في أكتوبر/ تشرين الأول 2020 موافقته على تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
لا يخفي الإسرائيليون وجود مصالح كثيرة لهم في السودان. هناك الأهمية الاستراتيجية لموقع السودان على البحر الأحمر وحاجة إسرائيل إلى السيطرة على طرق تهريب السلاح من إيران إلى “حماس” في غزة، وإلى الدفاع عن حرية ملاحة سفنها هناك. تضاف إلى ذلك الأهمية الاقتصادية الكبيرة التي يقدّمها السودان للشركات الإسرائيلية في مجالات المياه والطاقة والزراعة والتكنولوجيا. كما أن السودان يشكّل بالنسبة إلى إسرائيل نموذجاً فريداً للدول التي فكّت تحالفها مع إيران، وعملت على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل. وبهذا المعنى، هناك اختلاف في النظرة الإسرائيلية إلى التطبيع مع السودان عن النظرة إلى التطبيع مع دول الخليج، فدول الخليج تعتبر إيران تهديداً خطيراً على أمنها، بينما هذا ليس مطروحاً على السودان.
لهذا كله وغيره، ترغب إسرائيل في المحافظة على إنجازاتها في السودان، من خلال دعمها الخفي للبرهان والمجلس العسكري، ولو تعارض ذلك مع الموقف المعلن لحليفتها الولايات المتحدة، ولو جاء ذلك على حساب الشعب السوداني ونضاله من أجل الديمقراطية وقيام حكومة مدنية.
المفارقة أن البرهان، الذي سعى إلى التطبيع مع إسرائيل للتقرّب من الولايات المتحدة والحصول على دعمها، يجد نفسه اليوم في مواجهةٍ معها، بينما تحولت إسرائيل وسيطا بينه وبين الولايات المتحدة.
المصدر: العربي الجديد